د.عماد الدين خليل

للوهلة الأولى، ومن خلال الألغاز والمعميات التي تعتمدها الفلسفات الغربية الوضعية، وتحيط نفسها بها، من خال حملات الإكبار والتقرير التي انصبت على شخصيات الفلاسفة من كل مكان، من خلال مركب نقصنا الحضاري الذي خيل إلينا كما لو كان الفيلسوف الغربي إنسانًا غير عادي، إنسانا ذا قامة مرتفعة، وفكر خلاق يجتاز المغاليق، ورؤية للكون والحياة لا تقبل خطأ على الإطلاق.

للوهلة الأولى تتبدى الفلسفات الغربية للمرء بحجم أكبر بكثير من حجمها الحقيقي وبريق يكاد يسلب العين القدرة على الإبصار.

وكلنا نذكر ما كان يفعله مدرسونا في الإعداديات وهم يحكون لنا عن هذا الفيلسوف الغربي أو ذاك من خلال مادة «التاريخ الأوروبي»، بوجل وانكماش وبتقدير مبالغ فيه يصل حدّ التضاؤل والصغار، ونذكر كذلك طبقة من الأساتذة الجامعيين أعمق ثقافة من المدرسين وأكثر تخصصًا، كانت هي الأخرى تحدثنا عن الفلسفة الغربية كما لو كانت حقًا مطلقًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وما زلت أذكر مدرس التاريخ في الإعدادية، وهو يخطو بحذر وتريث خلال شرحه لفقرات في الكتاب خصصت للفيلسوف الألماني «هيغل» والفلسفة المثالية، وكنا نحن نقول في أنفسنا: إذا كان مدرس المادة غير قدير على اقتحام بحر «هيغل» العميق فأنى لنا أن نجتازه بعقلياتنا الساذجة وثقافتنا المتواضعة؟

ومازلت أذكر كذلك أستاذ الفلسفة في كلية التربية وهو يحدثنا عن الفلسفة المثالية لهيغل، كيف أنه أراد أن يعطينا جانبًا من فلسفته كما لو كانت مسلمات مطلقة، ولكنها مسلمات غامضة، معماة، ما كانت تزيد الرجل وفلسفته في نفوسنا إلا إجلالا وإكبارا!

وما كان الأمر بهذا الذي تصورناه أو صوِّر لنا، وما هكذا يجب أن يكون.. فإن المثقف المسلم على وجه التحديد، ناهيك عن المتخصصين منهم، يتحتم أن يملك ابتداء.. نعم «ابتداء».. ما يمكن تسميته بالنظرة الفوقية المستقلة الواثقة التي ينظر بها ويقيس ويزن كل ما يقوله العقل البشري شرقيًا كان أم غربيا، ولا يسلم به بسهولة حتى لو طرحه أعظم الفلاسفة والمفكرين.

كما أنه يتحتم ألا يشعر إزاءه بأي قدر من النقص أو الإعجاب المفرط الذي قد يجنح به بعيدًا عن الموقف العلمي الذي يتطلبه منه هذا الدين.

إن المسلم ينظر بنور الله، ويعاين الأشياء بتعاليم الله ورسوله "صلى الله عليه وسلم" ، ويزن بموازين الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكيف تسوغ له نفسه أن ينزل عن موقعه العالي هذا، عن استشرافه من الآفاق المفتوحة، إلى الحفر الضيقة والمسالك المتداخلة والشعاب المسدودة لفكر هذا الرجل أو ذاك مما قد يتضمن الكثير من الخطأ والانحراف والفساد؟

وثمة بداهة قد نغفل عنها لوضوحها في كثير من الأحيان، فإن الفلسفة الوضعية لو كانت حقا مطلقًا كما صور لنا وخيل إلينا، لما نقض بعضها بعضًا، ونفى بعضها بعضًا.. ولما شهدت ساحات الفكر والثقافة عشرات، بل مئات وألوف، من الفلاسفة كان يحلو لكل واحد منهم أن يطرح ادعاءً تقليديًا أصبح بمثابة القاعدة التي يحذو حذوها الجميع: إن ما تقوله فلسفته هو الحق المطلق، وأن ما وراءها من فلسفات لا يعدو أن يكون خدعة وضلالًا، أو هو- على أحسن الأحوال- محاولات تتضمن الكثير من الشروخ والأخطاء.

في كتاب الأديب الفرنسي «اندريه موروا» عن حياة الروائي الروسي الشهير «إيفان تورجنيف» نقرأ هذا المقطع: «في غضون السنوات التي أمضاها تورجنيف في ألمانيا كان هيغل الفيلسوف الذي يلتف حوله المثقفون الروس لأنه كان يقول بأن كل ما هو حقيقي نابع من العقل في الوقت الذي كان فيه هؤلاء يقبلون المجتمع كما وضعه التاريخ، ذلك أن الناس يطلبون دائما من كل مذهب أن يكون دليلًا عقليًا على مشاعرهم وأعمالهم! فالشباب الروسي الذي كان يخضع في سنة 1840م للقيصر كان يعرف أنه مستبد، ولكنه كان يعبده على الرغم منه، وهذا الشباب كان يتوهم بأنه واجد في «فلسفة الحق» لهيغل حججًا وأسانيد لتعليل خضوعه، كانوا يقولون له، إن الدولة كائن حي وهي هي كما أوجدها التاريخ، ولا يستطيع فرد أو مجموعة أن يغيرها تبعًا لأهوائه».

وهكذا لا يوجد مجال للمناقشة في ضرورة الطاعة المطلقة للقيصر فذلك أمر واضح جلي في حد ذاته!

ويمضي موروا إلى القول بأن: «تلك كانت نظرية هيغل كما رأتها جماعة اليمين، على أن هرزن- الذي يمثل جماعة اليسار- كان يتبين أنه يمكن أن يستمد من هيغل بالذات الدليل على شرعية كل مقاومة للأوتوقراطية إذ إنه لو صح أن كل ما هو حقيقي نابع من العقل، فالثوري- إذ يوجد - يعتبر جزءا من التاريخ «إذا كان العقل يعزز النظام الاجتماعي القائم، فإن كل مقاومة له مادامت موجودة تعد معززة كذلك»، وهكذا تشكلت من فلسفة هيغل صورة أخرى أخذت بها جماعة اليسار».

وهكذا استعملت فلسفة هيغل لتبرير موقف اليمين الخاضع للقيصر ولتبرير موقف اليسار الثائر على القيصر.

وهذه الميوعة الفكرية التي نجدها هنا تتأرجح ذات اليمين وذات الشمال لا تقتصر على الفلسفة المثالية التي وصفها ماركس وإنغلز بأنها تمشي على رأسها «فحسب»، ولكنها تنسحب على الفلسفة المادية نفسها التي صاغها ماركس وإنغلز، فإنك واجد فيها ما يسوق الشيوعيين لمساندة وضع ما، وواجد فيها - كذلك - ما يدفعهم إلى الثورة عليه والإطاحة به.. وهم يبررون هذا وذاك بأنه «التكتيك» الذي يخدم الاستراتيجية في نهاية المطاف.

اقرأ - على سبيل المثال - ما يقوله الأديب المجري المعروف «آرثر كوستلر» الذي خبر التجربة الماركسية بانتمائه إليها السنين الطوال، ثم ما لبث أن ارتد عنها بسبب ما وجده فيها من عيوب وتناقضات، إنه يقول فيما نحن بصدده «كانوا يلجأون، أحيانًا إلى نبذ الحقائق وإغفالها لحيلة بسيطة تتلخص في وضع الكلمة بين قوسين وإعطائها جوًّا من السخرية والمرارة «ماضي تروتسكي الثوري»، «الهذيان الإنساني للصحافة الحرة» إلى آخره وكان هذا الأسلوب لشدة إملاله يفعل في النفس فعل التنويم المغناطيسي، إن ساعة من هذا الهذيان المنطقي الجدلي كانت تدع الإنسان لا يدري أفتى هو أم فتاة، وتجعله مستعدًا لاعتناق أي منهما بمجرد ظهور الأخرى بين قوسين.

لقد كنا على استعداد لأن نؤمن بأن الاشتراكيين هم (أ) أعداؤنا الحقيقيون، (ب) حلفاؤنا الطبيعيون، وأن الدول الاشتراكية والدول الرأسمالية (أ)، يمكنها أن تعيش مع بعضها بسلام (ب) لا يمكنها أن تعيش مع بعضها بسلام، وأن إنغلز عندما قال إنه لا يمكن قيام الاشتراكية في دولة بمفردها كان يعني عكس ذلك تمامًا، بل لقد تعلم الواحد منا أن يبرهن بالاستدلال المنطقي على أن كل من يخالفه في الرأي هو عميل للفاشية لأنه (أ) لمخالفته لك في الرأي يساعد على تفتيت وحدة الحزب (ب) بعمله على تفتيت وحدة الحزب يساعد على انتصار الفاشية فهو إذن (جـ) من الناحية الموضوعية عميل للفاشية ولو كان من الناحية الشخصية قد تعرضت للتعذيب في معسكرات الاعتقال على أيدي الفاشيين، إن كلمات «عميل» أو «الديمقراطية» أو «الحرية» الخ... كانت تعني عندنا في الحزب شيئًا آخر يختلف تمامًا عن معناه في الاستعمال العام، بل كان معناه عندنا يتغير بعد كل تحول في سياسة الحزب، فكان موقفنا من هذه التغييرات كموقف اللاعبين في لعبة الكروكي «التي يقوم اللاعبون فيها بضربة كرات من خشب بمضارب في أيديهم لكي تمر من أطواق خشبية ثابتة»، بين الملكة وأتباعها حيث كانت الأطواق تنتقل عبر الملعب، والكرات قنافذ حية، مع اختلاف واحد هو أن اللاعب عندنا إذا أخطأ وأضاع دوره وقالت «اقطعوا رأسه» كان الأمر ينفذ بكل جد.

(الصنم الذي هوى، ترجمة فؤاد حمودة، ص 58-59، دمشق، 1960)

إن هذا التميع في الموقف إزاء الحقائق، واتخاذ زوايا نظر مختلفة، بل متضادة يذكرنا بموقف القادة الماركسيين من مسألة الجنس والزواج، فيما تناولناه بشيء من التفصيل في مكان آخر، فقد اعتبروه في البدء رذيلة بورجوازية تصديقًا لما قاله ماركس وإنغلز، ثم لما شاع الزنا في الاتحاد السوفييتي عبر سني تأسيسه الأولى، وفاض الكأس وأعلن لينين تصريحه الشهير الذي هاجم فيه هذا التصور وحث على العودة إلى الزواج كأفضل صيغة للعلاقات الجنسية، عاد الماركسيون فأكدوا ضرورة «الزواج» كمؤسسة محتومة في العلاقات الاجتماعية.

فإذا تساءلت، يقول كوستلر، «أليست هذه هي الفضيلة البورجوازية التي استنكرناها من قبل؟» قيل لك «إن هذا التساؤل يدل على أنك مازلت تفكر بالطريقة الآلية لا بالطريقة المنطقية الجدلية، إذ ما هو الفرق بين البندقية في يد رجل الشرطة والبندقية في يد عضو الطبقة العاملة الثورية؟ إن الفرق بين البندقية في يد رجل الشرطة والبندقية في يد عضو الطبقة العاملة الثورية، هو أن رجل الشرطة من أعوان الطبقة الحاكمة وبندقيته أداة للعدوان، بينما هذه البندقية نفسها في يد عضو الطبقة العاملة الثورية أداة لتحرير الجماهير المضطهدة، وهذا القول يصدق عن الفرق بين ما يسمونه «الفضيلة» البورجوازية والفضيلة العمالية، إن نظام الزواج الذي يعتبر في المجتمع الرأسمالي مظهرا من مظاهر الفساد والتحلل يتحول «منطقيًا» إلى عكس ذلك في المجتمع العمالي السليم، فهل فهمت أم تحب أن أعيد جوابي بطريقة محكمة أكثر من هذه؟ (المرجع السابق ص:57-58).

ويذكر المرء الآية القرآنية الكريمة {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} (النجم: 23)، فكأنها قد نزلت لكي تدمغ هذه الظنون والأهواء البشرية.. فما يلبث إلا أن يزداد اعتدادًا بموقفه الإيماني واعتزازًا بعلمه الإلهي وموقعه الفوقي الذي يمنحه - بالتصور العقدي المتكامل - السيادة على العالمين!

لو كانت الفلسفة الوضعية حقًّا مطلقًا لما نفى بعضها بعضًا ..ومواقفها متميعة إزاء الحقائق

مفكر عراقي

abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 42 مشاهدة
نشرت فى 11 يونيو 2012 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

302,608