د. علي الصلابي


أصحـــــاب الأخــــــــــدود

إن قصة الغلام مع الملك الكافر من أوضح القصص في تمكين الله تعالى للدعاة في تبليغ رسالتهم وأداء أمانتهم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبر سني، وحضر أجلي، فادفع إلىَّ غلامًا لأعلمه السحر، فدفع إليه غلامًا كان يعلمه السحر، وكان بين الساحر وبين الملك راهب، فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه، وكان إذا أتى الساحر ضربه، قال: ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل: حبسني الساحر، فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر، قال: فأخذ حجرًا، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورماها فقتلها، ومضى الناس، فأخبر الراهب بذلك، فقال: أي بنى أنت أفضل مني, ستبتلي، فإن ابتليت فلا تدل علىَّ؛ فكان الغلام يُبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم بإذن الله, وكان للملك جليس فعمى، فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: اشفني، فقال: ما أنا أشفى أحدًا، إنما يشفى الله عَزَّ وَجَلَّ، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك، فآمن فدعا الله فشفاه، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان، من ردّ عليك بصرك؟ فقال: ربي، فقال: أنا؟ قال: لا، ربي وربك الله، قال: أو لك رب غيري؟ قال: نعم، ربي الله وربك الله، فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الغلام، فبعث إليه فقال: أي بنى، بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص، وهذه الأدواء؟ قال: ما أشفى أحدًا، إنما يشفى الله عَزَّ وَجَلَّ، قال: أنا؟ قال: لا. قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه أيضًا بالعذاب لم يزل به حتى دل على الراهب، فأتى الراهب، فقال: ارجع عن دينك، فأبي فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض، وقال للغلام: ارجع عن دينك، فأبي، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا، فقال: إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوا، فذهبوا به، فلما علوا به الجبل، قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فدهدهو، أجمعون، وجاء الغلام يلتمس حتى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك، فقال: كفانيهم الله - تعالى -, فبعث به مع نفر في قرقور في البحر، فقال: إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرّقوه في البحر، فلججوا به البحر، فقال: الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت، فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى، ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع وتأخذ سهمًا من كنانتي، ثم قل: بسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل, وضع السهم في كبد قوسه، ثم رماه، وقال: بسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام.

فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر؟ فقد والله نزل بك، قد آمن الناس كلهم، فأمر بأفواه السكك فخدَّد فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه، وإلا فأقحموه فيها، قال: فكانوا يتعادون ويتدافعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه، فكأنما تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي: اصبرى يا أمّاه فإنك على الحق».(1)

لقد انتصر الغلام بعقيدته على الملك الكافر، وتمكن منهجه الرباني في نفوس رعايا الملك المشرك الغادر, وثبتوا على عقيدتهم وضحوا بأنفسهم من أجل إيمانهم وعلموا البشرية معنى من معاني الانتصار.

قال سيد قطب رحمه الله: (في حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان, وأن هذا الإيمان الذي بلغ تلك الذروة العالية في نفوس الفئة الخيرية الكريمة الثابتة المستعلية، لم يكن له وزن ولا حساب في المعركة التي دارت بين الإيمان والطغيان.

في حساب الأرض تبدو هذه الخاتمة أسيفة أليمة. ولكن القرآن يعلم المؤمنين شيئًا آخر، ويكشف لهم عن حقيقة أخرى.
إن الحياة وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام, ومن متاع وحرمان، ليست هي القيمة الكبرى في الميزان، وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة، والنصر ليس مقصورًا على الغلبة الظاهرة، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة.

إن الناس جميعًا يموتون، وتختلف الأسباب، ولكن الناس لا ينتصرون - جميعًا - هذا الانتصار، ولا يرتفعون هذا الارتفاع، ولا يتحررون هذا التحرر، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق، إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده، تشارك الناس في الموت، وتنفرد دون كثير من الناس في المجد، المجد في الملأ الأعلى، وفي دنيا الناس - أيضًا - إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم، ولكن كم يخسرون أنفسهم، وكم كانت البشرية كلها تخسر، كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير، معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حرّية، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح، بعد سيطرتهم على الأجساد.

طوَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ" [البروج: 8]. حقيقة ينبغي أن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله، في كل أرض، وفي كل جيل.

إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة، وليست شيئًا آخر على الإطلاق, وإن خصومهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة. (2)

إن المتأمل في قصة الغلام يجد أن الغلام انتصر بعقيدته ومنهجه, وكذلك الراهب الذي ثبت من أجل أن تبقي عقيدته في مقابل أن تزهق روحه، أما الأعمى فقد انتصر مرتين، انتصر عندما تخلى عن مكانته عند الملك مع ما في ذلك من جاه ومكانة، وانتصر عندما تخلى عن حياته في مقابل عقيدته.

إن الراهب والأعمى قد خلّدا لنا معاني عظيمة من معاني الانتصار الحقيقي، بعيدًا عن التأويل والتبرير الذي يغطي فيه كثير من الناس ضعفهم وخورهم بستار يوهمون فيه الآخرين أنهم فعلوا ذلك من أجل الدين.

لقد كان الغلام ذكيًا ألمعيًا, وحين سنحت له فرصة عظيمة في تبليغ رسالة ربه، اغتنمها وحقق معاني عظيمة في مفهوم النصر والتمكين.

لقد انتصر الغلام بقوة فهمه وإدراكه لأقصر وأسلم الطرق لنصرة دينه وعقيدته، وإخراج أمته من الضلال إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان, وانتصر عندما وفق لاتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب، متخطيًا جميع العقبات، ومستعليًا على الشهوات وحظوظ النفس ومتاع الحياة الدنيا، وانتصر على هذا الملك المتجبر المتغطرس، الذي أعمى الله قلبه، فأخرب ملكه بيده، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
إن الغلام كان عبقريًا عندما خطط لإهلاك الملك الكافر وعندما رسم طريقه لنيل الشهادة في سبيل الله.

لقد كان الانتصار العظيم في المعركة بين الكفر والإيمان لصالح موكب التوحيد، لقد استشهد فرد وحيت بسببه أمة فآمنت برب الغلام.

إن دقة التخطيط وبراعة التنفيذ، وسلامة التقدير، نجاح باهر، وفوز ظاهر.

لقد انتصر الغلام عندما جعله الله قدوة لمن بعده، وأبقى له ذكرًا حسنًا على لسان المؤمنين، حيث جعل الله له لسان صدق في الآخرين، لقد كانت انتصارات متلاحقة ووصلت إلى ذروتها عندما آمن الناس برب الغلام, آمنوا بالله وحده وكفروا بالطاغوت، وهنالك جن جنون الملك، فقد صوابه، فاستخدم كل ما يملك من وسائل الإرهاب والتخويف، في محاولة يائسة، للإبقاء على هيبته وسلطانه وتعبيد الناس له.

ثم يحفر أخاديده، ويوقد نيرانه، ويأمر زبانيته وجنوده بإلقاء المؤمنين في النار، وتأتي المفاجأة المذهلة، بدل أن يضعف من يضعف، ويهرب من يهرب, إذا نجد الإقدام والشجاعة، وذلك بالتدافع إلى النار ولا غريب، لأن الإيمان بث في نفوسهم الشجاعة، والثبات, وها هم يجدّون في اللحاق بالغلام، وكأنهم يتلذذون في تقديم أرواحهم فداءً لعقيدتهم ودينهم.

إن الإيمان الحقيقي يصنع بالأمم الغرائب, ويبدد الظلام الطويل الذي عاشوه، والسنوات المديدة التي استعبدهم فيها الطغاة، ومع قصر المدة التي قد يأتي فيها الإيمان إلى النفوس إلا أنه كفيل بتعريف الناس بحقيقة المنهج الرباني كما نرى في هذه الأمة السعيدة التي آمنت برب الغلام، وكأنهم عرفوا المنهج وعاشوا فيه كما عاش الراهب طوال عمره، أو تربوا عليه كما تربي الغلام في صباه.

إن حقيقة الإيمان عندما تخالط بشاشة القلوب، وتلامس الأرواح تفعل العجب.

لقد كان انتصار الناس الذين آمنوا برب الغلام انتصارًا جماعيًا مباركًا يدل على صفاء العقيدة، ووضوح المنهج، وسلامة الطريق، وفهم لحقيقة الانتصار.

إننا لا نجد في القرآن ولا في السُّنَّة أي ذكر لهؤلاء الظلمة، وماذا كان مصيرهم في الدنيا, ولله في ذلك حكمة قد تخفى علينا (3).. نعم وردت آية في آخر قصتهم فيها دعوة لهم وتحذير: "إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ" [البروج: 10].

قال الحسن البصري (4): «انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة». (5)
أن هذه النهاية تحقق معنى من معاني الانتصار، مَنْ المنتصر؟ الذي نصر عقيدته ودين ربه، وحُرّق بضع دقائق، ثم انتقل إلى جنات النعيم، أو ذلك الذي تمتع بأيام في الحياة الدنيا ثم مآله - إن لم يتب - إلى عذاب جهنم وعذاب الحريق؟

هل هناك مقارنة بين الحريق الأول، والحريق الثاني.. حريق الدنيا وحريق الآخرة؟ إنها نقلة بعيدة، وبون شاسع، أما المؤمنون الذين حُرّقوا في الدنيا، "فلَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ" [البروج: 11]، وتعلن النتيجة التي لا مراء فيها ولا جدال: +ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" أليس هذا هو الانتصار؟ (6) هذا في الآخرة, وفي الدنيا تمكن المنهج من قلوب الناس وتم ظهوره.

تمكين الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم لتبليغ الرسالة في مكة

بعد الإعداد الرفيع الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم لتربية أصحابه, وبناء القاعدة الصلبة على أسس عقدية وخلقية وأمنية وتنظيمية، وبعد أن قطع المرحلة السرية بكل نجاح وتفوق، نزل قول الله تعالى: "وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ" [الشعراء: 214] فخرج رسول الله " حتى صعد الصفا فهتف: «يا صباحاه»، فاجتمعت إليه قريش، فقال: «يا بنى فلان، يا بنى عبد مناف، يا بنى عبد المطلب، أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقيَّ؟» قالوا: ما جربنّا عليك كذبًا. قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبًا لك، أما جمعتنا إلا لهذا, ثم قام فنزلت هذه السورة "تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ" [المسد:1].

من الطبيعي أن يبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته العلنية بإنذار عشيرته الأقربين، إذ إن مكة بلد توغلت فيه الروح القبلية، فبدء الدعوة بالعشيرة قد يعين على نصرته وتأييده وحمايته، كما أن القيام بالدعوة في مكة لا بد أن يكون له أثر خاص لما لهذا البلد من مركز ديني خطير، فجلبها إلى حظيرة الإسلام لا بد أن يكون له وقع كبير على بقية القبائل، على أن هذا لا يعنى أن رسالة الإسلام كانت في أدوارها الأولى محدودة بقريش، لأن الإسلام كما يتجلى من القرآن اتخذ الدعوة في قريش خطوة أولى لتحقيق رسالته العالمية. (7)

ولقد كانت النتيجة المباشرة لهذا الصدع هي الصد والإعراض والسخرية والإيذاء والتكذيب، والكيد المدبر المدروس، ولقد اشتد الصراع بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبين شيوخ الوثنية وزعمائها، وأصبح الناس في مكة يتناقلون أخبار ذلك الصراع في كل مكان، وهذا في حد ذاته مكسب عظيم للدعوة، ساهم في أشد وألد أعدائها، ممن كانوا يشيعون في القبائل قالة السوء عنها، فليس كل الناس يُسَلِّمون بدعاوى القرشيين، بل كان يوجد من مختلف القبائل من يتابع الأخبار، ويتحرى الصواب فيظفر به.

وكانت الوسيلة الإعلامية في ذلك العصر تناقل الناس للأخبار مشافهة, وسمع القاصي والداني بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصبح هذا الحدث العظيم حدث الناس في كل مكان، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يشق طريقه لكسر الحصار المفروض على الدعوة، والانتقال بها إلى مواقع جديدة، وسنرى ذلك في عرضه للدعوة على القبائل، والخروج للطائف، وهجرة الحبشة.

لقد كان أولى الناس بتوجيه الدعوة إليهم: قريش وأهل مكة وبالأخص عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم الأقربين فوجه إليهم الدعوة من خلال هذا المنبر العلني، وأنذرهم عذاب الله وبأسه إن لم يؤمنوا (8).

ولكن قريشًا رفضت الاستجابة والانقياد للحق المبين, وكان موقفهم كموقف الأقوام السابقة من رسلهم، فحاربوا الدعوة الجديدة التي عرت واقعهم الجاهلي وعابت آلهتهم وسفهت أحلامهم، أي آراءهم وأفكارهم وتصوراتهم عن الحياة والإنسان والكون، فاتخذوا العديد من الوسائل والمحاولات لإيقاف الدعوة وإسكات صوتها أو تحجيمها وتحديد مجال انتشارها.

لقد فكر النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج بالدعوة من مكة لتحقيق أمور من أهمها:

1- البحث عن موطن يأمن فيه المسلمون على دينهم، ويسلمون من أذى قريش وفتنتها، حيث لا تطالهم يدها، ولا يمتد إليهم بطشها.

2- البحث عن بيئة تقبل الدعوة، وتستجيب لها، في مقابل عنت القرشيين وكنودهم، ومن هذه البيئة تنطلق إلى آفاق الأرض، تحقيقًا لأمر الله بالتبليغ للعالمين (9).

فكانت هجرة المسلمين إلى الحبشة، فكانت الأولى في شهر رجب سنة خمس من المبعث، وهم أحد عشر رجلاً وأربع نسوة خرجوا مشاةً إلى البحر فاستأجروا سفينة.

وقد صورت أم سلمه زوج النبي صلى الله عليه وسلم - وهي ممن هاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى - الظروف التي أحاطت بهذه الهجرة فقالت: (لما ضاقت علينا مكة وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في منعة من قومه وعمه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه» فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار, أمنا على ديننا ولم نخش منه ظلمًا) (10).

لقد كانت هجرة المسلمين إلى أرض الحبشة ذات أبعاد سياسية وإعلامية ودعوية, وكان اختيار النبي صلى الله عليه وسلم للحبشة في غاية الدقة وبعد النظر؛ لأنه (التفت صلى الله عليه وسلم إلى ما يحيط به من الداخل والخارج، وما ينتظر دعوته من أخطار، فوجد أن جذورها قد امتدت في أعماق الجزيرة العربية، بين مؤمن قوى الإيمان، وبين كافر معاند شديد الحرص على زعامتها، عظيم الحقد على الدعوة وصاحبها).

وأما خارج الجزيرة، فتوجد إمبراطورية فارس وقد أعماها دخان النار، وإمبراطورية الروم وقد عبدوا الملوك ودنياهم، أما الحبشة فما يزال بها بعض وميض من صدق رسالة عيسى عليه السلام، وأن بها ملكًا لا يُظلم أحد بأرضه (11).

وهذا يدل على اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يدور حوله ومعرفة الدول وطبائعها.

ولقد كانت الهجرة وسيلة من أهم وسائل الإعلام في الإسلام؛ لأن مجرد خروج المسلمين من بلد كانوا فيه منذ النشأة، يخلق تساؤلاً كبيرًا في المجتمع المليء بالكذب والأراجيف والمتخصص في تشويه أخبار الدين الجديد، وخرجوا وقد تركوا تساؤلاً في أذهان الناس: ما الذي حملهم على ترك أوطانهم وأموالهم وأهليهم؟ إنه لأمر عظيم.

لقد خرج الوفد الإعلامي الإسلامي الأول للحبشة بخطة محكمة وتدبير مقصود لنشر الدعوة الإسلامية وإعلانها في كل مكان, حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل كتابًا للنجاشي يشير فيه إلى البر بالمسلمين ويدعوه فيه إلى الإسلام (12).

وهكذا ترى أن اختيار الزمن والمكان لم يكن لمجرد الصدفة والهروب من شدة العذاب فقط، بل كان بعضهم في حماية قبيلة يستطيع البقاء في مكة دون إيذاء مهلك (13).

وكان الوفد الإعلامي الأول أشبه بسفارة في أيامنا الحاضرة لكنها تحمل شعار لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتعمل جاهدة على نشره، لقد كان الهدف الأول من هجرة المسلمين إلى الحبشة حماية المستضعفين من أذى قريش، ودفع غربتهم المعنوية، وتأمينهم على دينهم، وفتح آفاق جديدة للدعوة إلى الله يشرف عليها المهاجرون، والحط من مكانة قريش عند سائر العرب، وإدانة موقفهم من الدعوة وحَمَلتها، يجعل الأحباش يسبقون قريشًا ويؤوون من طردتهم وأساءت إليهم من أشراف الناس، ومن ضعفائهم وغربائهم وهذه كلها آثار إيجابية، لا يضير أن يوجد إلى جوارها آثار سلبية قليلة، منها: أن إيواء الحبشة للمسلمين وطيب مقامهم بها أذكى نار الحقد لدى قريش، فضاعفت من حربها ومكرها، وعداوتها(14).

وعندما تسامع المهاجرون بأن قريشًا قد أسلمت، وكفت عن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم رجعوا، فوجدوا الأمر أشد مما كان، فأذن النبي × بالهجرة الثانية، فهاجر قرابة المائة ما بين رجل وامرأة واستقروا هناك(15).

لقد ذكر ابن إسحاق (16) دوافع الهجرة الثانية، فقال: (فلما اشتد البلاء وعظمت الفتنة تواثبوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الفتنة الآخرة التي أخرجت من كان هاجر من المسلمين بعد الذين كانوا خرجوا قبلهم إلى أرض الحبشة) (17).
لقد أرسلت قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة يحملان الهدايا إلى النجاشي وبطارقته، فقابلا النجاشي طالبين إليه إعادة من هاجر من المسلمين، فأرسل النجاشي إلى المسلمين فسألهم عن دينهم فقال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: (أيها الملك كنا قومًا على الشرك، نعبد الأوثان ونأكل الميتة، ونسئ الجوار، ونستحل المحارم، بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لا نحل شيئًا ولا نحرمه، فبعث الله إلينا نبيًا من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونصل الرحم، ونحسن الجوار، ونصلى ونصوم، ولا نعبد غيره).

فقال: هل معك شيء مما جاء به؟ وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله، فقال جعفر: نعم.
قال: هَلُمَّ فاتلُ علىَّ ما جاء به.

فقرأ عليهم صدرًا من كهيعص (18)، فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم ثم قال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها عيسى.. انطلقوا راشدين.

abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 66 مشاهدة
نشرت فى 9 يونيو 2012 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

309,641