إحدى قصص مجموعتي القصصية ( حلم أشهب ) الصادرة في يناير 2016
=========================================
شلالات الوهم
***********
خرجَ كعادتِه عند ميلادِ أولِ خيوطِ يومٍ جديد ، يحلمُ بثروةٍ لا تتعدى البضعةِ قروش سوف يجنيها من رحلةِ الاستجداءِ اليومية خلال مراسمٍ من الإهانةِ و الاحتقارِ لشخصِه الضئيل . توجهَ إلى ذلكِ المكانِ الذي يجذبه منذ أن رآها لأولِ مرة بردائها الورديِ الرقيقِ و جدائلها الصغيرةِ ذات الفيونكاتِ الحمراء ، كانت تُسابقُ رفاقها كفراشةٍ ذهبيةٍ عبر نسماتِ الربيع .
تتعالى ضحكاتُهم العذبةِ من أفواهٍ لم تذق سوى طعامٍ أثيمٍ من حرمانٍ و جوع ، كانوا يتقاذفونَ أحلامَهم ككرةٍ ذات ألوانِ مبهجةٍ متعددةٍ في تعرجاتِ تشبه تموجاتِ دهاليزِ حياتِهم الضيقة . وقفَ يتطلعُ إليهم من بين قضبانِ السورِ الحديدي المُغطى بزهورٍ رُويتْ بدمائهم المسفوحة ، رانَ صوتُ الجرسِ على أسماعِهم ، فهرعَ الأطفالُ مسرعين ليتصافوا في صفوفٍ منتظمة .
رسمَ صورتَه في تلك الصفوفِ بين الأطفالِ متفاوتي الأعمارِ و الأشكالِ و الانتماءات ، يمرُ عليه مُشرفو الدارِ يُربتون على وجدانِه بحنانٍ حُرمَ منه . دارتْ عقاربُ الساعةِ بسرعة فلدغتُه حين أفاقَ من أحلامِه الورديةِ على صوتٍ أجش ينهره و يسأله عن ما جناه من رحلتِه اليومية ، فأخبره أنه لم يبدأها بَعدْ ، كانت كلُ ذرةٍ من كيانِه ترتعدُ فزعاً من ردِ فعلِ مُحدثِه . نزلتْ صفعةٌ على وجهِ الصغيرِ فَجَرتْ ثورةَ بركانِ غضبِه الخانع ، جرى مسرعاً بعيداً عن ذلك الرجلِ الفظ ، الذي نادي عليه بأن يعود و إلا سيلقى نفسَ مصيرِ زميله .
ظلَ يعدو حتى ابتعد مع تعالي لعناتُ محدثِه حتى داهمه المغيب ، زحفَ الليلُ الكئيبُ بسوادِه الحالكِ فظللَ على هذيانِه ، زادتْ حيرتُه .. أين سيقضي ليلتَه ؟ شعر بالحنينِ إلى تلك البقعةِ الصغيرةِ أسفل الكوبري التي كانت تأويه ، و تلك الصخرةِ التي يضعُ رأسه فوقها لينام . تلفتْ حوله و لم يستعبْ ما يرى ، هم نفسُ الصبيةِ الذين شاهدهم في الصباحِ يحتضنون براعمَ حلمِهم النازفِ من شلالاتِ الوهم ، يشاركونه وسادتَه المرويةِ بغيثٍ من دموعِهم البريئة ، أفاقَ على صياحٍ يوقظه من نومٍ لم يروِ جدبَ حلمِه الصغير .
سعاد الزامك
L