لغتنا الجميلة
في علم البيان و البديع
البحث الأول
لا بد للشاعر ليكون شاعرا أن يكون .. ملما بقواعد البيان من استعارة و كناية و تورية و غيرها . و أن يأتي المعنى من الباب الخلفي .. أي بالتلميح قدر الامكان و ليس بالتصريح .. وعارفا بالمحسنات البديعية .. فتااغة الشعرلية تختلف عن لغة النثر ، و على الشاعر أن يملك مخزنا من المفردات تسمح له بالخوض في غمار القافية ... وأن يمزج قوافيه بصدق العاطفة
.. يقول حسان بن ثابت من البسيط و القافية من المتراكب :
: وان أحسن بيت أنت قائله ... بيت يقال اذا أنشدته صدقا
ثم على الشاعر أن لا يأتي المعاني بصورة مباشرة .. فلا بد من استعمال قواعد البيان من استعارة و كناية __
و تأكيدا لهذا المبدأ لا بد من ذكر واقعة في تاريخ الأدب العربي ..
ذلك أنه .. عندما القى الراعي النميري قصيدة يمدح بها الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان يقول فيها :
أخليفة الرحمن انا معشر ... حنفاء نسجد بكرة و أصيلا
عرب نري لله في أموالنا ... حق الزكاة منزلا تنزيلا
فقال له عبدالملك :
ليس هذا شعرا .. هذا شرح اسلام و قراءة آية ..
كما نذكرواقعة أخرى و هي استهجان الشاعر مروان بن أبي الجنوب بالشاعر علي بن الجهم عندما قال للمتوكل في قصيدة له :
الله أكبر و النبي محمد ... و الحق أبلج و الخليفة جعفر
فرد عليه مروان بن أبي الجنوب مستهزئا :
أراد بن جهم أن يقول قصيدة ... بمدح أمير المؤمنين فأذّنـــــا
فقلت له : لا تعجلنْ باقامة ... فلستُ على طهر فقال و لا أنا
فليس بالامكان تجاهل هذا النقد اللاذع النابع من الإحساس بأن الراعي النميري أو علي بن الجهم لم يكونا يقولان شعرا و انما نظما
وبالتالي فقد ميز القدماء بين الشعر الحقيقي و بين النظم .. و نعود فنذكر أنه لا بد للشاعر من الالمام بقواعد علم البيان .. من استعارة و تشبيه و كناية و غيرها
و سنبحث في هذا المقال أولا .. في الاستعارة
الاستعارة :
هي ، كما يقول عبدالقاهر الجرجاني ، في كتابه " أسرار البلاغة " ضرب من التشبيه ، و نمط من التمثيل ، و التشبيه قياس ، و القياس يجري فيما تعيه القلوب ، و تدركه العقول ، وتستفتى فيه الأفهام و الأذهان ، لا الأسماع و الآذان .
يقال : هي استعارة الشيء المحسوس ، للشيء المعقول ( المعنوي ) ، كقوله تعالى :
" لا تظلمون فتيلا " " و لا يظلمون نقيرا " " و ما يملكون من قطمير "
و الاستعارة أوْكَدُ في النفس من الحقيقة ، و تفعل في النفوس ما لا تفعله الحقيقة . و كقوله تعالى أيضا :
" و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة "
و هنا نرى استعارة لفظة " الجناح " ، و أضافتها الى لفظة " الذل " .. الذي لا يمكن أن يكون له جناح أصلا .. و هو معنى مجازي
و كقوله أيضا :
" و اشتعل الرأس شيبا "
فقد استعار فعل الاشتعال الى الرأس .. وهو معنى مجازي أيضا .
و الاستعارة ، كقول الشاعر :
و عري أفراس الصبا و رواحله
و قال الآعرابي :
كانوا اذا اصطفوا ، سفرت بينهم السهام ، و اذا تصافحوا بالسيوف ، قفز الحِمام .
فالاستعارة هنا في " عري أفراس الصبا ، و سفرت بينهم السهام ، و قفز الحمام .. الخ
ومن أحسن الاستعارات في الشعر قول ذو الرمة :
أوردته و صدور الليل مسنفة ... و الليل بالكوكب الدري منحور
و قوله أيضا , و هو من أجمل الاستعارات :
حيث نلاحظ كيف استعار الشاعر فعل ذوى ، و أضافه للعود ، كما
كما استعار الشاعر الملاءة ، وهي لباس للآنسان أصلا ، و أضافها للفجر ، فكأنه اعتبر الفجر كالانسان يلبس عباءة ، خبأ خلالها نجوم الثريا ، وهو معنى رائع . يقول من الطويل و القافية من المتواتر :
أقامت به حتى ذوى العود في الثرى ... و ضم الثريا في ملائته الفجر
كما أحسن أبو تمام بقوله من الكامل و القاف ية من المتواتر :
لا تسقني ماء الملام فانني ... صب قد استعذبت ماء بكائي
ثم لننظر الى أبيات كثير عزة ، التي أثنى عليها كثير ، من اللغويين و الشعراء ، فكانها الماء جريانا ، و الهواء لطفا ، و الرياض حسنا ، و كأنها النسيم ، أو كأنها الرحيق ، و لنرى مدى جمالها و روعتها ، و الى ما فيها من استعارات جميلة رائعة .. يقول من الطويل و القافية من المتدارك :
و لما قضينا من منى كل حاجة ... و مسح بالأركان من هو ماسح
و شدت على متن المهارى رحالنا .. و لم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... و سالت بأعناق المطي الأباطح
لننظر الى هذه العبارة و مت فيها من صورة رائعة " و سالت بأعناق المطي الأباطح " هذه الاستعارة الرائعة .. ا لا يمكن لقارئ هذه الأبيات ، الا أن يتصور و يتخيل أعناق الجمال ، فيتخيل السهول و التلال و كيف يراها كأنها تسيل و تسير أمام عينيه متلازمة بأعناق الابل . :
أخذنا بأطراف الأحاديث ، سالت بأعناق المطي الأباطح
لقد وقعت الاستعارة موقعها ، و أصابت غرضها ، حتى وصل المعنى الى القلب ، وصوله الى السمع ، و استقر في الفهم ، مع وقوع العبارة في الأذن ، و لسلامة الكلام من الحشو غير المفيد .
ولا بد من القول أن موضوع الاستعارة بحث طويل ، و قد اختصرت ما فيه الكفاية , لنتعرف على موضوعها ، و هي بحث هام للشاعر كما الناثرأيضا .
و سنتابع في أبحاث لاحقة في الكناية و التورية و غيرها .
...
خالد ع . خبازة