مؤمن الهباء | 22-02-2012 11:37

كانت الصحافة القومية عماد صاحبة الجلالة.. منها خرج الرواد الذين أقاموا صروحًا صحفية شامخة فى البلدان العربية الشقيقة.. ومن معطفها خرجت الصحافة الحزبية والخاصة والمستقلة.. وظلت الصحافة القومية لعقود طويلة تتباهى بمؤسساتها العريقة ونجومها الزاهرة وأقلامها الحرة.. وعندما أراد الرئيس الراحل أنور السادات أن يقلب الرأى العام عليها أشاع بأن كل صحفى يريد قصرا أو سيارة آخر موديل، أما الرئيس المخلوع فقال إن الصحفيين ليس على رأسهم ريشة.

الآن تحولت الصحافة القومية إلى رجل مصر المريض..

يتداعى الناس عليه لإنقاذه.. يعقدون الاجتماعات ويطرحون الأفكار.. لكن مشاكل المريض تتزايد وأزماته لا تنتهى.. حتى وصل إلى حالة لم يعد يرجى فيها شفاؤه.. والناس من حوله يحولقون ويمصمصون شفاههم شفقة عليه.. ومنهم من يقول: إكرام الميت دفنه.

لم تعد الصحافة القومية هى الرائدة.. ولم يعد الصحفيون فيها لهم مقام معلوم، فقد تراكمت عليهم الكوارث طبقات طبقات.. وراحوا يدورون فى حلقات مفرغة.. ويهرولون فى نفق مظلم.. وكلما لاح أمامهم شعاع ضوء اكتشفوا فى النهاية أنه فجر كاذب.

والسبب الأهم فى أن تصل الصحافة القومية إلى هذه المحنة هو أنها بلا صاحب حقيقى يخاف عليها ويرعى شئونها، والذين كان أمرها فى أيديهم لم يراعوا ضمائرهم وإنما تصرفوا فيها مثلما يتصرف المالك فى عزبته.. مع استدراك مهم.. فالذى يتصرف فى عزبته يخاف فى النهاية على ماله.. ويعمل بكل جهده من أجل تنميته، لكن الذى يلعب فى مال ليس له صاحب سوف يسقط تلقائياً فى الفساد لأن لا أحد يسأله ماذا فعل ولماذا.

والفساد المقصود هنا ليس مقصوراعلى السلب والنهب وإهدار المال فى الهدايا والرشاوى ومحاباة الكبراء والأصدقاء والأقارب، وإنما يمتد أيضًا إلى التخبط المالى والإدارى والصحفى..

فى التعيينات العشوائية والمزاجية والترقيات العشوائية والمزاجية، وفى إهدار القواعد واللوائح والقوانين، فى تضييع الحقوق والاستهانة بالقيم والقامات.. فى التكويش على السلطات والصلاحيات وإسقاط التقاليد المهنية الراسخة، حتى يمسك بالمناصب من لا يعرف ومن لا يستحق.. ويمسك بالقلم من لا يعرف ومن لا يستحق.

وإذا كان تاريخ الصحافة القومية قد حفظ أسماء بعض من صنعوا للصحافة مجدها وعلموا أجيالها.. فقد حفظ أيضا أسماء بعض من عينوا فى مناصبهم عن طريق مباحث أمن الدولة، ومن عينوا بالرشاوى، ومن كانت تملى عليهم المقالات من تقارير المباحث، ومن هنا جاء التدهور المهنى صحفيا وماليا وإداريا، ودخل الصحافة من لا يجيد غير النفاق والدس والوقيعة، وبينما تقدم هؤلاء تراجعت القامات ووقف أصحاب النفوس العالية عند الحدود التى لا يريقون فيها ماء وجوههم.. ويسفكون كرامتهم على مذبح صفوت الشريف ورجال أمن الدولة.

وكانت النتيجة لكل هذا العبث مزيدا من الفشل والتدهور والديون وانخفاض توزيع الصحف وفقدان ثقة القارئ فيها .. ومن جانب آخر تدهور قيمة الصحفى القومى ومكانته واستنزافه واستضعافه واستفقاره.

هناك جيل كامل دفع ثمن هذا التخبط والانحطاط والعشوائية التى تعيشها الصحافة القومية حاليا.. لم ينج من أبناء هذا الرجل المريض إلا الفاسد الذى جمع المال بالتحايل والعمولات وبيع الصفحات لمن يدفع بالكاش أو بالتقسيط.. أو من ترك الصحافة ووجد مجده فى جلب الإعلانات وتحول إلى مندوب للوزارات والمصالح فى مؤسسته وليس العكس.. أما الذين راهنوا على العمل الصحفى والضمير الصحفى والمجد الصحفى والأمانة الصحفية فقد وجدوا فى أيديهم قبض الريح لم يحصدوا غير الهشيم.

عندما تقرأ الآن أن الصحفى يأخذ 250 ألف جنيه شهريا عن حلقة يقدمها على القناة الفضائية أسبوعيا فلا تظن أن كل الصحفيين على هذا النحو .. ففى الصحافة القومية قامات عالية تحصل على ثلاثة آلاف جنيه شهريا فقط.. لأنها حافظت على نفسها من الانزلاق وراء المزايدات والمضاربات وعملت بضمير لأكثر من ثلاثين عامًا.. رغم أنها تملك مؤهلات الخلطة السحرية لتفاعلات المزايدات والمضاربات.

وعندما تقرأ أن المذيعة رفضت تخفيض أجرها عن 275 ألف جنيه شهريا فلا تظن أن الصحفيين فى المؤسسات القومية يحلمون بالاقتراب من نصف أو ربع هذا الرقم.. إنهم فقط يحلمون ربما بأن تطبق عليهم لائحة الإذاعة والتليفزيون التى يرفضها الآن أبناء ماسبيرو والتى تعطى المدير العام سبعة آلاف شهريا والمدير ستة آلاف والتعيين المبتدئ ألفا جنيه.

وحينما يقرأ الصحفيون فى المؤسسات القومية أن وزير التعليم العالى يطرح لائحة جديدة يمنح فيها الأساتذة 25 ألف جنيه والمدرس المساعد 7 آلاف جنيه والمعيد ثلاثة آلاف جنيه شهريا فإنهم يتحسرون على أنفسهم وعلى أعمارهم التى ضاعت هباءً منثورا فى بلاط صاحبة الجلالة.. والناس تحسدهم على الوهم الذى يعيشون فيه..

إن المحنة الكبيرة التى تعيشها المؤسسات الصحفية القومية جعلت الصحفيين فيها ينتظرون على أحر من الجمر اليوم الذى يجرى فيه خصخصة تلك المؤسسات حتى يكون لها صاحب يميز بين الغث والسمين ويراقب ماله الذى يتم بعثرته يمينا وشمالا دون وازع من ضمير، وذلك على الرغم من أنهم يعرفون جيدا مخاطر الخصخصة وعواقبها.. ولكن الوضع الحالى هو الأسوأ.. وهو الذى سيقضى تماما على الصحافة القومية وعلى المؤسسات وعلى مهنة الصحافة لو استمر دون تصحيح سريع.

المؤسسات القومية تنهار.. وكل الوصفات التى تقدم لها الآن منتهية الصلاحية، ولن تجدى معها أية أموال تضخها الحكومة.. وإنما لابد من إصلاحات جذرية للهياكل والأجور ولابد لها من صاحب يسأل ويراقب.. وإلا فسوف تتحول هذه المؤسسات ذات الدور التنويرى إلى قنابل موقوتة تفجر الوطن من الداخل.

 

abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 42 مشاهدة
نشرت فى 27 فبراير 2012 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

305,585