مجلة موسيقى الشعر العربى للشاعر/أحمد الشبراوى محمد

فشّة خُلق ...

 

                       قصّة : مصطفى الحاج حسين .

 

       مابوسعِ المعلّم " عدنان " أن يفعلَ ، إذا

 

كان بيته يبعد كثيراً عن المدرسة التي يعلّمُ

 

فيها ؟! .. وعليه أن يستقلَّ حافلتينِ للنقلِ

 

 الدّاخلي ! .. ثمَّ يتابع طريقه سيراً على الأقدام مدَّة

 

 دقائق ! .

 

       وماذا يفعل إذا عَلِمنا بأنّ الحافلة الأولى

 

، التي سينحشر بداخلها ، لا تأتي قبل السّادسة

 

 والنّصف ؟! ، ولا يصل إلى محطّةِ

 

المنشيّة إلّا بحدودِ السّابعة ، ثمّ عليهِ أن ينتظرَ

 

 الحافلة الثّانية ! .. ولا وسيلةَ نقلٍ أخرى ، يمكنه أن

 

 يستعملها ، سوى " تكسي الأجرة " ويعجز راتبه

 

 بالتأكيد ، عن تغطية نفقاتها !.

 

       وما بيده إن حاول باستماتةٍ ، ورغم كلّ

 

الواسطات التي لجأ إليها ، كي يعيّنهُ المُوجّه

 

في مدرسةٍ قريبةٍ من سكنهِ ، لكنّ المُوجّه يعتذرُ

 

 بحجّةِ أنّ لا شاغرَ لديهِ ؟! .

 

       ثمّ نوّهَ بأنَّ نقل الأستاذ " عدنان " من منطقةِ "

 

 عين العرب " إلى حلب ، بعد، بحدِّ

 

ذاته شيئاً عظيماً وغير قانوني ، لأنّ دفعة

 

زملائه في التّعيينِ ، لم يصدر قرار نقلهم رغم أربع

 

 سنوات على غربتهم .

 

       وما حيلته إن كان قد طلب من مديره ،

 

أن يعفيه من إعطاء الحصّة الأولى ، كي لا

 

يتأخّر على طلابه ؟! .. لكنَّ السّيد المدير اعتذر ،

 

 متذرعاً بالبرنامج المدرسي ، الذي لا يمكن تغييره .

 

       فكرة أن ينقل مكان سكنه ، إلى منطقة

 

أقرب ، مرفوضة بالتأكيد ، ذلك لأنّه يقيم وزوجته

 

 وابنتيه الصّغيرتينِ ، في غرفة خانقة وضيّقة عند

 

 أهله ، ولا مال لديه للإيجار أو غيره ، فقد تزوّج

 

 بالتقسيط ، ولم

 

يزل يدفع من مرتبه ومرتب زوجته الأقساط

 

المترتّبة على عنقيهما .

 

       السّيد المدير غارق إلى شحمة أذنيه

 

 بالبيروقراطية والاستبدادية ، وهو في الحقيقة لا

 

 يصلح إلّا أن يكون محقّقاً ، بارعاً

 

في الطّعن والانتقام ، ممّن يتجاسرون عليه ،

 

وممّن ينصاعون إليه أيضاً ، فما من معلٌمٍ خدم في

 

 مدرسته ، إلّا وكتب بحقّه أكداساً من التّقارير ،

 

 واقترح بشأنه آلاف العقوبات والانذارات ، مستعيناً

 

 بالآذن " عبد الفتّاح " ،

 

الذي أطلق العنان لأذنيه وعينيه ومنخاره ،

 

لرصد ما يحدث داخل أسوار المدرسة وخارجها .

 

       فما إن يصل المعلّم " عدنان " إلى المدرسة ،

 

 ويدخل الصّف ، حتّى يقتحم عليه

 

الآذن الباب حاملاً استجواباً خطّياً من السّيد

 

المدير :

 

- (  بيّن سببَ تأخرك المتكرّر يا أستاذ عدنان ؟! . ) .

 

       كان يرتبك ويحمرّ وجهه خجلاً أمام طلّابه ،

 

 يجلس خلف طاولته ، ليردّ على الاستجواب ويقدّم

 

 اعتذاراته الشّديدة التّهذيب ، وكان ينسب تأخّره

 

 بالطبع إلى سوء تنظيم المواصلات ، لكنّ المدير لم

 

 يكن

 

يقبل هذه الاعتذارات ، فيبادر إلى كتابة تقرير

 

 مفصّل ، بحقِّ المعلّم ويرسله برفقة الاستجواب ،

 

 إلى المديرية ، مع اقتراحات

 

عديدة ، منها إعادة الأستاذ " عدنان " إلى الخدمة في

 

 الرّيف ، إلى جانب الحسومات من راتبه .

 

       وكان المدير الذي يتظاهر بعشقه للنظام

 

، يسجّل ملاحظات التّأخير ، في دفتر الدّوام

 

، وكثرت الملاحظات من الموجّه بحقّه .

 

       ضاق بمديره وتقاريره ذرعاً ، وفكّر بتقديم

 

 استقالته ، لكنّ دموع زوجته ، ومنظر ابنتيه

 

 الصّغيرتينِ منعاه من اتّخاذ القرار ، فماذا يمكن له أن

 

 يعمل إن استقال ؟! .

 

       واليوم وصل متأخراً كعادته ، يبدو منزعجاً

 

 بسبب اقتطاع أكثر من ربع مرتبه الذي قبضه أمس ،

 

 وما كاد يدلف إلى صفّه ،

 

حتّى اقتحمه الآذن " عبد الفتاح " ، حاملاً

 

الاستجواب الأزلي :

 

- (  بيّن سبب تأخّرك المتكرّر يا أستاذ عدنان ؟! ...) .

 

    تناولَ الورقة بعصبيّةٍ واضحةٍ ، ولم تُخفَ هذهِ

 

 الحركة على " عبد الفتّاح " بالطبع ، فقد

 

تمكّنَ من رصدها وحفظها ، جلس المعلّم خلف

 

 طاولته ، وشرع في الإجابة ، بعد أن تجرّأ وأشعلَ

 

 سيكارة ، ممّا فجّر الدّهشة والاستغراب على وجه

 

 الآذن وعلى عينيهِ الثّعلبيّتينِ ، ولم يعرف ما يفعل ..

 

 هل يهرع إلى السّيد المدير ، ويطلعه على ما

 

 يحدث ؟!.. أم ينتظر ريثما ينتهي المعلّم من ردّه ،

 

 لكنّه في النّهاية فطنَ إلى ضرورةِ البقاء

 

، كي لا تفوتهُ أيَّة حركة من تعابيرِ وجهِ المعلّم ، الذي

 

 شرع في الرّد :

 

- السّيد مدير المدرسة ، المحترم :

 

       نعلمكم عن سبب تأخّرنا لهذا اليوم ...

 

أيقظتني زوجتي كالعادةِ ، كان الفطور جاهزاً

 

إلى جواري ، ازدردتُ لقمتينِ على عجلٍ ، ثمّ

 

أشعلتُ سيكارة ، لأنفثَ دخّنها على رشفاتِ

 

الشّاي السّاخنة ، كانت زوجتي تهمُّ بارتداءِ ملابسها ،

 

 لتلتحقَ بمدرستها هي الأخرى ، وقعت عيناي عليها ،

 

 فأثارتني ، مددّتُ يدي وشددّتُها ، طوّقتها بذراعيّ ،

 

 حاولت أن تتملّصَ منّي ، جذبتها بقوّةٍ ، قالت :

 

- سنتأخّر  .

 

 قلتُ :

 

- طُز .

 

- سيقطعونَ عنّا الرّاتب .

 

 هتفتُ :

 

- طُز .

 

  صاحت :

 

- ومديركَ .. ومديرتي !!! .

 

أجبتُ :

 

- طُز .

 

- سترتفع بنا التّقارير .

 

- طُز .

 

       احتضنتها وصراخها ينبعث :

 

- مديركَ يا عدنان .. ومديرتي .. لن يرحمانا اليوم .

 

وكنتُ أهمسُ كالمحمومِ :

 

- طُز منهم .. واللعنة

 

عليهم .. وعلى مدارسهم ، وتقاريرهم ، وأذانهم ..

 

 فليطردونا

 

، وليقطعوا عنّا الرّاتب ، بل ليقطعوا أعناقنا..

 

لكنّي لن أترككِ تفلتينَ منّي .

 

       وهكذا ياسعادة المدير المبجٌل ، أمضينا

 

ربع ساعة من أروع لحظات العمر ، استرجعنا

 

خلالها تلكَ الأيّام الجّميلة ، فأنا يا جناب المدير ،

 

 كثيراً ما كنتُ أغفو ، قبل أن تتفرّغ

 

إليّ زوجتي بسببِ طفلتينا ، أغفو وأنا على جمرِ

 

 الانتظار ، لأنّكَ يا جناب المدير ، سرعانَ

 

ما تبرز أمامي لتذكّرني بضرورةِ النّوم باكراً ،

 

والاستيقاظ باكراً ، لألهث خلف الحافلات .

 

       أعترفُ بأنَّ سبب تأخّري اليوم ، هو الاستهتار

 

 منّي واستسلامي لشهوتي ، ويمكنكَ يا جناب

 

 المدير ، أن تفعل ما تراه

 

مناسباً ، وليس بإمكاني سوى أن أردّد لجنابكم 

 

- طُز .. والسٌلام .

 

       وقرأ المعلّم " عدنان " الكلمة الأخيرة بتلذّذ عالي

 

 النّبرة. ففتحَ الآذن " عبد الفتّاح"

 

باب الصّفّ بقوّةٍ ، وخرجَ مذعوراً ، مسرعاً ،

 

راكضاً ، لاهثاً ، وكان الممرّ الضّيق الطّويل ، وبوابات

 

 الصّفوف ، والدّرج المؤدي إلى الإدارة ، وسائر جدران

 

 المدرسة ، والمقاعد ،

 

وقطع الطّباشير ، وكلّ مافي المدرسة من أثاثٍ ،

 

 تهتفُ خلفَ الآذن ، وبصوتٍ جماعي ،

 

قويّ ، يشقُّ عنان الصّمت ، تلك الكلمة التي

 

ارتفعت ، حتّى ارتطمت بعيون السّيد المدير،

 

وهو يقرأها فاغراً فمه على مصراعيه :

 

- طُز .. طُز .. طُز .

 

                           مصطفى الحاج حسين .

                                 حلب

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 41 مشاهدة
نشرت فى 20 يونيو 2017 بواسطة ah-shabrawy

أ/أحمد الشبراوى محمد

ah-shabrawy
نريد أن نرتقى بالشعر العربى وموسيقاه ونحمى لغتنا العربية من التردى فى متاهات عولمة اللغة تحياتي الشاعر والاديب / أ.أحمد الشبراوي »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

401,983