د. محمد سعيد باه

نستهل الحديث عن هذه الإشكالية بتأملات سريعة حول بعض المعاني الكامنة في قول الله، جل شأنه: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} (الحج: 41). تجلي الآية بوضوح أن تحقيق وظائف الدين الكبرى في واقع الأمة المؤمنة بصلاحية هذا الدين منهجا لإدارة دفة الحياة الواثقة باستعلائه، معلق بشرط التمكن في الأرض، بمعنى وجود سلطان منتظم يتحاكم إلى شرع الله، وهو ما يجعل هذا التمكين مطلبا قرآنيا متحتم الوقوع يجب السعي إليه باستمرار مهما بعدت الشقة، بمعنى تحويل الحركة إلى دولة.

ثم يأتي، بعد إقامة شعيرة الشعائر، تنفيذ برنامج طموح وشامل للإصلاح العمراني، يحوِّل سواد الأمة، من حالة من يشحذون، فرادى وجماعات ودولا، إلى منتجين كما ونوعا قياما بالوظيفة الأولى لسكنى الأرض باستعمارها، حين يحققون الفائض فتمتد أيديهم، وهي عليا.

لكن التاريخ يحتوي على فصول تقول لنا إنه منذ تلك اللحظة التي خُلِع فيها السلطان عبدالحميد (21 صفر 1327هـ) وغادر سراي الحكومة منفيا إلى قصر «بيلربي»، لم يتيسر للأمة أن تقترب من تحويل رؤيتها في مجال إقامة السلطان وتحقيق وعد التمكين، كما هي اليوم (1).

في هذه الأجواء المليئة بالمبشرات علينا إعادة قراءة مواطن الانزلاق في مسيرة الأمة انطلاقا من الدرس القاسي الذي تلقاه أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" رغم مدد السماء (حدد القرآن عددهم بخمسة آلاف من الملائكة المسومين)، وحين عاندوا سنن الله في التحوط والسير وراء القائد جاءتهم الضربة حتى إذا تساءلوا في ذهول جاءهم الجواب المسكت: {أوَلمَّا أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} (آل عمران: 165).

لهذا فإن بعض الغيورين من الأمة الواعين للمكر السيئ الذي يحاك في الظلام، لم يكفوا لحظة، منذ أن بدأت تباشير فجر النصر تبزغ في الآفاق وفي الأنفس وانبعاث حالة الحبور الدافق، عن الشعور بقلق ينتابهم عن مدى قدرتنا على إدارة معركة البناء والإصلاح على مستوى الممارسة لشؤون الدولة بما فيها من تعقيدات وعقد صفقات في منتهى الخطورة إلى جانب التماسك لأطول فترة ممكنة على سدة السلطان الكلي أو الجزئي دون أن تتراخى قبضاتنا عن المشكاة التي طالما بشرنا الأمم بأنها التي ستبدد لها الديجور الذي تتخبط فيه.

هنا ملاحظات عدة نسجلها على عجل:

لا يزال السلطان الذي تم تحصيله، في كل المواقع التي تم فيها كسب جولة قد تقربنا إلى إعادة إقامة الدولة على منهاج النبوة، جزئيا، أي مشاطرة الجلوس على السدة مع من هم مغايرون، بكل مفاهيم التباين البنيوي في الفكر والخيارات المصيرية.

كون القوى التي عملت على نفي آخر سلاطين آل عثمان وكسر كرسي سلطان الأمة لم تندحر بعد، فلنحذر أن يصيبنا ما أصابها فيخيل إلينا أن المعركة بيننا قد حسمت ولم يبق إلا كتابة نعي الخصم ومن ثم إدراجه في أكفانه، وذلك حين نعيد زلة يوم أُحُد فننشغل بجمع الغنائم عن مواصلة الزحف إلى «مكة» حتى إذا كرت علينا كرتها لم نملك إلا ترديد التساؤل: أني هذا؟

لم ترتق الشعوب- التي نسعى إلى صناعة هذا المجد باسمها ولصالحها- بعدُ إلى مستوى الحد الأدنى من مطالب وشروط هذا المشروع الكلية، ما يعني تواصل عمل البناء الداخلي والقيام بمزيد من التحصينات الفكرية والروحية بما يجعل حصوننا تستعصي على التسلق من الخارج والاختراق من الداخل.

وحري بحملة المشروع الإسلامي، الذين أخذوا يسرعون الخطى باتجاه قصر السلطان (قرطاج...) بعد تطهير أرجائه من تلك الأرجاس التي طالما زكمت الأنوف وإخراج خبئها من الكنوز لتقسم على مستحقيها من كل من يحمل صفة «مواطن»، ألا يغيب عن بالهم لحظة بأنهم في الشوط الأول نحو القمة، وأن يعتبروا ما كتب الله من النصر، رغم دويه الهائل، مجرد زاد للانتقال بمهمة البلاغ العام إلى المدارات العليا حيث يزعوا بالسلطان ما لم يقدروا على وزعه بالقرآن خلال هذه القرون العجاف التي عاش فيها السلطان في المنفى والأمة تترقب عودته بصبر نافد.

ثم، إن العراك الطويل، والمميت في بعض مراحله، الذي جعل الشيخ الغزالي يسمي بعض حلقاته بالكفاح الدامي، مر بمنعطفات ومراحل يحسن أن نتوقف عند أبرزها هنا ولو على عجل:

مرحلة الشعارات: حين انطلق هذا الموكب المبارك كان السواد الأعظم للأمة يعيش حالة البيات بل كان البعض يغط في نوم عميق والقسط الآخر صاحٍ لكنه في ضحى اللعب يسدر، نتيجة مفعول الخدر الذي كان قد أصاب كامل الإرادة للطائفتين، وكانت هذه الوضعية شبه الميؤوس منها تستدعي من الحداة إطلاق صيحات تحذير عالية على حد قول الشاعر المهموم بجنوح الأمة وميلان ميزانها:

صيحوا على كل قوم غافلين فمن

صوت الهدى يختفي صوت الضلالات (2)

مرحلة نقد النموذج المصادم: لما تحرك حملة المشروع الإسلامي التجديدي كان فضاؤنا الفكري محتلا بكامله حيث كان كل شبر فيه كظيظا بأطروحات تتغاير مع مقومات أمتنا الأصيلة التي تحدد هويتها وترسم مسار علاقاتها مع بقية الأسرة البشرية؛ ونظرا للأثر السيئ الذي كانت تلك الأطروحات تتركه على واقعنا، كان الواجب يحتم ردم هذه الهوة على عجل بدءًا بكشف عوار المستند الفكري لتلك الدعوات التي كادت تورد الأمة المهاوي.

مرحلة إعادة صوغ المفاهيم: بما يتطلبه ذلك من معالجة الأمة من داء الانبهار وتحطيم الأساطير وما يلمع وهو مزيف، في هذا السياق يندرج النهج الذي اختطه الشيخ محمد قطب حين جهر بالدعوة إلى إعادة ضبط المفاهيم التي كانت قد انفلتت كثيرا وحرف بعضها فكان أن عنون: «مفاهيم ينبغي أن تصحح».

وهذا ما فرض على الرواد تخصيص عناية مركزة لإعادة ضبط تلك المفاهيم الإسلامية التي كانت قد زاغت كثيرا وداخلها قدر هائل من الغبش الكثيف الذي يغلفها إلى درجة حجب الرؤية.

مرحلة بناء البدائل: فقه رواد الموكب الذي كان مهموما بتسويق المشروع الإسلامي، أن مبدأ: «خذ هذه» أنجع من «دع تلك»، وهو ما دفع نحو ذلك الجهد المركز الذي بذل للانتقال من مرحلة «الإسلام هو الحل» إلى أخرى ركيزتها الأساس: «هذا هو الحل الإسلامي»، توصيفا وتنزيلا وتخصيبا.

نعم، لا جدال في أن الصف الإسلامي قد يضم بعض العناصر الناشزة، لكن الجمهور يتمسك بمطلبه الكلي إلى حد الاستماتة، ألا وهو: «نريد أن نُحكَم بالإسلام»، وهو خيار يباين كثيرا ما يتهمهم به كثيرون من خصومهم بأنهم طلاب سلطة مثل بقية خلق الله ليس إلا، وهو ما فطن إليه بعض من نادى بتعديل الشعار لغرض التخفيف من غلواء السلطان العاض، الحريص على الكرسي الدوار حتى ولو أحاطه بسياج من جماجم خيرة أبناء الشعب، ليصبح الشعار: «نريد أن نَحكُم بالإسلام».

من الشبهات القول بأن الإسلاميين لم يستطيعوا استمالة قلوب الآخرين وفرض نموذجهم، وإنما الديموقراطية، بمعناها النموذج الغربي المتفوق، هي التي انتصرت حين قبل الإسلاميون، مرغمين أو مناورة، بقواعدها وآلياتها لتمرير الكرة بين الفاعلين.

في هذه المقولة كثير من التهافت، لأن التيار الإسلامي لم يرفض الديموقراطية- باعتبارها آليات أثبتت التجارب فاعليتها في مجال خلق أجواء ملطفة تمكن من التبادل السلس والسلمي للسلطة وفق عقد شرعي بين الأمة وبين من ترتضيه للتفويض- وإنما ظلت تقول بأن ما عندها «الشورى الملزمة» (3) أصلح وأقرب إلى منطق وعواطف الأمم التي يعملون لحسابها ويضحون لإسعادها.

على حَمَلة المشروع الإسلامي، وهم يجتازون القنطرة الفاصلة أو الرابطة بين الحركة والدولة، أن يفقهوا التبدل العميق والهائل الذي طرأ في مفهوم ووظائف الدولة وفي جملة المتغيرات الكثيرة في التنظيم والعمران والمطالب الاجتماعية والعقلية الناشئة لدى الشعوب الإسلامية جراء انفتاحها على الغير وهم في حالة بين الصحوة والسبات، ويعملوا على إنتاج منظومة فقهية حية مرنة وواقعية تستجيب لتلك المطالب المشروعة وخاصة على خلفية وجود مؤشرات تؤكد بأن «الآخرين» قد لا يلبثون أن يقصدوا ديارنا بحثا عن النموذج الأوسط الصالح لتلقيح نموذجهم المهترئ بعد أن جرينا وراء سرابهم ردحا من الزمن قبل أن نثوب إلى رشدنا.

من المسائل الجوهرية التي يجب الاهتمام بها، التفريق بين التوفيق الإلهي في تحقيق مكاسب في مجال المدافعة، والذي يستند إلى معايير الصلاح الداخلي والتأهل للإسناد واستنزال رحمات السماء بالأسباب، وبين تفويض من جمهور الأمة الذي يشترط لنفسه ببيع يبايع به من يرتضيه توثيقا وتزكية، حتى إذا تكشف له خلاف ذلك حُق له سحب الثقة كما كان قد حجبها عن غيرنا.

وفي هذا المقام نستعير ما قلناه في مناسبة سابقة:

«أولا، أذكرهم (القيادة الإسلامية الجديدة) بأن النجاح صعب، لما يتطلبه من جهد ومعاناة وتضحية بالمال والجاه والأنفس، لكن الأصعب منه الحفاظ على المكاسب وحسن إدارة معركة النصر مع الذات ومع الأعوان والأنصار ومع الخصم المتربص الذي لن يسلم بهزيمته وإنما سيعيد الكرة؛ وأن يستحضروا بأن المسيرة لا تزال طويلة لأن الهدف ليس مجرد إقامة أنظمة تحت لافتات «إسلامية»، وإنما استئناف المسيرة الحضارية للأمة، وأن يقدموا نموذجا عمليا رائعا يجتذب الأنظار كما أحسنوا فن التسويق والعرض» (4).

ختاما، بعد أن ظل الإسلاميون يوصفون بأنهم ينتمون إلى الطراز النادر من القيادات الصالحة والذي يقل عند الطمع ويكثر عند الفزع، يبدو لي أن اللحظة التاريخية قد أزفت لاختبار قدر مصداقيتهم في تمثيل هذه المقولة عن بناة الحضارة الحقيقيين.

نعم إن تحقيق النصر مسألة تحتاج إلى جهد وجهاد ومعاناة وصبر ومثابرة ومرابطة وربما التضحية بكل شيء، لكن الأصعب من ذلك أن نستحق النصر حين نرتفع إلى مستواه ثم نستوفي شروط إدامته على النهج الذي يرسمه كتاب الله وهو يتحدث عن بعض قواعد بناء الحضارة الإنسانية من حيث البقاء والزوال:

{ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم} (الأنفال: 53).

الهوامش

1- من أوضح المواقع التي ورد فيها هذا الوعد الإلهي الجازم في كتاب الله {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليَستخلِفنَّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا} (النور: 55).

2- البيت للعالم والأديب الموريتاني د.محمد الحافظ ولد السالك.

3- للتوسع في الموضوع يراجع: «الشورى في معركة البناء» للشيخ د.أحمد الريسوني، و«الشورى والاستشارة» د.توفيق الشاوي.

4- انظر مقابلة مع الكاتب أجراها رجب الدمنهوري مدير تحرير مجلة العالمية ونشرتها جريدة الحرية والعدالة في مصر في 22/2/ 2012م.

علينا إعادة قراءة مواطن الانزلاق في مسيرة الأمة والاتعاظ بها

أستاذ جامعي- السنغال

المصدر: الوعي الاسلامي
abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 60 مشاهدة
نشرت فى 11 يونيو 2012 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

305,697