عندما يرد على الخاطر أو اللسان كلمة التيارات الوافدة في هذا العصر تكون الإجابة السريعة أنها هي "الماركسية": الصيحة الأخيرة في العالم الإسلامي التي تشغل الباحثين وتحاول أن تزيف الفكر الإسلامي بما ألقت إليه في السنوات العشرين الأخيرة من نظريات ومفاهيم لم تقدم له على نحو يسمح بالنظر أو بالمراجعة أو تحت لواء البحث والاقتناع؛ وإنما قُدِمت تحت تأثير قوة قاضية فرضت هذا الفكر فرضاً ودقت أجراسه يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة، عن طريق كل الوسائل السمعية والبصرية، في نفس الوقت الذي عزل غيره تماماً وخاصة الفكر الإسلامي العربي الأساسي، ولذلك فإن التجربة كانت قاسية تماماً. ولقد أمكن أن يلتقي الفكر الليبرالي القديم والفكر الماركسي وأن يتصارعا في مساجلات متعددة، ولكن: لم يكن م حق الفكر الإسلامي (في ذلك الوقت) وهو صاحب الأرض أن يتدخل أو يعلن عن وجوده فكأنه مات تماماً.

ولكن هل هو مات حقاً ! محال، إنه على مدى تاريخه الطويل يواجه مثل هذه الأزمات ويخرج منها مشعاً مضيئاً كالذهب عندما يدخل النار.

لقد مكر الفكر الإسلامي منذ جاءت قوى الاحتلال الغربي بنصف التجربة وكان عليه أن يستكملها. فما دام العالم الإسلامي قد فرض عليه ذلك الأنموذج الغربي في السياسة والاقتصاد والقانون: الذي جاء في ركب الاستعمار، هذا النموذج الذي لم يستطع خلال أكثر من سبعين عاماً أن يحقق تقبلاً أو استجابة للنفس العربية الإسلامية وأثبت فشله الذريع في التطبيق، كان لابد وقد تدافع المتجمع الإسلامي إلى الغزو الماركسي أن يتعرف إلى ذلك النموذج ويطبقه ليرى هل يكون أكثر صلاحية، وقد كانت الاستجابة أكثر فشلاً وعجزاً؛ ذلك أن الماركسية ليست نظاماً مستقلاً ولكنها: رد فعل للنظام الرأسمالي الديمقراطي الليبرالي الغربي وجزء منه.

ونحن نجد أنفسنا اليوم وبعد عشرين عاماً من التجربة الماركسية وبعد تسعين عاماً من التجربة الليبرالية: وقد حصلنا على نتيجة "الصفر المركب". وأحس العقل العربي الإسلامي أنه كان يعايش تجربتين فاشلتين بعيدتين كل البعد عن مشاعره وروحه وذاتيته.

بل إنه عرف من بعد أن سر (النكبة والهزيمة والنكسة) مِما حاق به في السنوات التي بدأت منذ 1948 وامتدت إلى 1967 إنما كان نتيجة هذا الاستسلام للتبعية لمنهج وافد عاجز عن تحقيق أي تقدم أو أمن لمجتمعه الأصيل الذي نشأ فيه، فكيف يكون مستطيعاً أن يحقق ذلك لمجتمع غريب عنه.

تلك هي الصورة التي تواجهنا اليوم بعد أن تحررنا من صورة الهزيمة ودخلنا في أفق معرفة النفس، والتماس الأصالة، وتأكيد الذاتية، وبلوغ الرشد والإحساس القوي بأن هذا وحده هو المنطلق الصحيح لمستقبل يتطلع إلى التحرر من كل تبعية وغزو واستعمار وسيطرة القوى الخارجية.

ولقد كشفت الأحداث فيما كشفت عن هدف واضح صريح: مَن وراء كل مخططات الغزو، ومَن وراء التيارات الوافدة جميعاً هو: "القضاء على الهوية" على الذاتية، على الشخصية، على ذلك كالطابع الأصيل الذي كونته عوامل العقيدة والثقافة والأرض والطبيعة جميعاً. القضاء عليه بالاحتواء والإذابة والعمل على صهره في البوتقة العالمية، التي تواجهه من جهاته الثلاث: استعمارية وصهيونية وماركسية، وتواجهه بالمادية والإلحاد والإباحية والقضاء على القيم والتاريخ واللغة والدين.

الهدف هو صهر هذه الأمة: المتفردة بذاتية التوحيد الخاص منذ أن براها الحق تبارك وتعالى لتكون علماً على فكرة الحق، متميزة بالفكر الرباني السمح في مواجهة زحف الفكر البشري المضطرب العاصف الحامل لكل الأخطار.

ولقد استطاع الفكر البشري بنفوذه السياسي والعسكري والاقتصادي حين سيطر على عالم الإسلام وانحسر عنه ثمة، أن يترك فيه قواعده ومؤسساته وقواه، وتلك الأجيال التي تتابع تجربتاه معاهد الإرساليات من أبتاعه ودعاته الذين يحملون لواء التغريب والغزو الثقافي والشعوبية، أولئك الكارهون لهذه الأمة ولعقيدتها ولغتها والحاقدون على مكانها في الأرض، وعلى ما في يدها من ضوء (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره).

ولكن التجربة التي بين أيدينا الآن قد أثبتت فشل الاتجاهين الليبرالي والماركسي، وفشل التقليد والاقتباس والتبعية التي وقع فيها عالم الإسلام حين حجب عن نفسه قيمه وتراثه ومفاهيمه، واتخذ أسلوباً وافداً في مجال القانون والتربية والاقتصاد والسياسية، ولم يتبين له فشل هذا الأسلوب إلا بعد أن ظهرت نتائج قاسية من الهزيمة والنكبة والنكسة؛ حيث تبين أن المسلمين قد عاشوا في خدعة بالغة شديدة حين تابعوا بغير تقدير وروية ذلك المنهج الوافد وغابت عنهم حيطة الأصالة والذاتية، حتى كادوا يفقدوهما، ولم يكن أسلوبهم هو أسلوب البناء على الأساس الصحيح، مع الانتفاع بخيرات الآخرين وتجاربهم، ولكن كانت تبعيتهم قد حالت دون تبين أي وجه للمنابع الأصيلة الأولى التي هي مصدر وجودهم وكيانهم، ومن هنا فقد قاسوا الأمور بمقاييس وافدة حجبت عنهم الرؤية الحقيقية وجوهر الأشياء والطريق الأصيل، فلم يلبث الجيل كله أن وقع في الأزمة الخانقة، والحيرة المظلمة، وقع في "مدلهمة عمياء" هي بمثابة نقطة تحول شديدة، وموقف حاسم، لا سبيل إلى تجاوزه إلا بإعادة النظر في كل تلك المسلمات والأساليب والمناهج التي لم تكن صالحة أساساً لليقظة أو للنهضة، والتي حاولت أن تقضي على النبت الحقيقي الذي كان قد حمل لواء اليقظة منذ أكثر من قرن ونصف قرن من الزمان، حين أنشأ التغريب "دائرته المغلقة" وشكل فيها أولئك الذين أسماهم قادة الفكر والثقافة والتربية والتعليم في سنوات الهزيمة والنكسة والذين جاءت على أيديهم تلك النتائج المفزعة الخطيرة.

ومن ثم فإن الماركسية ليست وحدها التحدي الأوحد وإن كانت هي أبرز التحديات التي تواجه عالم المسلمين اليوم: ذلك لأن الأفكار التي طرحتها خلال السنوات العشرين الأخيرة ما تزال تحتاج إلى تنفيذ وتمحيص وكشف عن سمومها وتعريف بزيفها ورفع لها من عقول الناس وقلوبهم.

غير أن الوقوف عندها والاقتصار عليها يفوت على المسلمين خطراً ويفسح للقوى التغريبية المجال في ميادين أخرى كثيرة. والمعروف أن الليبرالية والماركسية مؤسسات واضحة ظاهرة يسهل التعرف عليها ومواجهتها ولكن جهداً كبيراً يجب أن ينفق لمواجهة المؤسسات الخفية المتسترة تحت أسماء العلوم والثقافة: وأخطرها الفرويدية والوجودية ومدرسة العلوم الاجتماعية.

وهي مدارس تسيطر عن طريق الجامعة، والثقافة والصحافة، وتدخل في مجال الدراسات العلمية كأنها رافد من روافد الفكر الإنساني بينما هي في حقيقتها أشد خطراً من الماركسية والليبرالية على السواء.

لقد تبين لعالم الإسلام أن التجربة السياسية أو الاقتصادية الغربية أو الماركسية كلتاهما قد لقيت الفشل الذريع، ولم تقبلهما النفس العربية الإسلامية، وقد وجدت فيهما تضاداً بينها وبين قيمها ومفاهيمها وذاتيتها. وقد أثبتت تجربة التطبيق السياسي الاقتصادي فشل المذهبية وعجزهما عن العطاء في المجتمع الإسلامي، ولكن هناك مذاهب ما تزال تتحرك في داخل المجتمع والنفس والأخلاق والتربية تكاد تكون كالمسلمات اليوم من شأنها أن تفسد بناء شخصية الإنسان المسلم على النحو الذي يجعله أهلاً للطابع الإسلامي الصحيح.

إن لنا في المجال العام: أمرين مازالا مضيعين: هما التربية الإسلامية والشريعة الإسلامية، وهما يفسحان المجال لشر كثير يأتي من ناحية المدرسة والمصرف والأسرة، ولابد من إجراء تغيير كبير بشأن تحقيق هذين الأمرين.

ولكن هناك في المجتمع الإسلامي خطر يتزايد اليوم ويستفحل: ذلك هو بث السموم عن طريق القصة والأغنية والمسرحية والسينما وكل ما مِن شأنه أن يشكل موصلاً للبث الدائمة اليومي السريع، الذي يحمل معه تلك الأفكار المسمومة التي تتعارض مع مفاهيم الإسلام، والتي تظل تروى الناس في حوار القصص والمسرحيات حتى يظن الكثيرون أنها هي المفهوم الصحيح لعلاقات الرجل والمرأة، والآباء والأبناء، وما يتصل بالحب والزواج، وطريقة الحوار بين الناس في المجتمع، في التعامل العام والخاص، وقد وجد أصحاب التيارات الوافدة أن لقصة أصلح طريق لتوصيل مذاهب الملحدة والإباحية وأفكارهم المسمومة إلى قلوب الناس وعقولهم وهم في مرحلة الاستسلام والراحة وقبل النوم، وعلى نحو يكون فيه صاحب الأفكار هو الذي يقدم مفاهيمه دون أن يناقشه أحد في أمر صحتها أو فسادها، سلامتها أو اضطرابها: وأغلب من يستمع لذلك شباب المسلمين الغر البسيط الساذج، الذي لم تدعمه ثقافة إسلامية أصيلة يفهم بها الصحيح من الخطأ والحل من الحرام والحق من الباطل، ومن هنا فإن جهاز البث الممتد من أجهزة السمع والرؤية الدائمة والمسرح والسينما إنما تقدم للمجتمع الإسلامي أخطاراً عديدة، تدلف إلى القلوب غير مستأذنة وتتردد يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة، فتسيطر وتتمكن، ولا تجد من ثقافة الإسلام الحقيقية ما يصححها وما يردها، وهي تقدم دائماً في أسلوب الحوار والقصص، وباللغة العامية، وبأشد عبارات العامية انخفاضاً، وكأنما انتقيت لها بأسوأ ما يتحاور به أقل الناس ثقافة وأكثرهم حماقة وجهلاً، من أهل الأحياء الموصومة بالعنف والحدة.

تجري هذه الألفاظ على ألسنة الممثلين في المسرحية أو القصة أو الفيلم على نحو يزري بكل خلق وكرامة وأدب، فتحس كأنما الحياة بين الناس صراع عنيف ومغالبة بالكلمة المريرة، وقدرة على استعمال أسوأ المصطلحات والألفاظ، وتجد هذا كله قد أصبح يجري في مجال الحياة العامة فعلاً بين الناس بعد ذلك، في زحامهم بالناقلات، أو في شرائهم وبيعهم، أو في كل ما يلتقي فيه رجل برجل أو رجل بامرأة.

وإذا كانت الجريدة أو الكتاب تحمل الناس وجهات نظر قد تكون فاسدة أو منحرفة، فإن (القصة - المسرحية) أشد خطراً من الكتاب والصحيفة؛ ذلك أن الكتاب يقرؤه قلة والصحيفة يقرأ كل إنسان منها شيئاً من شئونه، أما القصة والمسرحية فهي تحت أبصار الناس وأسماعهم في كل ساعات اليوم، وخاصة ساعات الراحة والاستجمام والاسترخاء وهي أخطر لحظات الاستهواء.

وهكذا نرى أن التغريب خدمة للاستعمار والصهيونية والشيوعية يعمل على تفويض المجتمع والأسرة، والفرد ذاته وذلك بوضعه في مجموعة من الأفكار المسمومة عن علاقاته بالمجتمع والمرأة وخلق "أسلوب" عدواني من الصراع بين الفرد والفرد، والفرد والجماعة للقضاء على روح الإيمان والأخلاق التي يدعو إليها الدين الحق.

وبحيث تخرج هذه المفاهيم الرجل والمرأة من "الحدود" والضوابط والقيم التي رسمها الحق تبارك وتعالى للبشرية من أجل إقامة المجتمع الرباني؛ فهي تهدف أول ما تهدف إلى طرح فكرة الانطلاق الإباحية الواسعة، التي لا تقف عند حد والتي تسيطر فيها الشهوات المادية من مال وشهرة واستعلاء وثراء دون أن يحسب حساب القيم الأخلاقية أو الضوابط الاجتماعية التي تحول دون الاعتداء على حقوق الآخرين، فالمرأة في هذه المفاهيم المطروحة ترى نفسها وقد احتقرت زوجها واستعلت عليه؛ لأنها تعمل وتكسب مثله، وبذلك فليس له عليها رأي أو قوامة، والولد يرى أباه بغيضاً إلى نفسه لأنه يرده إلى طريق الخير ويوجهه في هذه المرحلة الدقيقة التي لا يستطيع فيها أن يتصرف دون خطأ، والرجل يرى نفسه منطلقاً ليكسب من أي سبيل، ولينفق في كل لذة وغواية، دون تقدير أو حساب لمسئولية الزوجية أو الأسرة أو الأبوة، وهكذا تتمثل هذه المفاهيم في صورة حوار وقصص يطرح أمام الأجيال ما يخرجها من دينها وقيمها.

 

هذه أخطر التحديات

ولا ريب أن هذا الجانب الاجتماعي هو أخطر التحديات التي تفرضها التيارات الوافدة والمؤثرات الأجنبية التي عاشت تعمل في ميدانين اثنين: هما تدمير الأسرة والمجتمع الإسلامي وتدمير النفس الإنسان والعقل الإنسان، هنا بالإلحاد وهناك بالإباحية، وعن طريق أدوات الحضارة الحديثة أمكن إفساد المجتمعات بدفعها إلى طريق الشهوات والأهواء  وإعلاء الغرائز والخروج عن دائرة المحرمات والضوابط، ولقد كان للإسلام موقف واضح صريح أمام الجوانب السلبية من الحضارة وهي رفضها وإنكار الاستسلام أو القبول لأسلوب العيش الغربي في مسائل الأسرة والمرأة والخمر والتحلل الخلقي.

وأمامنا نتائج التجربة واضحة: فإن المجتمع الغربي حين اندفع خروجاً بالفردية إلى إسقاط حق المجتمع والأسرة والجماعة أو حين اندفع خروجاً بالجماعية إلى إسقاط حق الفرد والذاتية، حيث فعل ذلك في شطره الغربي أو ذلك في شطره الشرقي، فإنما جانب الأصالة والفطرة التي عملت رسالة دين الله الحق المنزل على إعلانها وإقرارها في المجتمعات والحضارات. وبذلك عمت هنالك أزمة العصر وأزمة الإنسان المعاصر الممزق نفسياً والمنحرف وذي الإحساس العميق بالغربة والقلق والغثيان.

ذلك لأن الطبيعة الإنسانية طبيعة جامعة بين مطامع المادة وأشواق الروح، فإذا أعطيت جانباً واحداً على النحو الذي تعطيه الحضارة الغربية اليوم فإنها تحجب الجانب الآخر وتعزل قطاعاً حياً في الإنسان لا يمكن أن يحيا بدونه.

وقديماً عرف الغرب الرهبانية وأعلى شأن الروحية وانعزل عن الحياة وأنكر الأسرة والمرأة والغرائز: غرائز الطعام وغرائز الدنس حتى فسدت الحياة فساداً شديداً، ثم هو في جولته الجديدة هذه ينحرف انحرافاً شديداً نحو المادة وإعلاء غريزة الطعام في الماركسية وغريزة الجنس في الفرويدية مع إسقاط الروحية والجوانب المعنوية إسقاطاً كاملاً.

ومن شأن المسلمين أن يوجهوا هذا الموقف مواجهة واضحة فيقيموا أسلوب عيشهم الاجتماعي الجامع بين الروح والمادة والعقل والقلب، وأن يقفوا من نزوة الجوانب المتصلة بالشهوات والغرائز والخمور والمخدرات موقفاً واضحاً في سبيل حماية كيانهم الفردي والإنساني ووجودهم الإسلامي في إطار تطبيق شريعتهم الإسلامية.

وليذكروا أنهم إنما يقفون في موقف الهدف المصوبة إليه النيران من جميع الجهات وأنهم في رباط دائم إلى يوم القيامة، وأن الأمم تزحف دوماً إلى أرضهم وتغزو وجودهم وكيانهم حتى تسيطر على مقدراتهم وتمتلك إرادتهم، وهم يواجهون هذا الخطر وهذا التحدي منذ ظهرت دعوة الإسلام ولا يزالون.

وما يمرون به الآن من صراع مع القوى الصهيونية والماركسية والاستعمارية ليس إلا مرحلة من هذه المراحل تتطلب منهم أن يكونوا على أهبة دائمة ويقظة دائمة وأن يكونوا قادرين على بناء الأجيال على هذه المفاهيم وفطمها عن الشهوات وقبول حياة التضحية والخشونة حتى يكونوا قادرين على الوقوف في وجه الخطر.

وأبرز ما هو مطلوب اليوم هو الاعتصام بأسلوب العيش الإسلامي البعيد عن الترف والتحلل. فالمسلمون يعيشون في مرحلة الخطر، وفي موقف المرابطة الدائمة في وجه الخطر المحدق بهم من كل ناحية.

أما أسلوب العيش الغربي القائم على التحلل والإباحة والترف فإنه سوف يقضي على وجودهم حين تجتاحهم قوى الغزو، فلن يقدروا على الوقوف في وجهها أو حماية بيضتهم.

ولما كانوا أصحاب رسالة ودعوة وعليهم أن يطبقوا شرعتها عليهم، فهم مطالبون بأن يعيشوا حياة الدعاة، حياة الصمود والصبر والخشونة والتجلد، ومن ثم فإن أسلوب القصة والمسرحية ليس أسلوباً أصيلاً وليس منطلقاً صحيحاً لبناء الوجود الإسلامي في المجتمع العربي المعاصر.

وهنا وقفة متريثة حول الأصالة والتبعية:

إن الأخطار والتحديات التي يواجهها الإسلام والعالم الإسلامي كله إنما تنبعث من مصدر واحد هو: مطامع النفوذ الأجنبي في استبقاء السيطرة واستمرار الاستيلاء والحيلولة دون تحرر الإرادة الوطنية والقومية لتحقيق السيادة وبناء الأيديولوجية الأصيلة والمنهج الراسخ المستمد من القيم الأساسية والمنابع الأصيلة والمصادر الذاتي.

إن قضية البقاء الأجنبي في عالم الإسلام تتصل أوثق اتصال بالعمل على إذابة هذه الشعوب في البوتقة الغربية وإخراجها من أصولها وقيمها ومن تراثها وفكرها، ولغاتها وتاريخها وإسلامها إلى التبعية الكاملة.

وعن هذا الطريق يمكن القضاء على -منهج الفكر الإسلامي- القائم على التوحيد والمستمد من القرآن الكريم.

ومن هنا يكون أخطر التحديات التي تواجه الإسلام والمسلمين اليوم والتي هي مصدر كل التحديات والأخطار إنما هو -الأصالة والتبعية- وفهمنا لها وموقفنا منها.

وإذا كانت تحديا الغزو الخارجي، وفي مقدمتها الغزو الثقافي قد تعددت في عشرات من القضايا والموضوعات والمفاهيم فإنها جميعاً يمكن أن ترد إلى قضية واحدة كبرى هي اليوم مجال التحدي الصحيح هي قضية الأصالة والتبعية.

فإذا تقرر رأينا فيها بوضوح وصدق أمكن على ضوء ذلك مواجهة كل التحديات والانتصار في كل المواقف والميادين.

وقد ركز النفوذ الاستعماري على هذه القضية بعد نكسة 1967 تركيزاً شديداً واعتبرها في مقدمة أهدافه، فحق علينا أن نلتفت إليها ونجعلها في مقدمة التحديات التي تواجه الإسلام والفكر الإسلامي والثقافة العربية -في هذا العقد الأخير من القرن الرابع عشر وأن الانتصار فيها هو مطلع النور للقرن الخامس عشر قرن انتصار الأصالة وهزيمة التبعية.

إن أخطر ما يواجه المسلمين والعرب أن المفكرين منهم يفكرون من داخل دائرة الفكر الغربي -وهذا هو سر أخطائهم، ومرجعه إلى ذلك التيار الضخم من التغريب الذي سيطر خلال السنوات الخمسية الماضية، فأول أهداف الأصالة هي التحرر من دائرة الفكر الغربي، ونقل التفكير كله إلى دائرة الفكر الإسلامي نفسه بمفاهيمه وقيمه الذاتية، ومزاجه النفسي والاجتماعي، إن لنا نظرية أصيلة كاملة في الاجتماع والنفس والتربية والاقتصاد فلنعرض عليها مواقفنا ولنعرض عليها مختلف ما يرد إلينا من نظرية الفكر الوافد، ولنظر إلى نظريات الفكر الغربي -بشقيه- على أنها نظرات تخص الآخرين استمدوها من بيئاتهم وظروفهم وتحدياتهم وعلينا أن نقف دائماً في ضوء فكرنا.

إن أي نظرية أو مذهب أو قضية يجب أن تعرض على أصول فكرنا العربي الإسلامي، ذلك أن فكرنا الجديد والمتجدد إنما يستمد نموه من جذوره، وهو في نفس الوقت مفتوح على الفكر العالمي والبشري.

إن أبرز حاجاتنا في هذه المرحلة هي تحرير العقلية العربية من استبعاد الثقافات الغربية والوثنية.

إن من حقنا أن نراجع مفاهيم الغرب على القيم الأساسية التي نؤمن بها والتي قامت عليها حضارتنا منذ خمسة عشر قرناً متصلة ليس فيها انفصال، ما أشد حاجتنا إلى اليقظة من خطر الاحتواء والإذابة. هذا الخطر الذي نجا منه الجيل الماضي ويجب أن ينجو منه جيلنا أشد بصيرة ويقظة وحرصاً، إن هناك محاولة للانقضاض علينا لإذابتنا في البوتقة الكبرى .. بوتقة الشعوبية العالمية؛ لنفقد ذاتيتنا ومزاجنا الخاص ونصبح تابعين أولياء لثقافات لا تصدر عن مصادرنا.

إن أمتنا لها منهج فكر وفلسفة حياة فعليها أن تعرف ذاتها وأن تؤكد شخصيتها.

والإسلام بالنسبة لنا ليس ديناً فحسب؛ ولكنه أيضاً منهج فكر ونظام مجتمع، فلنواجه الفكر الغربي ومذاهبه مواجهة صريحة في كل قضاياه.

وقد يقال أن هناك التقاء بين الفكر الفرنسي والفكر الألماني والفكر الأمريكي، ولكن من الخطأ أن يدعى الفكر الإسلامي إلى هذا اللقاء، ذلك أن من الواضح أن هذه الثقافات ذات أصول واحدة، أما الفكر الإسلامي فهو نسيج مختلف له طابعه الذاتي، ومن هنا فليس من العسير أن يلتقي الفكر الغربي إلا في أصول عامة تتعلق ببعض الجوانب الإنسانية.

لقد استطاع الفكر الإسلامي في القرن الرابع والخامس أن يحطم قيد الاحتواء الإغريقي وأن يخلص منه، وأن ينتصر عليه، حيث عجزت ثقافات كثيرة عن أن تحتفظ بوجودها في وجه هذا الإعصار الخطير (إعصار الهلينية).

على المثقفين العرب أن يفكروا بلغتهم، وأن يتحركوا من داخلهم، وأن يتجاوزوا سارتر وفرويد وماركس جميعاً.

أن أبرز أعمال المفكرين العرب والمسلمين في هذا العصر ومنطلق كفاحهم وغايته، هو -تحرير الفكر الإسلامي من هيمنة الثقافة الغربية والعقلية الوثنية اليونانية والباطنية القديمة، وهي نفس المهمة التي واجهت المسلمين من قبل وانتصر لها ابن حزم والغزالي وابن تيمية والأشعري وابن الجوزي والقاضي ابن العربي.

وذلك هو واجب أعلامنا ومثقفينا، وذلك تساؤلهم:

هل من حق الأمم أن تقبل كل ما يعرض عليها، وما هو مصير القيم الأساسية، هل هؤلاء المفكرون مبررون أم مصلحون، هل هم هداة أم نقادون في تيار كبير يريد أن يحتوي الفكر الإسلامي القائم على التوحيد المستمد من القرآن والذي يختلف عن الفكر البشري كله.

وإذا كان العالم اليوم تغزوه قوة شريرة هي -الصهيونية الماسونية العالمية- تريد تدميره فهل نقبل كل ما يقدم لنا. إن على مثقفينا مسئولية ضخمة هي -اليقظة- في مواجهة ما يقرأ، فلا يقبل كل ما يعرض عليه، وليجعل له مقياساً صادقاً لا يخيب ونافذاً لا يفل وصالحاً لا تفسده عوادي التحول من الأزمان أو التغير في البيئات، ذلك هو -القرآن- هذا النص الموثق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي قاوم كل محاولة لتحريفه، وعلى شبابنا أن يذكر أن كل ما يقال لا يؤخذ قضية مسلماً بها، وأن كل قول بعده يؤخذ منه ويرد عليه.

فالقرآن وحده هو الحق وليس بعده غير قول الرسول الصحيح فهو المعصوم بإذن ربه، وما بعد ذلك يعرض على القرآن ويقبل في ضوئه أو يرد.

كان منطلق اليقظة العربية الإسلامية يستمد مفهومه في فترة ما من معادلة تقول بالربط بين القديم والجديد، والماضي والحاضر، والشرق والغرب.

وكان هذا المنطلق، يمثل خطوة متعددة في طريق اليقظة بالنسبة للمفهوم السائد إذ ذاك والقائل بالقديم وحده أو الجديد كله.

ولكن نظرية التعادل والتجمع بين القديم والجديد لم تلبث أن عجزت عن أن تحقق شيئاً وكانت نقطة الضعف فيها هي غياب القاعدة الأساسية التي يقوم عليها البناء. هذا فضلاً عن أن مرحلة النقل والاقتباس والترجمة والاستعارة قد مضى بها الزمن، وانتقل الفكر العربي الإسلامي في ظل التحديات التي واجهته بعد النكبة 1948 والنكسة 1967 إلى آفاق جديدة قوامها -بلوغ الرشد الفكري.

ومن هنا فقد كانت الدعوة إلى -البناء على الأساس- هي المنطلق الحقيقي لمواجهة الوافد وفرزه ومراجعته ونقده، هذه القاعدة التي يجب إقرارها أساساً. ثم استئناف حركة الربط بين القديم والجديد والماضي والحاضر والشرق والغرب في ضوئها.

ولما كان الفكر العربي الإسلامي على مر العصور متفتحاً على مختلف الثقافات والأمم؛ فقد كان ملازماً ذلك على طول هذا التاريخ قيام قاعدة أساسية ثابتة صامدة راسخة، هي التي تحمي الفكر والأمة من الذوبان والتحلل والتميع والانهيار.

ولما كانت صيحة الغزو الثقافي قد واجهت الفكر الإسلامي منذ اليوم الأول حين حاول عبد الله بن سبأ إخراجه من قيمه ومفاهيمه الأساسية، وتابعه على الطريق عبد الله بن المقفع ومن جاءوا بعده من الباطنية والشعوبية، وفي مقدمتهم -إخوان الصفا- فقد كان إقراره هذه القاعدة، قاعدة الأساس هي صمام الأمن في انطلاق الفكر الإسلامي وتطلعه إلى التطور والحركة.

ولقد عملت دعوة التغريب منذ اليوم الأول لتطويق ما عجزت عنه الحركة القديمة، واصطنعت نفس شبهاتها وإن كانت تحمل من الأساليب والأدوات ما هو أشد نفاذاً وأقوى وأعنف في سبيل زلزلة قوائم هذا الفكر وقواعده، رغبة في تذويبه في أتون الفكر الغربي، أو احتوائه على الأقل ودفعه إلى طريقة التبعية والعبودية للفكر الغربي.

ومن هنا فإن -الأصالة- لم تعد في الحق عاملاً موازياً لعامل -الجديد- ليقوم الصراع بينها، ولكنها: هي قاعدة الأساس في البناء، ثم يقوم الاختلاف فيما فوقها حول التجديد أو المحافظة وحول الترجمة أو البعث، وحول مختلف القضايا التي تُثار من أجل تحرير الفكر العربي الإسلامي وتطويره ودفعه إلى الأمام، وإعطاء طبيعة الحركة لمواجهة المعاصرة والحدثية والتجدد.

ومن الحق أن الفكر الإسلامي له قوانينه الطبيعية التي تنظم له أمر تطوره وأمر حركته وأنها من قوانين أصيلة صحيحة مستمدة من جوهره، وقد كانت دائماً حاضرة أم تتخلف، وكانت قادرة دوماً على أن تمده بالتجديد والقدرة على الحركة والمواءمة مع الصور والحضارات والبيئات، دون أن يكون في حاجة إلى وصاية من فكر آخر، أو ثقافات أخرى لها أساليبها وقوانينها في التطور والحركة.

ولما كان الفكر العربي الإسلامي عميق الجذور، وبعيد الأعماق في التاريخ، وقد أمضى اليوم خمسة عشر قرناً حياً متألقاً متفاعلاً، مع الأزمنة والبيئات وقادراً على المواءمة والاستجابة فإنه ليس في حاجة لأن تصطنع له مناهج أو أساليب تستحدث من الثقافات الأخرى على النحو الذي يحاوله جاك بيرك أو مَن تابعوه دون إلقاء نظرة أوسع على الفكر الإسلامي في رحابته وأصالته وسعة آفاقه وعمق تراثه وبراعة مضامينه. وقاعدة الأساس في الفكر الإسلامي بسيطة سمحة غير معقدة وهي لا تخرج عن كلمة واحدة هي التوحيد، فلكل ما يصدم التوحيد يتعارض مع الفكر الإسلامي ويخالف مصادره الأساسية وهي الإسلام والقرآن وأن مراجعة يسيرة للتحديات والشبهات والأخطار التي تحشد لمواجهته وتحديه لا تخرج عن تراث وثني يوناني معارض كل المعارضة لطابع التوحيد، فأساس البناء هو التوحيد وهو مفرق الحق والباطل والحكم فيما يقبل ويرد.

فالتوحيد هو طابع الذاتية العربية الإسلامية وقوام المزاج النفسي والاجتماعي، فالأصالة هي التوحيد، والوثنية هي التبعية .. وكل المفاهيم والفلسفات والمناهج والنظريات التي ردها الفكر العربي الإسلامي في جولة الغزو الثقافي الأولى والقائمة اليوم، هي مفاهيم الوثنية المتمثلة في بعض مفاهيم التفسير المادي للتاريخ، والوجودية والتفسيرات النفسية والاجتماعية والتربوية التي تقوم على أساس إنكار الدين وشجب الأخلاق وإنكار المسئولية الفردية والبعث والجزاء.

فالفكر الإسلامي يقيم دعائمه التي تصدر عنها ثقافاته ومفاهيمه وقيمه على أساس الترابط بين العمل والمسئولية، وبين الروح والمادة، والعقل والقلب، والدنيا والآخرة. فإذا انفصل هذا الترابطـ، سقط هذا الفكر في الوثنية وواجه ذلك الخطر الخطير الذي يدمر الفكر العربي والنفس العربية والحضارة العربية ويوقعها في أشد أزماتها خطراً.

والفكر الإسلامي يقيم قاعدته على أساس التوحيد والنبوة والإيمان بالغيب والبعث والجزاء ولا يناقض نفسه في هذه الترابط الأكبر بين علمي الغيب والشهادة، وبين الدنيا والآخرة، وبين المسئولية الفردية والحساب الأخروي.

وتلك عقدة العقد في -الأصالة ومقومها الأساسي- فإذا تقررت على هذا النحو وهي مفرزة فعلاً لا سبيل إلى تجاوزها أمكن إقامة التوازن بين الجديد والقديم والماضي والحاضر والشرق والغرب.

أنور الجندي

abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 107 مشاهدة
نشرت فى 21 مايو 2013 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

305,720