أطلقت جهات دينية يهودية متطرفة مشروعا يهدف إلى إيجاد وسائل بغية اقتسام الأماكن الدينية في المدينة المقدسة ، بما فيها الحرم القدسي الشريف ، والمقصود هنا المسجد الأقصى المبارك ، وقبة الصخرة المشرفة . وفي هذا الصدد فإن المسلمين في كافة أرجاء المعمورة بعامة ، والفلسطينيين بخاصة يرفضون بشدة هذا المشروع ، ويرفضون الإدعاء بأن المسجد الأقصى المبارك ، ومسجد قبة الصخرة المشرفة قد أقيما في القرن السابع الميلادي مكان الهيكل اليهودي .

والقدس بأقصاها المبارك ، وقبة صخرتها المشرفة تحتل مكانة ذات خصوصية وتميز في مجمل التاريخ العربي الإسلامي انطلاقا من بداياته ومرورا باللحظات الراهنة التي لا تنتهي عند حد مستقبلي . فالتاريخ الإسلامي بدون القدس يكون مبتورا ، ويفقد إحدى الإضاءات الأكثر إشراقا في فضاءاته .

إن القدس ليست مجرد جغرافيا إسلامية كبقية الجغرافيات الممتدة على القارات التي بسط الإسلام نفوذه عليها . إنها جغرافيا لها قداستها الخاصة منذ أن أسرى الرسول الكريم (ص) إليها ، وعرج منها إلى السماء ، ومنذ أن كانت قبلة المسلمين الأولى ، وأقيم على ثراها المبارك ثالث الحرمين الشريفين . فهي بحق منظومة عريقة من تراث العقيدة ، وأمجاد التاريخ ، وأصالة الجذور .

وإذا كانت القدس تمثل كل هذه الرموز والمفاهيم والمعطيات على مر العصور ، فإن إثارة مثل هذا المشروع الذي يهدف إلى تقاسم أماكنها المقدسة ، بحجة أنها ما كانت في يوم من الأيام عاصمة لدولة إسلامية ، هو في حقيقة الأمر لا يشكل أية حجة قانونية لأي كان ، ذلك أن كلا من القدس الشريف ومكة المكرمة الأكثر قداسة عند المسلمين كانتا فوق الإعتبارات الدنيوية والسياسية بالذات ، لكنهما ظلتا تتمتعان بمكانتهما الدينية التي لا تجرؤ أية جهة أن تستهين بهذا التوجه الإسلامي المنطلق من العقيدة أو تقلل من أهميته .

إضافة إلى كل هذا ، ففي ما يخص القدس فلدى دراسة أحيائها وساحاتها وحاراتها وطرقاتها ومساجدها ومبانيها ومرافقها الأخرى ، فإنها تشهد بما لا يدع مجالا للشك ، أنه ما من خليفة أو سلطان أو أمير أو وال أو قائد إسلامي على مر العصور ، إلا وحرص حرصا شديدا أن يكون له شرف إضافة مجيدة لأقصاها المبارك ، ومسجد صخرتها المشرفة ، ناهيك عن غالبية مرافقها الأخرى التي ما زالت شاهدا عليها ما تحمله من أسماء وتواريخ وأحداث ، وما تتوارثه الأجيال من ذكريات تضحيات تجلت يوم سقطت القدس في أسر الصليبيين طيلة قرنين من الزمان ، فظلت جرحا نازفا في قلب الأمة الإسلامية ، وأرقا ماثلا في ذاكرتها حتى كان يوم تحريرها .

إن هذا الحديث عن القدس من منظور عقائدي وتاريخي وثقافي ما هو إلا مقدمة لا بد من الإستهلال بها . فالقدس أيضا وفي هذا الزمان بالذات تؤكد أن العقيدة والتراث التاريخي ما زالا بخير ، وأن الذين راهنوا على انغماس العالمين العربي والإسلامي في الماديات الدنيوية ، والإتجاهات الثقافية الحداثية التي لا تقيم وزنا للثقافة الإنتمائية العقائدية ، قد حادوا عن جادة الصواب ، وتؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنهم خسروا الرهان . إن أصحابها الشرعيين يهزأون بهذه التصورات الواهمة والتخيلات المريضة والأماني الشريرة ، ويختزنون موروثا من العقيدة قادرا على تقويم مسار تاريخ القدس الذي اعوج حينا من الزمن وإن طال مداه .

على الصعيد الفلسطيني فان القدس أمانة عقائدية وتاريخية ووطنية في أعناق الفلسطينيين الذين لا يمكن – مهما جنح الخيال بالغزاة القابضين عليها – أن ينسلخوا عن عقيدتهم وتاريخهم وتراثهم المشترك وأمتهم أو أمانيهم الوطنية فيها . كما ولا يمكن أن يفرطوا بهذه الأمانة التي حافظوا عليها طوال القرون أو أن يجيروا مساحة ما من عقيدتهم وتاريخهم وتراثهم لأي كائن مهما كانت الظروف ، أو أن يقبلوا أن يشاركهم في مقدساتها أي شريك .

إن الحديث عن القدس ذو شجون وأشجان ، ذلك أن راهنها هذه الأيام يستحوذ على تفكير الفلسطينيين القيمين عليها ، وهم الذين وضعوا قضيتها في كفة ميزان ومجمل العملية السلمية في الكفة الأخرى . فالطروحات المشبوهة والمشروعات الإستفزازية التي تتصف بالسطحية وتشتم منها رائحة الإحتيال ومحاولة التخلص من هموم عدم الإعتراف القانوني الدولي ، وإفرازات ما آلت إليه أحوالها منذ العام 1967 على الساحات الفلسطينية والعربية والإسلامية  والدولية .

إن كل هذا وذاك قد أصبح في مهب إصرار أصحابها الشرعيين الذين انتظروا اللحظة المناسبة ليقولوا ” لا ” لغير استردادها ، وهم بذلك إنما ينطلقون من حقهم فيها . وفي ما يخص الشرعية الدولية بحق القدس ، فعلى سبيل الذكرى فان الأمم المتحدة لم تعترف بقرارها (181) بأية سيادة إسرائيلية على القدس .

وفي العام 1967 صدر القرار (242) عن الأمم المتحدة مؤكدا أن الأراضي العربية – والقدس بطبيعة الحال جزء منها – أراض محتلة ويجب إعادتها إلى أصحابها الشرعيين . وقد تم ذلك فعلا إعادة جزء من هذه الأراضي في اتفاقيات السلام مع مصر والأردن ، والإنسحاب غير المشروط من الأراضي اللبنانية .

وحقيقة الأمر إن الإحتلالين في العام 1948 و1967 لم ولن يقدرا أن يطويا صفحتي القدس الغربية والشرقية . ففي ما يخص القدس الغربية ، فان السجلات الرسمية تؤكد أن ما يقرب من “70-80 % “ من أراضيها ومرافقها الأخرى هي وقفيات إسلامية لا تسقط ملكيتها بالتقادم .

أما ما يخص القدس الشرقية ، فقد تعرضت منذ احتلالها إلى عمليات تهويد جغرافية وديموغرافية لم تشمل ضواحيها فحسب وإنما امتدت أيضا إلى قلبها ، ناهيك عن عمليات مصادرة البيوت وتفريغ المدينة من السكان بمصادرة هوياتهم ، وهدم منازلهم . ولعل أخطر هذه العمليات تمثلت في توسيع مساحتها بهدف قضم أراض فلسطينية وضمها لها بغية إحاطتها بشريط استيطاني يعمل على تهويدها ، وخلق ما يسمى ” بالقدس الكبرى “  بغية تحقيق هدف يتصف بالسذاجة والخبث معا يتمثل في حلول تقوم على ” التنازل “ عن أجزاء من هذه ” القدس الكبرى” التي لا تمت إلى القدس الحقيقية بصلة .

لقد ظلت القدس بالنسبة للفلسطينيين قضية ذات أبعاد متعددة .  فإلى جانب كونها عاصمة سياسية لدولتهم الفلسطينية العتيدة التي يصرون أن تتبوأ مكانها على خارطة العالم السياسية ، فهي قبل هذا وذاك عاصمتهم وعاصمة أشقائهم الروحية في العروبة والإسلام . وحسبها أنها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ، ومسرى الرسول الأعظم محمد صلّى الله عليه وسلم ، ومنها عرج إلى السماء .

إلا أن الإيمان بالحق والإصرار على استرجاعه من قبل أصحابه الشرعيين شيء ، وما جرى وما زال يجري على أرض القدس من تغييرات أساسها التهويد الجغرافي والديموغرافي من قبل الإحتلال الإسرائيلي هو شيء آخر . وهذا الشيء الآخر له خطورته كونه يأتي تنفيذا لمخطط افتراس القدس المستمر ، هذا المخطط الذي تفرز كل حركة من تحركاته تحديا سافرا للعرب والمسلمين أينما كانوا وتواجدوا بعامة ، والفلسطينيين بخاصة . إلا أن الأخطر من ذلك أن السياسة الإسرائيلية أيا كانت ألوان طيفها تستثني الحديث عن القدس من أية تسوية مع الفلسطينيين ، وتصر تشكل من منظور على اعتراف الأنظمة العربية والإسلامية بإسرائيل و التطبيع معها.

كلمة أخيرة . لقد خسر العرب والمسلمون في القرن العشرين المنصرم وما زالوا يخسرون الكثير في القرن الحادي والعشرين من سياداتهم وحرياتهم واستقلالية قراراتهم وكرامتهم وخيرات بلادهم وأوزانهم السياسية والإقتصادية والثقافية جراء فرقتهم وانقسامهم وتعاديهم . ولم يبق لهم إلا عقيدتهم ومقدساتهم التي أصبحت في مرمى الإستهداف ، ويخشى لا سمح الله أن يستهينوا بها ، فتسلب منهم . والقدس والأقصى المبارك ، والصخرة المشرفة ناقوسا خطر يقرعان ليلا نهارا ، لعل الآذان تسمع ، والعيون ترى ، والألباب تعي . وإن غدا لناظره قريب.

المصدر: د. لطفي زغلول - موقع القدس عاصمة الثقافة العربية
  • Currently 455/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
145 تصويتات / 1744 مشاهدة
نشرت فى 22 أكتوبر 2009 بواسطة ahmedelbebani

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

285,865