من أعرق الصفحات التي قدمناها للحضارة الإنسانية ، وللتاريخ البشري صفحة الدولة العباسية .
خمسة قرون وأكثر ( 132 هـ ـ 656 هـ ) مرت على التاريخ البشري ، وهو يحني جبهته لهذه الدولة .
وبالطبع . . فليس من خصائص المسيرة البشرية أن تظل على وتيرة واحدة ، وهكذا كان شأن الدولة العباسية في مسيرتها ، يتعاورها المد والجزر ، واختلف عليها الحماة بين أتراك وبويهيين وأتراك سلاجقة ، لكنها بقيت مع ذلك رمز الهيبة التاريخية التي تفرض نفسها على كل القوى ، مستمدة هذه الهيبة من رصيد الخلافة الإسلامية التي مثلت وحدة الوجود الإسلامي إلى فترة قريبة من عمر التاريخ .
كان قيام هذه الدولة حركة سياسية قامت على تخطيط ، لعله لم يتوفر للمسلمين في كل تاريخهم . . دقة وعمقا . . وصبرا على النتائج ، واستغلالا لكل القوى وسرية ، وتوافر لكل مقومات النجاح .
ثم كان السير التاريخي لهذه الدولة معجزة عجيبة ، فوسط بحار متلاطمة الأمواج، وعالم إسلامي فسيح لا يمكن ، بل يتعذر استمرار تماسكه . . وأعداء خارجيين من عناصر متباينة المذاهب والجنس والميول .
وسط هذا كله شقت الدولة طريقها . . ولا شك في أنها كانت بين الحين والحين تتعرض لحركة تفكك من هنا، وحركة تمرد من هناك ، وبروز لحركة خروج في ناحية ثالثة . . وغلبة عنصر من العناصر في مكان رابع .
ولكن مهما يكن . . فهذه هي طبيعة المسيرة البشرية ، ولم يقدم لنا التاريخ على كثرة ما قدم مدينة فاضلة خلت من كل النوازع البشرية وخلت من الصراع . . والمد والجزر ! !
وعبر القرون الخمسة تقلب في الحكم عشرات من الحكام . . بلغوا سبعة وثلاثين خليفة، أولهم أبو العباس السفاح ثم أبو جعفر المنصور . . وقد برز منهم كثيرون كالمأمون والرشيد والمعتصم والواثق والمتوكل والمهدي .
وكان آخرهم ـ ومن أشأمهم ـ أبو أحمد المستعصم الذي استسلم للتتار .
وظهرت أسر قوية وعناصر كبيرة سيطرت على الدولة أحيانا كالبرامكة وبني بويه والسلاجقة .
وتمتعت دول كثيرة بالاستقلال الفعلي عن الدولة كالطولونيين والإخشيديين في مصر ، وبني طاهر في خراسان ، وبني سامان في فارس وما وراء النهر ، والغزنويين في أفغانستان والبنجاب والهند ، وبني بويه ـ الذين لم يستقلوا وحسب ـ بل تحكموا في الخلفاء أنفسهم في شيراز في فارس . . ثم السلاجقة .
وهكذا ـ كما ذكرنا ـ تعاورت كل ظروف المسيرة التاريخية هذه الدولة ذات القرون الخمسة وخلال رحلة الدولة العباسية الطويلة في التاريخ ، لم يجد المؤرخون بدا من تقسيم هذه الدولة إلى عصور ثلاثة : العصر الأول ( 132هـ ـ 232 هـ ) وفيه كانت السلطة للخلفاء ما عدا المغرب والأندلس . والعصر الثاني ( 232 ـ 590 هـ ) وفيه ضاعت السلطة من الخلفاء لتكون في يد الأتراك والبويهيين والعصر الثالث ( 590 ـ 656 هـ ) وفيه عادت السلطة إلى أيدي الخلفاء في حدود بغداد وما حولها، دون بقية أملاك الخلافة التي سطا عليها الطامعون .
وفي مثل دولة جامعة كبيرة ذات حياة حافلة كالدولة العباسية يصعب الوصول إلى رأي أخير في أسباب انحلالها . . .

ـ أكانت حركات الانشقاق عن الدولة سبب هذا الانحلال ؟
لا : إن حركات الانشقاق هذه ظاهرة أو نتيجة من نتائج بروز عوامل الانحلال .
أكان ظهور أو تحكم عناصر غير عربية في الحكم من أسباب هذا الانحلال ـ لا ، فهذه العناصر قد وجدت في حضارات كثيرة وأين هي الدولة التي تخلو من خدمات عناصر ليست منها ؟ . . ثم إن هؤلاء لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا في ظل مظاهر الانحلال الحقيقية ، وأدى معظمهم خدمات للدولة كانت سببا من أسباب بقائها وصمودها .
أكان ظهور حركات التمرد الديني كالقرامطة والحشاشين وغيرهم هو السبب الأقوى في تحلل الدولة ؟
ومما لا شك فيه أن لهذه الحركات أثرها الكبير في ضياع " الوحدة العقائدية " وفي ضياع كثير من مثل الإسلام الصافية خلال هذه العصور . . وفي خلق جو من الفوضى الفكرية والاجتماعية والاقتصادية ، لكن مع ذلك ، وإن كان هذا سبب قويا ، فليس هو السبب الأقوى في سقوط الدولة العباسية . فما هي إذن ـ عوامل تحلل الدولة العباسية ودخولها في طور الاضمحلال ؟
لا شك في أن العوامل السابقة وغيرها ، كان لها تأثيرها الكبير في اضمحلال الدولة العباسية وفي دخولها مرحلة الأفول .
بيد أن أخطر العوامل التي أسقطت خلافة العباسيين ، إهمالهم لركن هام من أركان الإسلام . . وهو ( الجهاد ) ، فبعد المعتصم المتولي أمور الدولة سنة ( 833م ) لم نسمع عن معارك ذات شأن قامت بها الدولة ، ولم يكن مبدأ " الجهاد الدائم " حماية لهذه الدولة المترامية الأطراف أحد أركان السياسة العباسية .
لقد تقوقعوا في مشاكل الدولة الداخلية . . فحصرتهم مشاكلها . . وماتوا ببطء ، ولو أنهم وجهوا طاقة الأمة نحو " الجهاد " ضد الصليبيين ، لتغير أمر الحركات الهدامة التي قدر لها أن تظهر وتنتشر ، وذلك أن هذه الحركات لا تنتشر إلا في جو مليء بالركود والفساد ، والمناخ الوحيد الصالح للقضاء عليها هو المناخ القتالي الذي يكشف المعادن النقية ويذيب المعدن الرخيص .
لقد كانت الحاجة الإسلامية ملحة في ضرورة رفع راية الجهاد ، وكانت الدولة الإسلامية التي تعرضت للانشقاق والتمزق تحتاج إلى هذا الصمام ليحميها من جو السكون والاستسلام .
لكن العباسيين غزوا في عقر دارهم . . فذلوا ، ولم يرفعوا راية الجهاد ضد العدو الخارجي . . فارتفعت رايات العصيان الداخلي .
وكان بإمكانهم أن يشغلوا الأجناس المختلفة التي ضمتها الدولة في هذه الحروب الجهادية المستمرة ضد الغزاة والوثنيات المختلفة . . لكنهم لم يفعلوا ، فتحركت النعرات القومية الجاهلية لتفتت الدولة، وتقسم جسمها تحت رايات مختلفة ليست لها بالإسلام أو الجهاد صلة .
وفي سنة 656هـ ( 1258م ) كان هولاكو ـ حفيد جنكيز خان ـ يؤدب الذين اتجهوا إلى كل الطرق إلا طريق الجهاد . . وحاولوا العلاج بكل الوسائل إلا الوسيلة الإسلامية القوية الخالدة .
وقد هاجم هولاكو بغداد وهدم أسوارها ، وأعمل المنجنيق فيها ، وحصد بغداد ، حتى لم يعد ممكنا الإقامة فيها لشدة روائحها المنفرة ، وعندما خرج الخليفة المستعصم إليه مستسلما بصحبة ثلاثمائة من أصحابه وقضاته دون شرط ، أمر هولاكو بقتلهم جميعا ، وطويت صفحة الخلافة العباسية .
ذلك أن أسلوب الأحلام الرومانتيكية الساذجة ليس وسيلة البقاء أو تشييد الحضارات . . فالذين لا يملكون إرادة الهجوم . . يفقدون القدرة على الدفاع ! !

 

abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 67 مشاهدة
نشرت فى 27 مايو 2013 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

298,578