قبل أن ندلِفَ إلى تأثير رنجلمان ونغرق في مصطلحات علم النفس الاجتماعيّ، أرى من الأنسب أن أقصّ عليكم موقفًا لطيفًا حدث معي اليوم في حيّ المعادي الجميل.
اليوم، تعطّلت سيارة جاري العزيز وأنا بصحبته مضطرًا. احتاجت السيارة إلى “دفعة قوية” حتى تدور مرّة أخرى. ترجّلتُ، وشاركني اثنان من المارّة في دفعها. وكنّا ندفع بقوة معقولة. انضمّ إلينا عددٌ لا بأس به من الناس ودارت السيارة في النهاية.
لاحظتُ أنه على الرّغم من انضمام عددٍ كبير فإنّ قوة الدفع لم تتناسب مع زيادة العدد بل أخذت في الانخفاض حتى وصل إلى مستوى يقارب مستوى أدائنا الثلاثيّ في البداية.
يطلق علم النفس الاجتماعي على ملاحظتي هذه مصطلحَ social loafing وترجمته المعبّرة “التكاسل الاجتماعي”، أو تأثير رنجلمان.
تعريف تأثير رنجلمان
ونعني بظاهرة تأثير رنجلمان أنّ الفرد إذا كان وسط مجموعة تقوم بمهمة محددة يميل إلى بذل جهد أقلّ من نفس الجهد الذي يبذله لو كان بمفرده يؤدي هذه المهمة. وترجع هذه الظاهرة بشكل أساسيّ إلى أنّ:
١- توزيع المسؤولية على عدد كبير يُشعِر بعض الأفراد أنّهم غير مسؤولين عن نتيجة جهودهم، وأنّ الأمر يسير بدونهم أيضًا.
٢- غياب الحافز الفرديّ للشخص، والذي لو بذل جهدًا كبيرًا، فلن يظهر للناس مدى تميزه وعِظَم مساهمته.
٣- ضعف التنسيق وخطوط التواصل بين مجموعة العمل.
الأصل التاريخيّ لظاهرة تأثير رنجلمان
كان أول من لاحظ هذه الظاهرة المهندسُ الفرنسيّ ماكسيميليان رنجلمان عام ١٩١٣، حيث لاحظ أنّ قوة حصانين يَجُرَّان عربةً معًا ليست ضِعف قوة حصانٍ واحدٍ يَجُرُّ نفس العربة. ثم قام بتجربة على البشر من خلال لعبةِ شدّ الحبل وقاس الجهد الفرديّ المبذول عند الشدّ، ومن ناحية أخرى قاس الجهد الجماعيّ المبذول، وكانت كلّ النتائج الرقمية تشير إلى وجود علاقة عكسية بين حجم المجموعة وإجماليّ مساهمة أفرادهم المفترضة. ولذلك قد تسمّى هذه الظاهرة تأثير Ringelmann على اسم المهندس الفرنسيّ.
كما قام بدراسةٍ مشابهةٍ على مجموعةٍ من المساجين الذين يقومون بتشغيل ماكينة طحنٍ يدويّ وقد وجد أنّ ازدياد عددِ المساجين -الذين يوفّرون القوّة العضلية اللازمة لإدارة الماكينة- يؤدّي إلى اعتماد بعض المساجين على زملائهم لأداء الجزء الخاصّ بهم من العمل إلى حدّ أنّ بعضهم ترك يديه تمسكان بعجلة إدارة الماكينة من غير دفعٍ لها، وآخرين قاموا بترك العجلة تسحبهم بدلًا من أن يدفعوها هم.
تأثير رنجلمان في مجال العمل
كلّما كبُر حجم الشركة كلّما كان من الأسهل على الموظّف إخفاء عمله الفرديّ، ولكن، للأسف، يؤدي وجود هؤلاء الطفيليّين الذين يعيشون على فكرة أنّ العمل يقوم به أشخاص آخرون إلى انخفاضٍ في الروح المعنوية لدى الأفراد أصحاب الأداء المهنيّ المرتفع، فينخفض مستوى أدائهم هم الآخرين.
والحقيقة ،لا أحد في الشركة سيرغب في أن يكون ذلك “الأهبل” الذي يقوم بكلّ الشغل بينما يقضي الآخرون وقتهم دون عمل ساخرين منه، وهو الأمر الذي سيترتّب عليه تهرّبُ الجميع من العمل وانخفاض مستوى أداء الفريق.
وبمرور الوقت، تصبح ثقافة التكاسل الاجتماعيّ المقرونة بتأثير الأهبل sucker effect -الذي يقوم بكلّ العمل- جزءًا من ثقافة الشركة، الأمر الذي ينجم عنه انخفاض واضح في إنتاجية الجميع؛ من الخفير إلى المدير.
تأثير رنجلمان في مجال النشر البحثي
قام العالِم دريك دي سولا باريس، في الستينات من القرن العشرين، بتحليلِ أرقام أعداد الأبحاث العلمية التي تنشرها المؤسسات البحثية في أمريكا، وخلص إلى نتيجة باهرة أو بالأحرى قانونًا يَصِف كميًّا ظاهرة التكاسل الاجتماعي.
وينصّ قانون دي سولا على أنّ الجذر التربيعي (تقريبًا) لعدد العاملين بالشركة هو المسؤول عن ٥٠% من العمل بالمنظمة، الأمر الذي يعني أنه كلّما كبُر عدد العاملين بالشركة انخفض عدد القائمين بالعمل كما هو موضّح بالجدول التالي:
تأثير رنجلمان والتكاسل الاجتماعي
كيفية التغلب على تأثير رنجلمان أو التكاسل الاجتماعي
ينخفض عدد المتكاسلين في الشركة أو تأثير رنجلمان عند توافر أحد الضوابط التالية:
١- إدراك الموظّفين أنّ سلوكهم الفرديّ تُمكن ملاحظته وتقييمه.
٢- إحساس الموظفين بقيمة وأهمية عملهم الفرديّ، وأنّ مساهمتهم تمثّل جزءًا هامًّا من المنتج النهائي للمؤسسة.
٣- تقسيم الموظفين إلى فِرَق عملٍ صغيرة، مما يسهّل المتابعة ويحسّن من مستويات التنسيق.
٤- التخلّص بشكل نهائي من مدمني التكاسل والتسكّع الاجتماعي.
تحديد الحجم الأمثل لفريق العمل
تستخدم العديد من المؤسسات الناجحة قانون “٢ بيتزا” لبناء فريق العمل؛ ويعني هذا أنّ الفريق الأمثل هو الذي تكفي أعداد أفراده ٢ بيتزا في عشائه. يعني هذا أنّ العدد المثالي يكون بين ٥- ٩ أفراد.
ويُنسَب هذا القانون إلى رئيس شركة أمازون، المليونير جيف بيزوس، الذي نحت هذا المصطلح.. حيث أشار إلى أنّ المثل القائل بأنّ “عينين أفضل من عين واحدة” خاطئ تمامًا، ووجود عقول أكثر لا يعني إطلاقًا أفكارًا وحلولًا أكثر.
الخلاصة: يفسّر لك ما سبق السبب الذي يجعل دولة صغيرة تحقّق إنجازات أكبر من دولة كبيرة سكّانها ٩٠ مليون، وسبب انتصار فئة قليلة على فئة كثيرة. وخلاصة الكلام هو “حذارِ من أن تظنّ أنّك كلما أضفتَ أعدادًا زيادة على فريق أو مجموعة فإنّ الجهود ستتضاعف”، ففي أغلب الظنّ أنّ العكس قد يحدث.