-----------------------
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الموت والحشر, جرائم وحوادث
-----------------------
فهد بن سالم الحامد
الأحساء
24/1/1427
جامع ابن درعان
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- حال المشركين عند المصائب. 2- شهادات الناجين من الغرق. 3- دروس وعبر من الحادثة. 4- من أسباب النجاة.
-------------------------
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فأوصيكُم ونفسي بتقوَى الله، قَال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يذكر الله لنا حال المشركين في كتابه فيقول سبحانه: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]، ويقول سبحانه وتعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء:67].
أما حالنا اليوم فنعصي الله في الفلك والجو، نحاربه بنعمه، حيث الاختلاط والمعازف والعُري، فلا تكاد باخرة أو طائرة تخلو من هذه المنكرات، فما أحلمه سبحانه، وما أرحمه، يقول سبحانه وتعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر:45].
عباد الله، إن ما حدث في الأسبوع الماضي من غرق العبارة ـ السفينة ـ المتجهة من السعودية إلى مصر وغرق معظم ركّابها الذين يصِل عددهم إلى 1400 راكب، وما نجا منهم إلا القليل، منهم من بقي في عرض البحر ساعات وبعضهم أيامًا، روى بعض الناجين الساعات العصيبة التي قضَوها في مياه البحر إلى أن انتشلتهم طواقم الإنقاذ، وإن العناية الإلهية وحدَها هي التي أنقذتهم.
عباد الله، لقد استوقفني وأثّر فيّ موقف رواه أحد الناجين لراكِب قبَّل ابنتَه ثم رمى بنفسه في عرض البحر، يقول سعود النفيعي وهو أحد الناجين: إن شخصا لما غرقت زوجته وبقيت ابنتُه وعندما أحسّ بالهلاك لبس طوق النجاة وصلّى ركعتين أمامَنا وقبّل ابنته ثمّ رمَى بنفسه في الماء لينجوَ وترك ابنتَه التي لا يتجاوز عمرها عاما ونصف العام فوق سطحِ الباخرة وهي تغرق.
إن هذا الموقِف لتقشعرّ منه الجلود، وإن المؤمن ليتذكّر قوله سبحانه وتعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ، ويقول سبحانه: يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ.
يقول أحد الناجين: إنه بقي يسبح في البحر عشرَ ساعات رغم أنه لا يجيد السباحة، وإنه ركب مع مجموعَة من الركاب في قارِب، وأخذ يصلّي ومن معه في القارب الذي سرعان ما انقلَب قاذفا بالجميع في عرض البحر، وبقي يتخبّط في الموج ويدعو الله أن ينجيَه حتى تم إنقاذه.
وقال آخر: إنه تمكن من اللجوء لقارب بعد أن أوشكت السفينة على الغرق، ثم انتقل إلى قارب آخر، حتى مرت سفينة متجهة إلى الأردن، فقام ملاحوها بإنقاذهم.
ويقول آخر: بعد انطلاق صفارة الخطر بدأ الركاب يقفزون إلى البحر متذكِّرًا منظر طفل رضيع في يدِ أمَه وعددًا كبيرا من الرّكاب البسطاء وهم يهوون داخل البحر.
ويقول أحد الركاب: إنه تشبّث بقارب به أكثر من أربعين راكبا، وبه خرق، إلا أنه تمكّن من تفريغه من المياه أولا بأول، وبقي في البحر ما يقارب ثمانية عشر ساعة تتقاذفه الأمواج، وأضاف قائلاً: إنهم كانوا في منطقة مليئة بأسماك القرش، لكن الله حفظهم.
ويقول ناجٍ آخر وقد غطت فرحته بالنّجاة آثار الكدمات في وجهه: إنه لا يستطيع وصف ما حدث من مأساة حقيقية وهو يشاهد الركاب يهوون في البحر.
ويقول ناصر: إنه بقي وزملاؤه يصارعون الموج أكثر من عشرين ساعة، حيث وجدوا قطعة خشبيّة تشبّثوا بها، حتى استطاعوا ركوبَ أحد القوارب الذي انقلب من كثرة ركابه.
أما عتيق فيقول: أنقذت العناية الإلهية ستة من الركاب، حيث استمرّوا في السباحة لمدة ثلاثة أيّام متتاليّة، إلى أن وصلوا إلى جزيرة نعمان، ومن ثمّ تم إنقاذهم بواسطة الطيران.
ويقول ناج آخر: تشبّثت ومعي ثمانية ببرميل نحو ست عشرة ساعة في عرض البحر، وتوالى سقوطهم واحدًا تلو الآخر بفعل برودَة الجو والأمواج المتلاطمة، إلى أن أصبحنا أربعة، ولقد شارفت على الموت لولا أن تغمدني الله برحمته ونجاني، إنها نعمة كبرى من المولى سأظل أحمده عليها إلى أن ألقاه.
وتقول ناجية عمرها 50 عامًا: إنها وابنها الذي لم يتجاوز عمره خمسة عشر عامًا قفزا في عرض البحر، ثم تعلقا بلوح خَشبي، وتقول: ظللت متشبّثة بيد ابني ودعوته للصمود ولذكر الله، غير أن الأمواج كانت أقوى منه، فأبعدته عني إلى مكان الله وحده أعلم به، وعزائي الوحيد أنّ آخر كلمة سمعته ينطق بها هي: يا ربّ.
وتقول أخرى: لم أجد أمامي سوى القفز في البحر والتعلّق بلوح خشبي طيلة 14 ساعة، من الساعة الثالثة ليلا حتى الساعة الخامسة عصرًا، بعدها لم أستطع المقاومة أكثر أو التشبّث في اللوح الخشبيّ، وشعرت أن جسدي تجمّد تماما إلا من حركة اللسان الذي لهج بذكر الله ومناجاته، عندها لاح الأمل من حيث لا أدري، وجدت بجانبي قاربًا عليه مجموعة جذبوني إليه، بعدها بقيت 25 ساعة، ورغم ذلك لم أيأس من رحمة الله، فأخذت أردد أن يرحمني برحمته.
ويقول ياسر: قفزت إلى مياه البحر، وتشبثت بقارب عليه ما يقرب من خمسة وعشرين راكبًا، ظللنا عليه مدة 4 ساعات تقريبًا، لكن مع الحمولة الزائدة على القارب ومع الأمواج انقلب في المياه وفارق الحياة أمامي عشرة أشخاص. واستطرد قائلاً: لم أجد أمامي سوى لوح خشبيّ مسَكت به، وظللت كذلك إلى أن شاهدت من بعيد سفينة هنديّة سبحت باتجاهها، فأنقذني الله.
عباد الله، في المحنِ والمصائِبِ يعرِف الناسُ عِزَّ الرّبوبيّة وقهرَها، وذلَّ العبودية وكسرَها، وأنّ الخلقَ كلَّهم ملكُه وعبيده، راجِعون إلى حكمِه وتدبيره، لا مفرَّ لهم منه، ولا محيدَ لهم عنه، وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ [الأنبياء:93]. أما المؤمِنون فعلى يقينٍ أنّ أفعالَ الله عز وجل تتضمَّن الحكمةَ وإن غابت عن عقولِنا المحدودةِ.
عباد الله، إنَّ المصائب تنزل بالبَرّ والفاجر، فمن سخِط فله السّخطُ، ومن رضِيَ فله الرضا، والمؤمِنون يتعامَلون مع الأحداث بالعِظةِ والاعتبار، قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى [النازعات:26]، ويأخذون منها الدروسَ والعبر التي تفتح الآذانَ وتوقِظ القلوب وتحرِّك المشاعر، قال تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء:59].
قال تعالى: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنعام:43]. فهذه المصائب لها مغزًى وعِبرة ورسالة لمن اغترَّ بلعمه وخُيِّل إليه أنّه بلغ الآفاقَ وقدر على كلِّ شيءٍ أنّه ضعيف أمام قدرة الله، عاجزٌ هو وعِلمه عن دفع أمرٍ كتَبَه الله عليه، فهو ضعيفٌ لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، قال الله تعالى: وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28].
هذه الأحداثُ تبيِّن للإنسانِ قيمةَ هذه الدنيا وقدرَها ومِقدارها ومآلها، فهي معرَّضَة للزوال، صائِرةٌ إلى الفناء، وأنها مَتاع الغرور، وأنها ظِلّ زائل ونعيم خادِع. هذه الدّنيا التي عليها يتقاتَلون وخلفَ حُطامها يلهثون لا تساوِي شيئًا، قال الله تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20]، وقال تعَالى: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ [النساء:77]، وقال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]. إنها حياةُ مؤقَّتة وأجل قريب مهما طالَ العمر والأمل.
إن الإنسان لا يعلم بأي أرض يموت، قال تعالى: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34].
لقد قرأنا وسمعتم بعض قصص الناجين من غرق العبارة اليسير، مَن ذَهل من هولِ الفاجِعة عن زوجهِ وأولادِه، فقفز في عرض البحر وقد ترك وراءَه أهله وأبناءه وماله، فقد شغِلَ بما هو أعظم، وفي القيامةِ يقول الرسول كما في حديث عائشة رضي الله عنها: ((يحشَرُ الناسُ يومَ القيامَةِ حُفاةً عراة غُرلاً))، فقالت: يا رسول الله، النساءُ والرجال ينظر بعضُهم إلى بعض؟! قال : ((يا عائشة، الأمرُ أشدُّ من أن ينظرَ بعضُهم إلى بعض)) أخرجه البخاري ومسلم.
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيمِ، أقول قولي هذَا، وأستغفِر اللهَ العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرّحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمدُ لله، أحمده سبحانه وأشكرُه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه ومَن سلك سبيلَهم واقتفى.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوَى الله، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
عباد الله، إن سبيل النجاة والمخرَج منَ الكرب والفِتنة والشِدّة والمحنة هو اللّجوء إلى الله تبارك وتعالى وحدَه والفزَعُ إليه والصلاة، قال تعالى: فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام:42]، وعن حذيفة رضي الله عنه رفعه قال: ((يأتي عليكم زمانٌ لا ينجو فيه إلاّ من دعا دعاءَ الغريق))، وقال : ((لا يرُدُّ القدَرَ إلا الدعاء))، وقال أيضًا: ((من سرَّه أن يستَجَاب له عند الكربِ والشّدائدِ فليكثِرِ الدعاءَ في الرخاء)) رواه الحاكم وصححه، ودعوةُ المضطرِّ مجابَةٌ، قال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62].
مِن أسبابِ النجاةِ التوبةُ والاستغفار، وذلك بتركِ الذنوب والعَزم على عدَم العودةِ إليها، قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33].
مِن أسبابِ النّجاةِ الإصلاحُ والأمر بالمعروف والنهيُ عن المنكر، قال تعالى: فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ [هود:116]، وقال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117].
الصّدقةُ وبَذل المعروفِ مِن أسبابِ النّجاةِ، قال : ((صنائِعُ المعروف تقِي مصارعَ السوء، وصدَقَة السِرّ تطفِئ غضَبَ الربِّ، وصِلةُ الرحم تطيل العمرَ)).
هذا وصلّوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابِهِ فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صَلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاءِ الأربعةِ الرّاشدين ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين...

المصدر: المنبر
abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 39 مشاهدة
نشرت فى 9 فبراير 2012 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

308,706