الجذور التاريخية لموالد الأولياء والقديسين في مصر 

عرف تاريخ مصر عبر عصوره المختلفة عددا من الاحتفالات الدينية التي ذابت في نسيج المجتمع، وارتبطت في الأذهان بمظاهر ذات طقوس خاصة تسللت إلى الموروث الشعبي في ثقافة الأمة، واقترنت بتقديم النذور والقرابين تقربا لرموز دينية بعينها في مناسبات أُطلق عليها "الموالد".

ولم تعرف مصر القديمة مصطلح "المولد" بمفهومه المعاصر، بل تشير النصوص المصرية إلى "الاحتفال" أو "العيد"، لاسيما في عصر إمبراطورية الدولة الحديثة، بحسب التقسيم التاريخي لمصر القديمة، فضلا عن "المواكب الدينية" التي كانت تقام تمجيدا للآلهة وتضرعا لها.
وصورت نقوش جدران المعابد المصرية احتفالات بأعياد دينية عديدة، أبرزها على سبيل المثال عيد الإله "مين"، وعيد زيارة الإله آمون لمعبد الأقصر، الذي كان يطلق عليه عيد "أوبت" الكبير، ويوافق خروج موكب الفرعون، تتقدمه القرابين التي يعتزم الكهنة ذبحها في هذه المناسبة. في حين تنقل سفن عبر نهر النيل عددا من الكهنة، يرافقون سفينة تحمل "هيئة" الإله آمون في أبهى زينة، إلى أن ينتهي الموكب الاحتفالي في المعبد وتقدّم القرابين.ودخل الإسلام مصر عام 642 ميلاديا بثقافة الاحتفالات الدينية المجردة من تقديس أشخاص، تمثلت في مناسبة دينية محددة، كالاحتفال الرمزي بشهر رمضان، وعيدي الفطر والأضحى، إلى أن تولى الفاطميون حكم مصر وأسسوا فيها خلافتهم عام 969 ميلاديا، فأدخلوا ثقافة الاحتفالات الشعبية والدينية، كان من بينها الاحتفال بأولياء الله، "الموالد"، وأعياد أقيمت من منطلق الدعاية للدولة الفاطمية وحكامها.
وعلى الرغم من أن مصطلح "المولد" يُقصد به الاحتفال بيوم ميلاد شخص كما يتضح من لفظه معجميا، إلا أن الغاية الرئيسية منه تمثلت - ولا تزال - في تمجيد شخصية دينية وإحياء ذكراها، بغض النظر عن مراعاة تقويم بعينه يحدد ميلاده بدقة. كما يهدف إلى ترويج الاعتقاد في شخص الولي أو القديس، استمرارا للترابط بين المعتقد الشعبي والشعائر الدينية المقدسة."موالد الأولياء"
وتنظر الثقافة الشعبية للولي على أنه حلقة وصل بين حياة وموت، لأنه حي في الفكر الجمعي، على الرغم من موته في عالم الواقع، يتصلون به من خلال زيارة قبره أو رؤيته في الأحلام، كما يعتقدون في أن خوارقه، التي يطلقون عليها "كرامات"، تمنحهم الغلبة على العجز والمرض، أو تأمينهم من مصير مجهول في المستقبل. لذا، يحرصون على إحياء سيرته ومناقبه بالاحتفال بمولده و"التبرك" بزيارته.

ومع دخول المسيحية مصر، في منتصف القرن الأول الميلادي، أخذت الاحتفالات الدينية شكلا جديدا عُرف بأعياد القديسين، من منطلق تكريم شخصية حملت صبغة القداسة في الوعي الجمعي لأفراد يعتقدون فيها، ويقيمون لها الصلوات مع ذكر معجزاتها وسيرة حياتها، وتقديم النذور والشموع والذبائح لإطعام الفقراء، كي "تشفع" لهم عند الله لقضاء حاجتهم.

أصبحت المعتقدات الخاصة بالأولياء جزءا من الثقافة الشعبية المصرية، الشفهية والمكتوبة، التي تجسد عالما ماديا وروحيا لشخص تحول إلى رمز ديني لدى جماعة محلية، اعتمادا على إيمان هذه الجماعة بقدراته الخاصة في تحقيق "خوارق" في بيئتها.

أصبحت المعتقدات الخاصة بالأولياء جزءا من الثقافة الشعبية المصرية، الشفهية والمكتوبة ويصعب تقسيم "الموالد" في مصر، إلا أنه يمكن تصنيفها بحسب أهميتها الدينية وحجم الاحتفال بها، كموالد أولياء "كبرى"، مثل موالد الحسين، والسيدة زينب، والسيدة نفيسة في مدينة القاهرة، وموالد بعض أولياء رجال الصوفية، مثل مولد المرسي أبو العباس في مدينة الإسكندرية، ومولد السيد أحمد البدوي في مدينة طنطا، ومولد السيد إبراهيم الدسوقي في مدينة دسوق، وهي موالد عامة لا يقتصر الاحتفال فيها على أتباع بعينهم، بل يشارك فيها الجميع، ومنهم من يأتي من مدن أخرى للاحتفال، وذلك مقارنة بموالد "صغرى" يُحتفل بها على نطاق ضيق في قرى متفرقة في شتى أرجاء مصر. وتعد قدرة الولي على إظهار "كراماته"، التي تختلف إصطلاحا عن "معجزات" الأنبياء، علامة على مكانته كولي عند الناس، وتنطوي فكرة زيارة ضريحه على مفهوم "التبرك"، وغالبا يرتبط كل إنسان بولي معين يعتقد فيه وفي كراماته، وإن كان هذا لا يمنع من ارتباطه بعدد من الأولياء الآخرين يحتفل بموالدهم.ويحرص المحتفلون على تقديم أطعمة معينة في هيئة "نذور" يقدمونها لبعض الأولياء، ترتبط عند الناس بحوادث معينة، مثل تقديمهم "الفول النابت" خلال الاحتفال بمولد السيدة زينب، و"العدس" في الاحتفال بمولد الحسين، و"الخبز" في الاحتفال بمولد السيد أحمد البدوي.

 

وتستوعب الموالد عناصر دينية وغير دينية، تلبي اهتمام المحتفلين بمختلف أعمارهم، وتتميز بمظاهر شعبية خاصة مثل "الزفّة"، أو ما يعرف بموكب الخليفة، إلى جانب حلقات ذكر القرآن، وخدمة المولد، والسوق، والألعاب، وسهرة المولد الكبرى التي يُطلق عليها "الليلة الكبيرة".
وتقام سرادقات كبيرة، كما يحدث في احتفالات مولد السيدة زينب في مدينة القاهرة على سبيل المثال، يجتمع فيها زوار المولد و"المريدون" لكراماتها، فضلا عن إقامة سرادقات تحمل لافتات طرق صوفية دينية تشارك في الاحتفال، مثل الطريقة "الأحمدية"، و"الشاذلية"، و"البراهمية"، و"الرفاعية"، إذ تجتمع كل طريقة بأتباعها في حلقات ذكر القرآن، مع الوقوف في صفوف متقابلة أو دائرية، مرددين عبارات دينية وأدعية.

تقام سرادقات كبيرة يجتمع فيها زوار المولد و"المريدون" في حلقات للذكر والقرآن وبعيدا عن المظاهر الدينية، يعتبر المولد مناسبة تجارية هامة لبيع شتى البضائع من خلال سرادقات بيع الحلوى، واللعب، والأطعمة الشعبية، والحلي المصنوعة من المعادن الرخيصة، والتذكارات، والملابس، فضلا عن افتراش الفقراء من الباعة أرض الاحتفال بالمولد لبيع ما لديهم في هذه المناسبة. وتتميز الموالد الشعبية أيضا بمظاهر ترفيهية، كالسرادقات التي تقدم فقرات غنائية دينية، أو فقرات راقصة وألعاب، مثل ألعاب الحظ والرهان، وكذا منصات لتقديم عروض مسرحية شعبية، أبرزها عروض بالدمى أو "الأراجوز"، والملاهي الشعبية التي تجذب الأطفال، والتي لا تخلوا أيضا من بعض الكتابات الدينية والأدعية على الألعاب في مزيج يجمع الديني بالترفيهي.

تتميز الموالد الشعبية أيضا بمظاهر ترفيهية
وتعرضت الممارسات الشعبية حول أضرحة الأولياء خلال الموالد إلى معارضة شديدة بين الحين والآخر، من بعض الجماعات الأصولية، استنادا منهم إلى بعض الأحاديث النبوية، ووصفها بأنها "بدع" لا تمت للدين الإسلامي بصلة. لذا، جنح المعتقد الشعبي إلى اختصار بعض الطقوس تجنبا لمعارضة التيارات الإسلامية، فانتخب نوعا من الممارسات اقتصرت في بعض الأحيان على ذكر القرآن، وتحريم الطواف حول الأضرحة لكونها من طقوس الحرم المكي وحده.
كما دمجت بعض القرى الاحتفال بعدد من الأولياء في محيط القرية والقرى المجاورة في مولد واحد كبير، تجنبا لمعارضة أصحاب الآراء المعارضة لإقامة الموالد، بل ربطوا أحيانا الاحتفال بمولد معين باحتفالات العيد القومي للمدينة.

"موالد القديسين" 

دخلت المسيحية مصر على يد "القديس الشهيد" مارمرقس في منتصف القرن الأول الميلادي، واستشهد في عام 68 ميلاديا، وبدأت حركات اضطهاد عنيفة، استهدفت المسيحيين منذ نهاية القرن الثاني الميلادي وبداية القرن الثالث في عهد الإمبراطور "سيفيروس ألكسندر" (191-211 ميلاديا).

وكانت أعنف حركات الاضطهاد في عصر الإمبراطور دقلديانوس (284-305 ميلاديا)، لذا جعلت الكنيسة المصرية بداية تقويمها عام 284 ميلاديا، وأُطلق عليه "تقويم الشهداء"، واستمر الاضطهاد إلى أن توقف في عهد الإمبراطور قسطنطين الأول (323-337 ميلاديا) واعتناق الإمبراطور المسيحية.

أصبح شهداء المسيحية موضع تكريم من الشعب، وأقيمت كنائس وأديرة تحمل أسماءهم، كما آمن كثيرون بـ "آلام الشهداء" وموتهم، والمعجزات التي صاحبت استشهادهم بحسب تواتر القصص عبر الأجيال، فقدمت المسيحية نظرة جديدة للآلام، ارتبطت روحيا بمحبة السيد المسيح، وكُتبت العديد من قصص الشهداء في الأدب القبطي والسرياني.
ويطلق لفظ "قديس" في المسيحية الأرثوذكسية على كل من يحيا حياة الإيمان، وكل من ارتقى روحيا وظهرت له "معجزات"، مثل السيدة العذراء، والملاك ميخائيل، والأنبا أنطونيوس، والأنبا بشوي، أو يطلق على شهداء مثل مارجرجس، والقديسة دميانة. ولا يوصف الشخص بالقديس إلا بعد مرور 50 عاما على وفاته على الأقل.

المصدر: وائل جمال الدين بي بي سي - القاهرة
ahmedsalahkhtab

أحمد صلاح خطاب

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 209 مشاهدة
نشرت فى 16 سبتمبر 2021 بواسطة ahmedsalahkhtab

أحمد صلاح خطاب

ahmedsalahkhtab
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

613,540