♠♠♠♠ القصة القصيرة ♠♠♠♠
♠♠♠ حن على القلة ده الغريب حن ♠♠♠
♠♠ في واحدة من المناطق الشعببة في القاهرة ، دارت أحداث قصتنا في جو أيام زمان حيث القيم تفرض نفسها على الجميع ، ومن النادر أن يخرج أحد عن القيم السائدة في الحياة ، ففي ذلك الزمان كان الناس مرتبة كحبات السبحة ، والاصول هي الاصول بكل ما في الكلمة من إيحاء ، فقبل أن يوجد مكتب لحراس أمن على بيوتنا كان هناك البواب ، وهو رجل غالبا طيب يقوم طوال النهار بقضاء حاجات السكان ، وفي المساء حتى ساعة متأخرة من الليل يجلس على دكة ، ويسأل كل داخل للعمارة ويقول رايح فين يا بيه أو رايحة فين يا هانم ، ثم والحركة قليلة يقوم بمسح السلم حتى في الصباح يجد السكان السلم نظيف ، ثم يدخل غرفته القريبة من باب العمارة وينام نصف نوم ، كلما وجد حركة أسرع بالخروج من غرفته ، وسادت في الحياة تعبيرات يعتقد كاتب قصتنا أنها إنقرضت كما إنقرض من الحياة ذلك الحيوان الضخم المسمى الديناصور ، تعبيرات مثل (بنت الحته) وهي كل فتاة في الحته كانت تتمتع بالحماية من كل سكان حتتها وتعبير ( الناس لبعضيها) ، وهذا التعبير كان كوثيقة تأمين ضد غدر الزمان ، يوم كانت البيوت مفتحت الأبواب خاصة عند الإفطار في شهر رمضان الفضيل ، وأي غريب يمكن أن يجد له طعام عند أي إنسان ، وكذلك يتجمع كل سكان الحته في عزاء أو فرح أي من الجيران أو سكان المنطقة ، والعيب كل العيب في من يتخلف أحدا إلا بعذر يعرفه الجميع ، وواجب المجاملة الذي يرد إلي كل مجامل في أي مناسبه عنده ، مما يجعل الجميع في مأمن من تقلبات الزمان ، والمصريين لهم عبقرية خاصة في المعاملات ، والكاتب بحكم سفرياته كاستاذ جامعي وإحتكاكه بالأشقاء العرب يعلم أن لكل بيئة عربية خصوصية تعبر عن عبقرية المكان وعبقرية السكان ، ففي مصر وكذلك في بلادنا العربية ، عند فرح وزواج أي من بنات الحتة ، كانت البنات تتجمع عند العروس لتزينها يوم عرسها وتعلوا الزغاريد وكن يقرصن العروس من ركبتها فهناك مقوله توارثوها ( إقرصيها في ركبتها تحصليها في جمعتها) أو (أشاركك في فرحتك أحصلك في جمعتك) ، أقوال تعبر عن عبقرية عاشت في الوجدان مئات السنين ، ومن حكايات هذا الزمان ، عندما كان الحب يداعب قلوب البنات فلا تشبع حنينها إلا بالنظر للحب من وراء الستارة أو الشربية حتى تنظر إلي الحبيب شاغل البال ، فإن الحياء كان من سمات هذا الزمان ، وفي قاعدة العواطف هناك دائما ما قد يشذ ، فالبعض منهن قد يأخذها الشوق فتنتظر قدوم الحبيب على باب السلم ، وإذا إقترب منها أكثر من قدرتها على الإحتمال ، كانت تسرع بالدخول إلى البيت وتغلق الباب ، وتقف خلف الباب هي والحنين والحياء ، كان الحب عبارة عن صراع بين الجرأة والحياء ، وفي هذا الزمان كان الحياء ينتصر عادة على الجرأة ، عكس أيامنا هذه حيث الجرأة تغلب في كثير من الأحيان ما يسمى حياء ، وكانت ليلى وهي بطلة قصتنا قد بلغت من العمر 29 سنة ، وبحساب ذلك الزمان فإن قلق الأمهات على بناتهن يبلغ مداه ، إذا وصلن البنات لهذا السن بلا زواج ، والحقيقة أن ليلى كانت ترفض الزواج على أمل أن يأتي جارهم أحمد أفندي في الشقة المجاورة ، والتي إرتبطت بحبه دون علمه ، وكانت تقف في (التراسينا) وهي البلكونه بتسمية ذلك الزمان في مصر ، كل يوم في إنتظار عودته من عمله فهو موظف في وزارة الأوقاف العمومية وهما في الدور الأرضي أي البلكون كانت بالدور الأرضي ، وكان من عادات المصريين وضع قلل من الفخار بها ماء في صنية في البلكون حتى تبرد قبل إنتشار الثلاجات الكهربية في البيوت ، ويوضع في الصنية بعض حباب الليمون وأعواد النعناع حتى يصير للصنية والماء رائحة ذكية ، وبعض العائلات كانت تضع في القلل بعض النقط من ماء الورد مما يجعل الماء طيب الرائحة والطعم ، وعادة أي مار في الحارة إذا عطش كان يشرب من أقرب قلة في أي بلكون في متناول يده ، وكان المصريون يجدوا في ذلك ثواب ولا يتأففون من إستخدام الغرباء لهذه القلل وكانوا يتصدقون بوضع قلل بها ماء عند رأس الحارة ، وكانت ليلى تترقب وصول الحبيب من عمله وتتمنى أن يأخذه الحنين فيقف ليشرب من القلة وتكتفي هي بالنظر إليه من وراء الستار ، فقد كان العشق في تلك الأيام هكذا ، نظرات من وراء حجاب ، كان الحجاب ستارة ، أو مشربية في بلكون مثلا ، ولكن لم يحدث أن فعلها ولو مرة واحدة ، لذلك تشجعت هي لما غلبها الشوق ، وأصرت أن تكسر هذا الصمت في العشق عندها ، فعندما إقترب من البلكون مرة عند عودته من عمله تراجعت خلف الستار ، وقالت بصوت عال لعله يسمعه ، ما كان هو العنوان لهذه القصة.
♠♠♠ ا. د/ محمد موسى