بقلم الشيخ: التيجاني ندوي

الدراسات عن الإسلام التي اهتدينا إليها في غربي أفريقيا لا تشفي الغليل، لأنها دراسات عابرة لم تتناول بدقة وعمق حقيقة حال المسلمين هناك، كما أنها لا تعبر عن جوهر الحركة الإسلامية وعلاقتها بسياسة فرنسا المتسلطة على تلك البلاد، ولم تعن بتفاصيل  النهضة والانتفاضات الجهادية التي تسجل من هنا وهناك، والتي هي في نظر فرنسا، امتداد حقيقي للحركة الإسلامية في المغرب العربي وحركة مقاومة الغزو الفكري الأوروبي في  المشرق  العربي.

وإهمال هذا الجانب في سياسة المحتل، وعدم التركيز على طبيعة دور الإسلام في خضم هذه السياسة، في أواخر وأوائل القرنين التاسع عشر والعشرين، يعود، بدون شك، إلى سياسة  الاستعمار السائدة والمسيطرة على الظروف الدولية في هذه الفترة، واشتغال الناس أكثر فأكثر بمحاربتها بعدما أدركوا أنها تمثل قوة غريبة تستعبدهم وتستغل ثرواتهم، زيادة على أن جل الكتّاب في الموضوع بالذات وفي هذه الفترة التاريخية لا يعنيهم، سياسياً ودينياً، الأحداث التي تقرأ في كثير من الحالات على مسامعهم فينقلونها حرفاً بحرف أو مستعينين بوثائق تركتها إدارة فرنسا للأجيال.

            وقد أثبت التاريخ قديمه وحديثه بأن الوثائق هذه قد شوهت وجه الدين في هذا القطر، وحاولت أن تلوث الإسلام وتسيء سمعة علمائه، فحصلت في النهاية، تراجعات وانتكاسات سببت في الأفارقة نوعاً من التدهور كان له أثره في تشتيت قواهم وعزائمهم، وأفرزت تناقضات هيأت أجواء صالحة لمدارس الفكر الأوروبية كي تكتب عن دين لا تؤمن به، وعن حركة دعاة تناهضها على طول الخط.

            وفي كل ذلك تأخذ بنظرية الطائفية أو القبلية أساساً لاستنتاجاتها. غير أن الظروف التي حفّت بمنطقة غربي أفريقيا في أواخر وأوائل القرنين المذكورين سلفاً، والقيود والضغوط التي فرضتها السلطة على دين الأغلبية، أبرزت سبلاً جديدة وأساليب وطرقاً متنوعة للتحدي الأفريقي الإسلامي ضد سياسة المستعمر.

            والرسالة التي وجهها الحاكم العام إلى الأقاليم، تدل دلالة واضحة على حجم تخوفات وقلق السلطة السياسية من نشاط الدعاة وتنقلات الشيوخ عبر البلاد للتوعية الإسلامية، ومدى عمق انتشار الثقافة  العربية واستعمال الناس لها في شتى بلدان ومدن المنطقة. وأكثر من قرينة تثبت أن الاستعمار كان قد هاجم الإسلام ديناً والعربية لغة في هذه الديار، والمنشور الذي صدر من الحاكم العام في مقره الرسمي بجزيرة غوره وهي جزيرة على بعد بضعة أميال جنوبي داكار عاصمة السنغال يبين الخطة التي يلزم أن تتبع تنفيذاً للسياسة الإسلامية الفرنسية في كل من السنغال، والسنغال العالي، ونيجيريا، وغينيا، وساحل العاج، وداهومي..

            الإسلام والعلماء في نظر المستعمر ومكانة العربية في الدوائر الرسمية وحظر صحف وإنتاجات ثقافية تصدر من المشرق والمغرب العربيين من أهم النقاط التي يدور حولها هذا البحث.

وبالنسبة للنقطة الأولى كتب المشرف العام على سياسة المستعمرات يطلب توضيحات عن الاضطرابات المتكررة التي تحدث من حين لآخر في أماكن متفرقة لا يسيطر عليها تماماً، ويخبر الدوائر المعينة بأن الأمر يشغل باله ويأخذ منه التفكير فيه والاهتمام به أوقاتاً؛ وألح على ضرورة القضاء عليها في مهدها، إذ الغاية منها هي القضاء على الوجود الفرنسي والحضارة الأوروبية. والرسالة صريحة في قولها: (وهذه الفوضى التي تندلع في الأحياء العامرة بالمسلمين تظهر غالباً بعد مرور دعاة أو  علماء يدّعون أنهم حملة رسالة  الإسلام، ويقطعون بها الفيافي التي تفصل بين القرى مع وعرة المسالك، ويدعون إلى الثورة، التي تفني الكفار والزنادقة، وتكون حتماً نهاية السيطرة والاستعمار والغزو  الأوروبي، ليحل محلها جند مسلمون يأتون من شمالي أفريقيا! وواجب كل حاكم مقيم إذن، أن يشرح للسكان تحت إشرافه الإداري مع احترام معتقداتهم بأن مهمته حمايتهم ضد الصعاليك الذين يفتكون بهم باسم الثقافة العربية والدين الإسلامي كما يغرّونهم في أغراض الدين).

            وهكذا، أصدر الحاكم العام أمراً يقضي:

أولاً – بالقبض على أي داعية أو عالم أجنبي في إقليم يقوم فيه بدون سابق إذن بالوعظ والحديث الديني.

ثانياً – وجوب حبسه بعد القبض عليه حتى نتبين أنه ليس من الزعماء الدينيين الذي يثيرون الفتن ويعكرون الصفو والأمن العام.

ثالثاً – رفع تقرير إلى الحاكم بعد كل ذلك للنظر ما إذا كان ممكناً أن يفرج عنه ليستمر في رحلته أو يوقف نهائياً، ومهما يكن من أمر، فإن العالم ثائراً أو هادئاً في حله وترحاله ملزم أن يصحب أوراقه المدنية، كبطاقة الشخصية، وبطاقة التعريف، وشهادة الميلاد، وكثيراً ما تكون معرفة الطريقة والمذهب والعائلة التي ينتمي إليها مهمة عند الكشف والتفتيش.

            وقد تلا الرسالة التي ذكرناها منشور هام تضمن أوصافاً عامة عن الإسلام في أفريقيا – حرر سنة 1911م.

            ويعتبر هذا المنشور بمثابة رد لها، ولكن وردت فيه أكثر العبارات طعناً وعداءً على الدين وعلى عقل الإنسان الأفريقي كما يدعي المستعمر إسلام خاص بها، ومن تحصيل حاصل.. القول بأن الإسلام في المشرق والمغرب وأوروبا وأمريكا هو نفسه في القارة الأفريقية، وهو فيها ليس مرادفاً للعادات والتقاليد والوثنية والسحر والخرافات. ومن المؤسف أن ينظر عديد من المسلمين إلى الدين من منظار الغرب الأوروبي الذي لم يتصرف قادته على حقسقة أفريقيا أو ينفذوا إلى أسرارها طيلة قرون.

محاربة العلماء بالشائعات..

            ولكن السلطة التي صرحت أنها لا تؤيد أو تحارب الإسلام رأت من واجبها منع مَن وصفتهم بالخونه من الأئمة من استخدام الدين لإشباع الأطماع الشخصية على حساب القبائل التي تتمسك به ولا تعرف عنه  الكثير، وتعتقد رجاله رسلاً يملكون أسرار ما وراء الطبيعة، ويعومون في الأجواء متحكمين بالأرواح الخيرة والشريرة. وتبع هذا الوصف الكاريكاتوري لأهل الدين اكتشاف طريقة تحول دون ازدهار الإسلام، وتتمثل في فرض كل أنواع الرقابة التي هي إحدى ركائز سياسة فرنسا في البلاد الإسلامية، وفي استغلال الاختلاف والتمايز الذي يوجد بين القبائل المسلمة من ناحية اللهجات فرصة لإحداث فجوة في صفها، وخلق حالات تلهيها عن التفكير في ضرورة التضامن والتآزر للدفاع عن عقيدة واحدة ودين واحد؛ ولكن الخطاأ كله في الاعتقاد بأن الاختلاف في الألسن والعادات بين الشعوب كان في يوم من الأيام سبباً في اختلاف جوهري لأهل دين واحد. والقول الذي أذاعه المستعمر الذي هو بقدر ما تتعدد الخلافات بين القبائل الأفريقية بقدر ما تختلف نظرتها إلى دينها لا يستند إلى منطق سليم، لأن ذلك إثبات بأن القرآن  الكريم والصلاة وصوم رمضان وحج اليبي.. ليست هي في سائر أقطار العالم الإسلامي.

            وأكثر من ذلك أعطت السلطة لكل قبيلة طريقة هي دينها، فقبيلة البولار تتمسك بالطريقة التيجانية، وهذه الطريقة كان عليها الشيخ عمر الفوتي أول من حاول أن يسد الطريق في وجه المحتل: وسكان فوتاجالون من الفولانيين كانوا أيضاً في هذه الطريقة التي تراها فرنسا ديناً. وقبائل وولوف تلتف حول النظرية الصوفية للشيخ أحمد بامبا مؤسس الطريقة الموربدية.

            وقد طاردت الإدراة الفرنسية الأئمة حين استاؤوا واستنكروا تدخلها في شؤون دينهم، واعتبرتهم عملاء يروجون الأخبار الخاطئة ويوهمون الناس أن على عاتقهم مسؤولية تبليغ رسالة الإسلام التي جاءت من المشرق..

            والتقرير العام عن سياسة فرنسا في أفريقيا الإسلامية صنف الجماعات الإسلامية بين من تعادي الاحتلال الأوروبي وتثور ضده في كل مكان وبأي وسيلة، وتجاهد من أجل أن تعيش حياتها الإسلامية في حرية، وإلى من تتعاطف معه في تحقيق أغراضه التوسعية؛ ويبدو أن بعض الأئمة الذين كانت لهم مناطق النفوذ والتأثير السياسي والديني ترك القيادة السياسية للنفوذ الفرنسي، ومن هؤلاء الشيخ سيدي الموريتاني، والشيخ سعدا ببه، وإذا كان لهذه الأسر الدينية الفضل في نشر الإسلام في ربوع موريتانيا، فإنها كانت أيضاً عمدة ومناصرة توسع فرنسا في الصحراء شمالي تشاد.

            ولا غرابة بعد ذلك أن تلاحظ الإدراة الفرنسية بأن "الوقت ليس للتطاحن وإشعال نار الفتنة بيننا وبين زعماء الإسلام.. بالعكس يتطلب الوقت إعداد إجراءات تفرض علينا احترام الشخصيات الدينية وتفادي مصالحها واحترام عقيدة الشعوب، وبذلك نستطيع أن نحوّل السلطة الدينية إلى سلطة أخلاقية مطيعة تخدم أفكارنا ومثلنا."

الدمج الثقافي..

            والجدير بالذكر، أن هذه السلطة الأخلاقية بدأت تتبلور وتتنسق مع التعليم العمومي الذي دخل في مرحلته الأولى في مجموعات إسلامية.. والاستعمار منع عقب ذلك أي عمل جماعي تقوم به الطوائف الدينية ضد المؤسسات الأوروبية. ولم يكتفِ الحاكم بهذا العمل المنهجي الحافل بالنتائج بل أرسى سياسة جديدة أبقى أثراً في الإنسان ومحيطه، وهي سياسة الدمج الثقافي وغزو المسلم الأفريقي حتى يدرك الأشياء فرنسياً، ويتحسس ويقيس الأمور أوروبياً، وهذه غاية المرام، لأن المستعمر يعتبر نفسه حاملاً رسالة الحضارة الغربية في هذه الديار، وعليه يجب أن يلين ويتلطف حتى يقيم علاقات وثيقة مع الأهالي، ويدخل فيهم بوسائل تمتعهم بالعقلية الفرنسية، والمدرسة وحدها هي الطريقة المثلى الكفيلة بتلقين ونقل الحضارة إليهم وترسيخ الأفكار والمبادئ.

            ومن هذا المنطلق نشأت فكرة إقامة مدارس وتنظيم تعليم الأهالي حيث سجل سنة 1909م في المدارس الجديدة عشرة آلاف طفل، وهذه  المدارس التي عرفت زيادة ونمواً وتنظيماً عبر السنين من حسن إلى أحسن هي النواة الأولى للمدارس التي نعرفها اليوم، ويتخرج منها كبارُ رجال الدولة في أفريقيا قبل وبعد الاستقلال، غير أن المحتل معجب بإنجازه ولغته وثقافته حين جعل المتعلم أو المثقف الأفريقي بالثقافة الأوروبية سعيداً ومميزاً بين أترابه، ويحتل مكانة رفيعة في الأسرة والمجتمع.. وبدون حياء كتب التقريرُ المذكور سلفاً: (يحب السود أن يتثقفوا أو يفهموا أموراً كثيرة، وهم يريدون أن يتذوقوا الثقافة الفرنسية، وتبدو لغتنا عندهم ميزة من ميزات العزة والتقرب بنا، وعلامة من علامات التفوق، إذ لا يتعلم الأفريقي في مدارسنا إلا أموراً مفيدة ومعلومات تخدمه في حياته اليومية. فالتاجر مثلاً يحتاج، لزيادة أرباحه وتنمية موارده، إلى مزيد من معلومات.. فيتعلم القراءة والكتابة والحساب والتاريخ، والإقبال الكبير لمدارسنا يفقر الإسلام ويسلخ منه الطابع العدائي العنيف الذي يتصف به إسلام عديد من السكان).

            وإلى جانب المدارس العمومية، اقترح الحاكم العام إنشاء مدارس في الأقاليم ذات الجماعات الإسلامية الكثيفة لإيجاد علاقات التفاهم، وضمان سرعة سيولة الأفكار الجديدة في الأوساط الشعبية التي تئن تحت وطأة وبطش حكام يعملون كل شيء لإعاقة حرية الممارسة الدينية وتؤيدهم في ذلك فئة من علماء الدين الذين لا يعرفون من الدين أكثر من قشوره وظواهره، ولكنها لا تريد أن تجاهد الاستعمار وتواجه بطش المستبد بالحديد والنار، علماً منها أن الدين الإسلامي دعوة إلى التحرر من ربقة العبودية، وقد بلغت هذه العبودية ذروتها حينما تخدم المستعمر الدخيل الذي يذل الإنسان وينهب الخيرات والقيم. وكان معلمون أكفاء من الجزائر ومن أفريقيا يدرسون في هذه المدارس التي ليست أكثر من مدارس شعبية –علوم القرآن والحديث وكتب العبادات- وكان الطابع الليبرالي طاغياً على برامجها التي تتضمن الفرنسية أيضاً، ولكن سرعان ما انتقدت الإدارة الفرنسية النتائج التي توصلت إليها هذه المؤسسات من الناحية البيداغوجية ولم تنجح في جعل شعوب المستعمرات، تفهم الإسلام في إطار ا لفكر الغربي، ويقف موقف المتقبل لاتجاهات هذه المدارس الأساسية، وأدى كل ذلك إلى إدخال تعديلات في قانونها الداخلي وفي مواد ومنهج التعليم.

            ومهما قيل، فإن التوسع المتزايد للثقافة الفرنسية في أفريقيا تحت وطأة الهيمنة الفرنسية كان على حساب الثقافة العربية الشديدة الانتشار والازدهار في المدارس القرآنية الكثيرة وفي  المساجد؛ وكان الحاكم يشن حملات شعواء عنيفة ليس فقط ضد اللغة العربية.. ولكنه أيضاً ضد اللهجات الأفريقية، ووصف السكان بالسفاهة والخمول وفقدان الذاكرة؛ وأخطأ في مقارنته بين اللغات الغربية وفي طليعتها الفرنسية واللغات الشرقية وعلى رأسها العربية حين قال: (.. ليقرأ الأفريقي نصاً من القرآن الكريم قراءة صحيحة يلزمه على الأقل عشرون سنة من العمل المستمر، وثلاثون سنة من الجهد والدراسة لفهم النصوص وتحليلها تحليلاً سليماً، ثم إن التعليم الذي يقوم به زعماء الدين والدعاة ليس له أي فائدة عملية في حياة الطالب لأ،ه يتوجه رأساً إلى العقول. بخلاف الفرنسية التي تعطي الأفريقي إمكانات واسعة للمحادثة والنقد والنطق بها إذ يكفي ستة أشهر ليكون الفرد قادراً على التعبير وتفهم مقاصده).

            ولهذا منع الاستعمار الأهالي أن يتعلموا لغة أجنبية "اللغة العربية" ليست لها فائدة حياتية، لا سيما وأنه يجهلها تماماً ولا يعرف مضامينها، وتشكل خطراً كبيراً، وعائقاً دون تحقيق سياسة الغزو الثقافي الذي يعتبر من الحركات الأساسية للاحتلال والاستعمار، بينما وضع الشعب ستاراً بينه وبين الرسالة التي رأى المحتل أن أداءها واجب مقدس، وهي بث أفكار ونظريات تضيق خناق الإسلام وتجعله منعزلاً عن التيارات الأساسية الإسلامية. وهكذا كان المستعمر جاداً في محاربته العربية بمحاربة الإسلام، وكان يعلم علم اليقين أنهما متلازمان تلازماً يكاد يكون عضوياً، ولهما وجود عملي في المحاكم الإسلامية والإدارة العامة، ويكفي لإثبات أن الإدارة الفرنسية في المستعمرات الأفريقية كانت شديدة المعاملة مع المسلمين، وعنيفة اللهجة مع الرعية بصورة لا يمكن أن يوجد لها سبب ظاهر في مستوى المستعمرات إذ في نظر المستعمر يحمل الشيوخُ أفكاراً ثورية وإصلاحية ليست أفريقيّة بقدر ما هي شرقية إسلامية، جاءت إليهم عن طريق الصحراء من المغرب ا لأقصى والمشرق، وكلمة الرابطة الإسلامية التي وصلت إلى القارة عن طريق المستعمر تدل على أنه كان يحلل ويفسر رفض الأهالي الأخذ بثقافته ولغته ودينه وخدماته بما كان يقوم به أشقاؤهم في العالم الإسلامي الذي بسطت فرنسا إليه نفوذها، وربط نشاط الجماعات الإسلامية الرافضة كل الخيرات التي يقدمها إليها بالنشاطات التي كانت تقوم بها جمعيات تأسست في العالم العربي مشرقه ومغربه، مثل جمعية تونس التي أسسها الثعالبي سنة 1907م، والجمعية القحطانية 1909م، والمنتدى الأدبي 1909م، والجمعية العربية الفتاة التي قامت في المشرق سنة 1911م.

            ومن جهة أخرى فالرسالة التي وجهها الحاكم العام وليام بوتي في 18 سبتمبر/أيلول 1911م إلى الحاكم في السنغال والسنغالي العالي، ونيجر، وإلى الوكيل العام ورئيس مصلحة القضاء في المستعمرات في شأن توقيف استعمال العربية في تحرير الأحكام القضائية في المحاكم الشرعية تصور ما كان في نفوس الدخلاء من أنفة ونفور وبغض، ولم يتصور الاستعمار يوماً ما أن تعيش هذه اللغة التي وجدها عند الأفارقة إلى جانب لغة هاجرت معهم من الغرب الأوروبي جديدة تبحث عن زبائن فيما سُمّي فيما بعد بالعالم الثالث أو بلاد ما وراء البحر؛ وفي بيان بتاريخ الرابع من شهر مايو/أيار للسنة نفسها، كتب وليام بونتي بخصوص اللغة العربية في المحاكم: (يجب حظر استعمال اللغة العربية ليس فقط في تحرير الأحكام القضائية، ولكن يلزم أيضاً الوقوف عن العمل بها في سائر النشاطات الإدارية التي تنفع الأهالي)، ودوّن البيان عيوب العربية ونقائصها وعجزها عن مواكبة التقدم الذي يحرزه القضاء يومياً. وكان القضاء الإسلامي في المدن الكبيرة: في سان لويس، وروفيسك، وغاي مستقلاً استقلالاً ذاتياً ولغته الرسمية هي العربية، وكان المنع يستهدف أساساً محاكم المدن الثلاث السابقة الذكر. ولكن بونتي الذي يخشى من مغبة الإدارة الفرنسية المحاكم الشرعية، إذ العربية حافظت باستقلالها، قال مرة أخرى في البيان نفسه بأن العربية الإسلامية، على الرغم من اختصاصيتها، يجب أن تبقى داخل المجموعة وخاضعة للتطور العام الذي تخضع له المستعمرات بجميع مؤسساتها، وينبغي أن تكون في مستوى القضاء الفرنسي نفسه في أفريقيا، وعلى درجة من التنسيق يلبي الحاجات الجديدة؛ والبيان واضح في قوله: (إن إحلال الفرنسية مكان العربية في الوقت الراهن ضرورة أكيدة لأن المؤسسات القضائية الإسلامية يلزم أن تستفيد بالمكاسب والتجارب حتى يتسنى لها مواجهة المهام الجديدة).

            والحاكم العام وليام بونتي نفسه يفرض رقابة دقيقة وشديدة على الصحافة الإسلامية في رسالته رقم 105 في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1911م إلى الحكام في المستعمرات الفرنسية الأفريقية وإلى المفوض السامي للحاكم العام في موريتانيا؛ وفي ذلك سجّل بونتي: بأنه لاحظ أن السوريين والمغاربة بدأوا منذ مدة غير يسيرة يدخلون كميات ضخمة من مطبوعات بصورة لا شرعية في المستعمرات. وهذه  المطبوعات هي كتب وصحف ومجلات من جميع التيارات حُرّرت بالعربية وتنتقد بصورة معلنة المبادئ والأعمال التي تم تحقيقها في المنطقة، وتظهر فيها صور ورسوم تشخّص الحياة الدينية والإسلامية فيها. وهذه  المطبوعات تقدم إلى الزعماء والتلاميذ والمعلمين في المدارس القرآنية يقرؤونها أو لا يعرفون قراءتها بينما يبيعون الصور والرسوم للسوريين والمغاربة.

            وأمام هذه الحالة التي لا تبشر بالخير بالنسبة للاستعمار، أصدر هذا الأخير أمر مطاردة وملاحقة هؤلاء في كل مكان واستغلال كل الفرص للحد من نفوذ الشيوخ الذين لا يتقبلون سياسة فرنسا الإسلامية ولا سيما النخبة المستنيرة التي تتغذى فكرياً وثقافياً بتلك المطبوعات. وهذه الدوريات من الصحف والمجلات والكتيبات الدينية المتنوعة هي في الغالب أخلاقية بعيدة عن العنف والثورة والتحدي، إذ توجد غالباً عند التفتيش أنها تمجد دين محمد صلى الله عليه وسلم وتدعو إلى نموه وازدهاره بين الناس، ولكن سرعات ما يرى المحتل بأنها مليئة بدعايات ساسية مخربة تقوم بها باسم الدين لتتمكن من تزوير الخدمات الحضارية التي تتم في أفريقيا، ومن ثم أصدر الحاكم تعليماته إلى رؤساء مصالح البريد والجمارك في المستعمرات أن يشددوا الرقابة على كل المطبوعات المكتوبة بالعربية سواء أكانت قد أرسلت بالبريد أو بغيره، ثم تتلَف أو تحرق كل مطبوعة، جريدة أو مجلة أو كتاب يعادي النظام القائم أو تؤيد حركة الشيوخ، أو تروي عن حركات الإصلاح أو المقاومة في المشرق والمغرب العربيين، والموظف المشرف على منع دخول المطبوعات يكفي له لتعليل عمله بأن القانون الجاري به العمل يحرم تماماً تداول الصحف الدورية والصور والرسوم، وفي أي قطر في أفريقيا الفرنسية ما  عدا القرآن الكريم، وكتب الشروح والتفاسير، وكذلك كتب العبادات؛ على الأقل يدرك وليام بونتي أن ليس من الحكمة وحسن السياسة أن تمنع سلطة المستعمرات تداول هذه الكتب بعد ما أكدت أنها تحترم عادات الناس ومعتقداتهم الدينية: (نحن ملزمون رسمياً باحترام أراء وأفكار الرعية إذا كانت على طبيعتها الدينية).
مجلة الأمة، العدد 49، المحرم 1405هـ

abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 121 مشاهدة
نشرت فى 19 يونيو 2012 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

298,618