العدد 1875- الإثنين 27 ذو الحجة 1425 هـ إسلامية-أسبوعية- جامعة NO 1875 MON 27 Dhul Hijjah 1425H 07 Feb 2005

الصفحة الثالثة عشرة

1





آل طالب: المسلم التقي هو الذي يخاف أن لا يقبل الله منه صيامه وصلاته وصدقاته

مكة المكرمة - «العالم الإسلامي»

● شرح فضيلة الشيخ صالح آل طالب إمام وخطيب المسجد الحرام حقيقة التقوى، مشيراً إلى أن التقوى تعني ألاّ يغتر المسلم بعمله، حيث يخاف أن لا يقبل الله منه صيامه وصلاته وتصدقه، لذا فإن المسلم التقي يرجو ويخاف ويأمل ويخشى.

وأضاف آل طالب في خطبة الجمعة في المسجد الحرام أن أحوال الحياة كأحوال الحاج، يسار بها على مراد الله وليس العكس، وأن التساهل في تجاوز الحدود يذهب أثر التزامه الحدود التي ينبغي أن يلتزم بها عند تأدية حجه بنظام وانضباط ملتزماً الحدود والمواقيت، ملتزماً بمكان وزمان كل منسك من مناسك الحج، مجتنباً المحظورات صابراً وإن لحقته مشقة.. إلى نص الخطبة:

أيّها المؤمنون، حجّاجَ بيتِ الله الحرام، أيّامٌ معدودة مرَّت وليالٍ كالأحلام فرّت، تزاحَمت فيها الجموع، وسكِبَت فيها الدموع، كم فيها من توبةٍ ورجوع وإنابة وخضوع، يجلِّل ذلك كرمُ الله بمغفرةِ الذنوب وإجابة الدعاء وكشفِ الكروب، في الصحيحين أنّ النبي قال: ((من حجَّ هذا البيتَ فلم يرفث ولم يفسق رجَعَ كيومِ ولَدته أمُّه))، أي: نقِيًّا من الخطايا، وفي الصحيحين أيضًا أنّ النبيَّ قال: ((العمرةُ إلى العمرة كفّارة لما بينَهما، والحجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)). فيا ليتَ شِعري، مَنِ المُجاب مِنّا؟ ومَن المقبولُ فيُهنَّا؟

أيّها المسلِمون، ومعَ الثّقةِ بكرَمِ الله وعفوِه ورجائه وعطفِه إلاّ أنّ المسلم يسأل الله القبولَ ولا يغترّ بعمَله، بل يرجو ويخاف ويأمَل ويخشَى، وفي صِفات المؤمنين: إ{ِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (المؤمنون:57-61).

سألت عائشةُ رضي الله عنها رسولَ الله عن هذهِ الآية: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ: أهُم الذين يشرَبون الخمرَ ويسرِقون؟ قال: ((لا يا بنتَ الصديق، ولكنّهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدّقون وهم يخافون أن لا يُقبَل منهم، أولئك الذين يسارِعون في الخيراتِ)) رواه الترمذي بسند صحيح.

وهذه حقيقةُ التقوى أيها المسلمون، والتي ذكرَها الله تعالى في آخرِ آياتِ الحجِّ، حيث قال سبحانه: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } (الحج:37)، كما قال سبحانَه في الصّيام: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:183) فهل نحقِّق التقوَى في حياتنا مستقبَلاً كنتيجةٍ تحصَّلنها مِنَ الحجِّ؟ عندما يؤدِّي الحاجّ نُسُكه بنظامٍ وانضباط، ملتزِمًا الحدودَ والمواقيت، ملتزِمًا بمكانِ وزمان كلِّ منسَك مِن مناسك الحجّ، مجتنِبًا المحظورات، صابرًا محتسِبًا وإن لحِقَته مشقة، راجِيًا بذلك ما عند الله، مدرِكًا أنّه يستطيع الاستغناءَ عن كثيرٍ من تَرَف الدّنيا، والتي رأى أنها غيرُ ضروريّة في الحجّ، وأنه يمكِن الاستغناءُ عنها. ومِن هذا الالتزامِ بالأماكِنِ والأوقات يعلَم أنّ الهوَى يُقيَّد بالشرع، وأنّ أحوالَ الحياة كأحوال الحج، يُسَار بها على مرادِ الله وليس العكس، وأنَّ التساهلَ في تجاوزِ هذه الحدود يُذهِب أثرَ هذا الالتزام.

فهذه هي التقوى التي يتربَّى عليها الحاجّ ويسير عليها في حياتِه حتى يلقَى اللهَ متعامِلاً بمقتَضاها مع أوامِرِ الله ونواهيه. وكما أنّ الحجَّ لا رفثَ فيه ولا فسوقَ ولا جدال، فإنّه تربِيَة وتهذيبٌ للسّلوك ليصبِحَ ذلك خلُقَه دائمًا، وليكونَ كما وصَفَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((ليس المسلِم باللّعان ولا الطّعان ولا الفاحش البذيء)). هذه بعض معالمِ التقوى في الحجّ، فليستَحضِرها المسلمُ مع قولِ الله عزّ وجلّ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ} (المائدة:27)، وليضَع نفسَه في الميزان.

أيّها المسلمون، حجاجَّ بيت الله العتيق، أما وقد وفَّقكم الله تعالى لمرضاته، ويسَّر لكم التعرّضَ لنفحاته، فاستقيموا على أمره، وليحذَرِ المسلم أن يلوِّثَ صحيفتَه البيضاء، {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} (النحل:92) وإنّ مِن أولى ما يوصَى به المسلم بعد التّقوى ما أوصَى به النبيّ سفيانَ رضي الله حينما قال: يا رسولَ الله، قل لي في الإسلامِ قولاً لا أسأل عنه أحدًا بعدَك، قال: ((قل: آمنتُ بالله، ثمّ استقم)) رواه مسلم.

ومَع استقامةِ العبدِ فإنّه معرَّض للخَطَأ والتّقصير؛ لِذا قال الله عزّ وجلّ: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} (فصلت:6)، وإلى ذلك أشار الحديثُ الصحيح الذي رواه أحمد وابن ماجَه عن ثوبان رضي الله عنه أنّ النبيَّ قال: ((استقِيموا ولن تحصُوا، واعلَموا أنّ خيرَ أعمالكم الصلاة، ولا يحافِظ على الوضوءِ إلا مؤمِن))، وفي رواية لأحمد: ((سدِّدوا وقاربوا، ولا يحافظ على الوضوءِ إلا مؤمِن))، وفي الصحيحَين أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلمقال: ((سدِّدوا وقارِبوا)). فالمطلوبُ مِنَ العبد الاستقامة وهي السّدادُ، فإن لم يحصُل سدادٌ ولا مقارَبَة، فهو مفرِّط مضيِّع.

أيّها الحاجّ الكرِيم، ما أجملَ أن تعودَ لأهلك ووطنِك بعدَ الحجّ بالخلُق الأكمَل والشِّيَم المرضيّة والسجايا الكريمة، حسَنَ التعامُل مع زوجِك وأولادك وأهلِ بيتك، طاهرَ الفؤاد، ناهِجًا الحقِّ والعدل والسّداد. إنَّ الحجَّ بكلِّ مناسكه قد زادَك معرفةً بالله، وذكَّرك بحقوقِه وخصائِصِ أُلوهيّتِه جلّ في علاه، وأنّه لا يستحقّ العبادةّ سواه، فهو الواحد الأحَد الذي تسلِم النّفسُ إليه ويوجِّه المؤمِن إليه، {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام:79)، فكيف يهون أن تصرِفَ حقًّا من حقوقِ الله إلى غيره كالدعاءِ والاستعانةِ والقَصد والنّذرِ؟! أين أثرُ الحجّ فيمن عاد بعد حجِّه مضيِّعًا للصّلاة مانعًا للزّكاة آكلاً للرِّبا والرّشا لا يبالي بأمرٍ أو نهي؟!

أيّها الحاجّ، الزَم طريقَ الاستقامة، وداوِم العملَ فلستَ بدارِ إقامة، واحذَرِ الرياءَ، فرُبَّ عملٍ كبير تصغِّره النية، وربَّ عملٍ صغير تكبِّره النية. ليَكُن حجُّك أوّلَ فتوحِك وتباشيرَ فجرِك وإشراقَ صُبحك وبدايةَ مولدك، {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر:99)

أيّها المؤمنون، بالاستغفارِ تُختَم الأعمال الكبار، وطوبى لمن وجَدَ في صحيفتِه استغفارًا كثيرًا، ومِن علامةِ قَبول الحسنة إتباعُها بالحسنة، لأن مَن قَبِلَه الله وقرَّبه وفَّقه للصّالحاتِ ووقَاه السيّئات، فاحرِص ـ رعاك الله ـ على حِفظِ عَمَلك وصيانة نفسِك، وسدِّدوا وقارِبوا، وأبشِروا وأمّلوا، والإخلاصُ والصوابُ عليهما مدارُ القبول.

جعَلَك الله بالجنّة فائزًا، ولأعلَى الدّرَجات حائزًا، وجَعَلنا وإيّاك ممّن تدعو لهم الملائكةُ بقولِ الله عزّ وجلّ: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (غافر:7-9).



الأولى العالم هذا الأسبوعحوارات مراسلونإقتصادأوراق ثقافيةندواتطبالأسرةأقلياتالهجرةالدعوةالخطبالإنجليزيةالأخيرة



الصفحة الثالثة عشرة

2



خطبة الجمعة من المسجدالنبوي الشريف

الحذيفي: الإخلاص في العبادة يزكي الأعمال ويطهرها وينميها

المدينة المنورة - «العالم الإسلامي»

● أوضح فضيلة الشيخ علي عبدالرحمن الحذيفي إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف أن الإخلاص هو الذي يزكي الأعمال ويطهرها وينميها، مؤكداً أن العمل لا يكون حسناً حتى يكون خالصاً لله عز وجل على شريعة رسول الله.

وقال الحذيفي في خطبة الجمعة في المسجد النبوي الشريف إن العمل يكون بصورة واحدة، ويختلف حكمه بحسب النية الصادقة والإخلاص أو نية السوء والمخادعة فيه، فالمخلص في عمله من المقربين، والمخادع المدخول النية من المبعدين المعذبين.. إلى نص الخطبة:

عِبادَ الله، اعلَموا أنَّ الله غنيٌّ عن العالمينَ، لا تنفعُه طاعة الطائعِين، ولا تضرّه معصيةُ العاصينَ، وإنما نَفعُ الطّاعةِ لفاعلِها، وضرَرُ المعصيَةِ لصاحبِها، قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} (الجاثية:1)

ولمّا كانَ العبدُ مخلوقًا لعِبادةِ الله تعالى ولاَ صَلاحَ له ولا فَلاحَ في الدّارَين إلاّ بتحقيقِ هذهِ العبوديّة بَيَّن الله له أنواعَ العِبادة، وفصّلها للخَلق في الكتابِ والسنّة، وبيَّن ما يُضادّ هذه العِبادةِ؛ ليتقرّبَ المسلِم إلى ربِّه بفعلِ كلِّ أمرٍ أمرَه الله به، وبِتركِ كلِّ نهيٍ نهاه الله عنه، قالَ الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الحج:77)، وقال تَعالى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر:7)، وقال: ((مَا نهيتُكم عَنه فاجتنِبوه، وما أَمرتكم بِه فأتوا مِنه ما استَطَعتم، فإنما أَهلَك مَن كان قبلَكم كَثرةُ مسائِلهم واختلافُهم على أنبيائِهم)) رواه البخاريّ ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

والعِبادةُ تقرُّبٌ إلى الله عزّ وجلّ بما شرَع بحبٍّ وخُضوعٍ تامّ واستسلامٍ لربّ العالمين، قالَ الله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} (الزمر:54)، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (آل عمران:31)، فلا يتَقرّب أحَدٌ إلى الله تعَالى ولا ينالُ رضوانَه إلاّ بأن يعمَلَ الطاعةَ على نورٍ مِنَ الله، ويترك المعصية على نور من الله، فلا يَبتدِعُ في دينِ الله، ولا ينحرِف عن شرعِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن عمِل عملاً ليس عَليه أمرُنا فهو ردّ)) رواه مسلم، و((من أحدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ)) رواه البخاري ومسلم من حديثها.

وروحُ العبادةِ والقُرُبات وشرط قَبولها هو الإخلاص، فالإخلاص هو عمَلُ القلبِ الذي يحبّه الله ويرضاه، والإخلاص هو الذي يزكِّي الأعمال ويطهِّرها وينمِّيها، فيبارك الله فيها وينفَع بها، ويجزِل الله به الثوابَ، والإخلاص هو الذي كلَّف الله بالتزامِه العباد، وهو الذي ابتَلاهم الله به ليحقِّقوه فيثابوا، أو يضيِّعوه فيعَاقَبوا، قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } (الملك:2)، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (هود:7)، وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الكهف:7)، قال ابن كثيرٍ رحمه الله تعالى في تفسيره: "ولم يقل: أكثر عملاً بل أحسن عملاً، ولا يكون العمَلُ حسنًا حتى يكون خالصًا لله عز وجلّ على شريعةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمتى فقَد العمل واحدًا من هذين الشّرطين حبط وبطل"اهـ، وقال الفضيل بن عياض رضي الله عنه في تفسير لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً: "أَخلَصُه وأصوَبُه، فإذا كان العمل خالصًا ولم يكُن صوابًا لم يُقبَل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبَل، فلا بدّ أن يكون خالصًا صوابًا".

وقد أمر الله بالإخلاص في الطاعاتِ والفرائض وفي كلِّ ما يأتي المسلم ويذَر مما أمر الله به أو نهى عنه، فقال تعالى:{ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة:5)، وقال تعالى: {فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (الزمر:2، 3)، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمِعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما الأعمالُ بالنيات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هِجرتُه لدنيا يصيبُها أو امرأةٍ ينكِحها فهِجرته إلى ما هاجَر إليه)) رواه البخاري ومسلم.

ومعنى الإخلاص نَقاءُ النيّة والعَمَل وتصفيَتُهما من كلِّ خَلط وشائبة تُبطِل النيّة أو تبطِل العملَ أو تقدَح في كمالِ النية أو العمَل من الإرادات الفاسدَةِ كالرياء والسُّمعة والعُجب وكالبِدَع المحدثة، فالنّيةُ الصادِقة والعمَل المخلصُ كاللّبن الخالص الذي لم يختلِط بالفرثِ والدّم المذكور في قوله الله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} (النحل:66)

والعمَلُ يكونُ بصورةٍ واحدة، ويختلِف حكمه بحسَب النية الصادقة والإخلاصِ أو نيةِ السوء والمخادَعَة فيه، فالمخلِص في عَمَله من المقرَّبين، والمخادِع المدخولُ النية من المبعَدين المعذَّبين، فهؤلاء قومٌ يصلّون مع رسول الله ويجاهِدون معه بإخلاصٍ فهم بأفضلِ المنازل رضي الله عنهم ورَضوا عنه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (المؤمنون:9- 11)، وقال الله عن هؤلاء الصحابةِ رضي الله عنهم: {لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة:88، 89).

وقَومٌ آخرون مِنَ المنافقين يُصلّون مع رسول الله ويجاهِدون، لكنّهم فقَدوا الإخلاصَ والإيمانَ، فهم بشَرِّ المنازل، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } (النساء:145)، فصورةُ العملِ واحدة، ولكنّ المخلِصين مقرَّبون فائزون، والمرائِين مبعَدون خاسرون.

وهذا قتيلُ معركةِ الجِهاد في سبيلِ الله وقارِئ القرآن ومنفِقُ المال في سبيل الخير، جعَلهم الله تعالى فَريقَين: فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير، فمن أخلَصَ لله في عمَلِه رَفعَه الله درجات، ومن عمِل قُربةً رياءً وسمعة، وضَعَه الله دَرَكات، عن أنس رضي الله عنه أنَّ أمَّ حارثة بن سُراقة أتَت رسولَ الله فقالت: يا رسولَ الله، ألا تحدِّثني عن حارثَةَ؟ ـ وكان قُتل يوم بدر ـ فإن كان في الجنّة صَبرت، وإن كان في غَير ذلك اجتهَدتُ في البكاءِ عليه، فقال: ((يا أمَّ حارثة، إنها جِنَان في الجنّة، وإنّ ابنَك أصابَ الفردوسَ الأعلى)) رواه البخاري، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((يقال لصاحب القرآن: اقرَأ وارتَقِ ورتِّل كما كنتَ ترتِّل في الدنيا؛ فإنَّ منزلَتَك عند آخِرِ آيةٍ تقرؤها)) رواه أبو داود والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح"، وعن أبي كبشة عمرو بن سعدٍ الأنماريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الدّنيا لأربعة نفَر: عبدٍ رزقه الله مالاً وعلمًا، فهو يتّقي اللهَ ويصِل فيه رَحِمه ويَعلَم لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبدٍ رَزَقه الله علمًا ولم يرزُقه مالاً، فهو صادِق النية يقول: لو أنَّ لي مالاً لعمِلتُ بعمَل فلان، فهو نيّته فأجرهما سواء، وعبدٍ رزَقَه الله مالا ولم يرزقه عِلمًا، فهو يخبِط في ماله بغيرِ عِلم، لا يتّقي فيه ربَّه ولا يصِل فيه رحِمه ولا يعلَم لله فيه حقًّا، فهذا بأخبَثِ المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا، فهو يقول: لو أنَّ لي مالاً لعمِلت فيه بعمل فلان، فهو نيّتُه فوِزرُهما سواء)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح".

فتدبَّر ـ أيها المسلم ـ هذه الأعمالَ الصالحة التي أريد بها وجهُ الله والدار الآخرة وكان الإخلاص روحَها ومبناها كيف صارَ صاحبُها منَ الفائزين المقرَّبين، ثم تدبَّر هذه الأعمالَ نفسَها لمّا تجرَّدت من الإخلاص وخالَطَها الرّياء كيف صار صاحبُها من المطرودِينَ الخاسرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنّ أوّلَ الناس يُقضَى يومَ القيامة عليه رجلٌ استُشهِد، فأتِيَ به فعرَّفَه الله نعمَتَه فعَرَفها، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: قاتَلتُ فيك يا ربِّ حتى استُشهِدتُ، قال: كذبتَ، ولكنّك قاتلتَ لأن يقال: جريء فقد قيل، ثم أُمِر به فسُحِب على وجهه حتى أُلقِيَ في النار، ورجلٌ تعلَّم العلم وعلَّمه وقرَأَ القرآنَ، فأتِيَ به فعرَّفَه نعَمَه فعَرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلَّمتُ العلم وعلَّمتُه، وقرأتَ فيك القرآن، قال: كذبتَ، ولكنّك تعلَّمتَ ليقال: عالم، وقرأتَ القرآنَ ليقال: قارئ فقد قيل، ثم أمِرَ به فسُحِب على وجهه في النار، ورجلٌ وسَّع الله عليه وأعطاه من أصنافِ المال، فأتِيَ به فعرّفه نِعَمَه فعَرَفها، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيلٍ تحبّ أن تنفَقَ فيها إلا أنفقتُ فيها لك، قال: كذبتَ، ولكنّك فعلت ليقال: جواد فقد قيل، ثم أُمِر به فسُحِب على وجهِهِ حتى أُلقِيَ في النار)) رواه مسلم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، من أسعَد بشفاعتِك؟ قال: ((من قال: لا إلهَ إلا الله خالِصًا من قلبه)) رواه البخاري. فأينَ هذا الذي يقولها عالمًا بمعناها عاملاً بمقتَضاها مخلصًا مجتهدًا ممن يقولها رياءً أو يقولها عادَةً وتقلِيدًا لا يعرفُ معناها ولا يعمَل بمقتضاها؟! ولو ذكَرنا أنواعَ الأقوال والأفعال التي تتَّفِق في الصورةِ وتختلِف في الحقيقةِ والجزاءِ بالإخلاص أو عدَمه لطال الكلام.

فكونوا ـ عبادَ الله ـ من المخلِصين؛ فإنهم في كنَفِ الله وحِفظِه ورِعايتِه وعِصمتِه، قد نجّاهم الله من مكائِدِ الشيطانِ وحَسرَة الخسران، وآواهم إلى حِزبِه المفلِحين، قال الله تعالى عن إبليس: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } (الحجر:39، 40)، وقال تعالى: {فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص:82، 83)، وقد قرأها ابنُ كثير وأبو عمرو البصرِي وابن عامر بكسر اللام إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلِصِينَ، ومَن قَرَأها بفتح اللام وهم نافع والكوفيّون فمعناه: مَن اختارَهم الله لاتِّصافهم بالإخلاصِ. وشرَط الله تعالى لتوبَةِ التائبين تحقيقَ الإخلاص في أعمالهم فقال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء:146).

وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعريّ: (من خلُصت نيّته كفاه الله ما بينه وما بين الناس)، وقال عليّ رضي الله عنه: (لا تهتمّوا لقِلّة العمل، واهتمّوا للقَبول)، وقال بعض العُبّاد: "إنَّ لله عبادًا عَقَلوا، فلمّا عَقَلوا عمِلوا، فلمّا عمِلوا أخلَصوا، فاستدعاهم الإخلاصُ إلى أبوابِ البرِّ جميعًا".

أيّها المسلمون، تمسَّكوا بهذا الركنِ العظيم، تمسَّكوا بالإخلاص، فابتَغُوا بأعمالِكم وجهَ الله والدار الآخرة، وأخلِصوا لله نيّاتكم وإراداتكم، وتقرَّبوا إلى الله بما شرَعَه الله عزّ وجلّ، وإيّاكم والبدَعَ في القُربات فكلّ بدعةٍ ضلالة.

ويُستَحَبّ للمسلم أن يفعلَ المباحَ بنيّة ثوابِ الله عليه، فإذا فعَل المباحَ بنيّة الأجرِ من الله ضاعفَ الله له الثوابَ، عن سعد بنِ أبي وقّاص رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وإنّك لن تنفِقَ نفقةً تبتغي بها وجهَ الله إلا أُجِرت عليها حتى ما تجعَل في في امرأتِك)) رواه البخاري ومسلم.

قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف:110).

أيّها المسلمون، اصدُقوا اللهَ في طلبِ مرضاته، واحذَروا غضَبَه ونِقمته بالبُعد عن محرَّماته، وألزِموا قلوبَكم الإخلاصَ في دينكم؛ فإنّه منهجُ نبيّكم، وبه تزكو أعمالكم وتُرفَع درجاتُكم وتستنير سرائركم، قال الله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} (الزمر:11-14)، وعن جُبير بن مطعِم رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ لا يغِلّ عليهنّ قلبُ امرئٍ مسلم: إخلاص العمَلِ لله، ومناصَحَة ولاةِ الأمر، ولزوم جماعةِ المسلمين)) رواه أحمد، ومعناه أن هذه الثلاثَ الخلال تصلِح القلوبَ، فمن تمسَّك بها طهُر قلبُه من الخيانة والغلِّ والشرّ والدّغَل والفُرقة والنّفاق.



الأولى العالم هذا الأسبوعحوارات مراسلونإقتصادأوراق ثقافيةندواتطبالأسرةأقلياتالهجرةالدعوةالخطبالإنجليزيةالأخيرة

الصفحة الثالثة عشرة

3



خطبة الجمعة من المسجد الأقصى المبارك

نواهضة: الأسوة السيئة التي تبنتها المجتمعات الإسلامية الآن نكسة دينية وأخلاقية

القدس المحتلة - «العالم الإسلامي»

● أوضح فضيلة الشيخ إسماعيل نواهضة إمام وخطيب المسجد الأقصى المبارك أنه يجب على المسلمين الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خيار الأمة وأهل الفضل والعلماء العاملين بعلمهم المخلصين لدينهم، الذين يتقون الله في سرهم وعلانيتهم ويقولون كلمة الحق بدون خوف أو وجل. وأضاف نواهضة في خطبة الجمعة في المسجد الأقصى المبارك أن الأسوة السيئة التي تبنتها المجتمعات الإسلامية في العصر الحاضر وفي كل مجالات الحياة هي نكسة في الظاهرة الدينية والأخلاقية يجب أن يترفع عنها المسلم حفاظاً على دينه وإيمانه وصوناً لأخلاقه.. إلى نص الخطبة:

أيها المسلمون، في هذه الأيام وفي هذه الظروف المحيطة بنا ما أحوجنا إلى الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة، فهي محطّ آمال العقلاء وغاية أمانيهم؛ لأنها نهج راشد وطريق مستقيم لا اعوجاج فيه ولا التواء.

وإن في طليعة من يجب أخذ الأسوة الحسنة منهم والاقتداء بأفعالهم وأقوالهم وكريم شمائلهم رسلَ الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فهم الصفوة من خلق الله، المهتدون بهداية الله، المسارعون إلى فعل الخير والحرص عليه، قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (الأنبياء:90) وقد أمر الله تعالى رسوله الكريم بالاقتداء بهم والسير على نهجهم حيث قال: {أوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ} (الأنعام:90).

أيها المسلمون، وإذا كان الحبيب محمد مأمورًا بأخذ الأسوة والقدوة من سلفه رسل الله فنحن أحرى أن نأخذها منه، كما وجهنا إلى ذلك ربّ العزة. وفي هذا التوجيه الرباني دعوة إلى كل ذي عقل رشيد أن يضع نصب عينه أخذ الأسوة والقدوة من سيد الخلق أجمعين، في أقواله وأفعاله، وفي مناهجه وشمائله وأخلاقه وسلوكيّاته، فهو المثل الكامل للإنسانية، وهو المخاطب من قبل ربه بهذا القول: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُور } (الشورى:52، 53)، وقال عن كريم شمائله ورِفْعة خُلُقه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } (القلم:4) فكان عليه الصلاة والسلام مثلاً أعلى في الخوف من الله تعالى ـ وما أحوجنا إليه ـ فقال: ((إني لأعلمكم بالله وأشدّكم له خشية))، وقال مخاطبًا أصحابه: ((إني أرى ما لا ترون، أطّت السماء وحُقّ لها أن تئِطّ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله تعالى، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا، وما تلذّذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى)).

كما كان عليه السلام مثلاً أعلى في المسارعة إلى فعل الخير، فعن أبي سروعة قال: صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر فسلّم، ثم قام مسرعًا، فتخطّى رقاب الناس إلى حُجَر نسائه، ففزع الناس من سرعته، قال: ((ذكرت شيئًا من تِبْر عندنا، فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته)). وكان عليه السلام مثلاً أعلى في الصبر والشجاعة والحلم والرفق.

وقد سار أصحابه رضوان الله عليهم على نهجه، فلم يحجموا عن مكرمة أو يقصروا عن شيء من فعل الخير، فكانوا يتسابقون إلى الموت في سبيل الله راضين بالشهادة، ويأتي رجلٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد ويسأله: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال: ((في الجنة))، فألقى تمرات كنّ في يده، ثم قاتل حتى قتل.

أيها المسلمون، ويأتي بعد ذلك أخذ الأسوة والقدوة الحسنة من خيار الأمة، وفي طليعتهم أهل القرون المفضّلة المشهود لهم بالهداية، قال: ((خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)).

وهكذا في كل زمان يجب أخذ الأسوة الحسنة من أهل الفضل، ومن العلماء العاملين بعلمهم، المخلصين لدينهم، الذين يتقون الله في سرهم وعلانيتهم، الذين يقولون كلمة الحق بدون خوف أو وجل، لا تأخذهم في الله لومة لائم، الذين لا يلحدون في آيات الله، ولا يحرّفون الكلم عن مواضعه، الذين لا ينافقون ولا يجاملون. فهؤلاء العلماء ممن هدى الله وشرح صدورهم للإيمان، ففي السير على هدايتهم والاقتداء بأفعالهم فلاح وفوز في الدنيا والآخرة.

أيها المسلمون، أما الأسوة السيئة التي تَبَنّتْها المجتمعات الإسلامية في العصر الحاضر وفي كل مجالات الحياة فهي في الواقع وفي الحقيقة نكسة في الظاهرة الدينية والأخلاقية، يجب أن يترفّع عنها المسلم حفاظًا على دينه وإيمانه، وصونًا لأخلاقه، حتى ولو انتشرت هذه الأسوة السيئة بين الناس، وشملت جميع الطبقات والفئات، حيث أصبح العلماء الذين لا يعملون بعلمهم، ولكن يقصدون به المنصب والجاه والسلطان، وأصبح يمثلها أيضًا الوعّاظ والمرشدون الذين لا يأتمرون بما يأمرون به، والذين يصفون الدواء للأمراض التي هم بها مصابون، فمخبَرهم لا يطابق مظهرهم، فبئست الأسوة والقدوة بهم، قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُون} (البقرة:44).

أيها المسلمون، ويمثلها أيضًا المسؤولون الذين لا يقدّرون مسؤولياتهم، تراهم يتلاعبون، بل يعبثون بمصالح الناس وأوراقهم، ويهملون الواجب نحوهم، يظهرون لهم من ألوان العظمة الكاذبة ككثرة الخدم والحراس وإغلاق الأبواب أمامهم والنظر إليهم بعين الاحتقار بما يستر ضعفهم وعجزهم وفشلهم، وفي الناس من هو خير منهم دينًا وخلقًا وعلمًا وفضلاً ونسبًا وكفاءةً وخبرةً، فليبتعد المخلصون عن هؤلاء وعن الدعاية لهم والترويج لأفكارهم.

وتمثّلها أيضًا وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، هذه الوسائل أصبحت تعمل جاهدة على نشر الرذيلة بمختلف صورها وأشكالها بين الناس، وبخاصة طبقة الشباب، وذلك من أجل إنشاء جيل منحرف عن تعاليم الدين وعن الأخلاق الفاضلة.

ويمثلها أيضًا النساء المتبرّجات، المائلات المميلات، المنتشرات في الشوارع والأسواق وفي وسائل الإعلام، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا الصنف من النساء بقوله: ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)).

ويمثلها أيضًا احتكار التجّار وغشّ الصناع وجشع البائعين واليمين الفاجرة من شاهدي الزور.

أيها المسلمون، كل ذلك وغيره من أمثال الأسوة السيئة يجب على كل مسلم يغار على دينه ويعتزّ به أن يبتعد عنها، وإن الواعي ليتوقّع من وراء تفشّي أمثال هذه الرذائل والسيئات مستقبلاً مظلمًا مرعبًا مخيفًا، يُنذِر بحلول النقمة وسوء المصير، قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (الأنفال:25)، وقال أيضًا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} (الرعد:11).

فاتقوا الله أيها المؤمنون، وتداركوا أمركم، واجتنبوا الرذائل، وأصلحوا ذات بينكم، وخذوا الأسوة الحسنة من هدي الرسول الكريم وهدي خلفائه الراشدين وأصحابه الغرّ الميامين، ومن حملة الفقه والدين، ومن العلماء العاملين، ولا تكونوا من الذين تمادوا في الغي والضلال، وسقطوا في الرذائل والمنكرات، فذلك شأن من نسي الله فأنساه العمل على ما فيه صلاح نفسه وسعادة دنياه وآخرته، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ} (الحشر:18- 20).

أيها المسلمون، في ربوع الأمن تحققت الأماني، وفي البلد الأمين ارتفعت نفوس الصالحين إلى منازل القرب والرضوان، ونعمت بصفو الأيام والليالي، فيا لسعادة الصالحين.

وها هم حجاج بيت الله الحرام عادوا إلى بلادهم بعد أن أدوا مناسك الحج والعمرة، بعد أن لهجت ألسنتهم بالذكر وكبّرت لرؤية البيت العتيق، وسكبت عيونهم دموع الفرحة لما شاهدوه، ولما قاموا به أثناء الحج، إذ تجرّدوا بإحرامهم من كل ما يُغضب الله، ووقفوا بعرفة محرمين، شعثًا غبرًا، خاشعين متذللين، داعين مهلّلين، ومكبّرين لله، وتذكّروا بموقفهم هذا موقف العرض يوم القيامة، وتعالت منهم أصوات التلبية استجابة لداعي الله: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك. فغفر الله لهم الذنوب، وباهى بهم ملائكته، وباتوا في المزدلفة، وازدلفوا إلى الله صباحًا بالذكر عند المشعر الحرام، ثم بلغوا مِنى، فتمّ لهم بذلك بلوغ المُنى، ورموا الجمار، فانحطّت عنهم الأوزار والآثام، وحلقوا الرؤوس أو قصّروا، ونحروا الهَدْي، والتمسوا من الله الرشد والهُدَى، وأتوا البيت الحرام لطواف الإفاضة والسعي بين الصفا والمروة، فأتموا بذلك الحج، وخرجوا من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم، فهذا العمل المبرور، ونعم السعي المشكور. فعلى مثل هذا النهج فليعمل الوافدون، وفي بذل الجهد لطاعة الله فليتنافس المتنافسون.



الأولى العالم هذا الأسبوعحوارات مراسلونإقتصادأوراق ثقافيةندواتطبالأسرةأقلياتالهجرةالدعوةالخطبالإنجليزيةالأخيرة

المصدر: مجلة العالم الاسلامي
abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 67 مشاهدة
نشرت فى 11 يونيو 2012 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

299,237