د. خالد صقر | 14-01-2012 14:55

خلال الثلاثة عقود الأخيرة تعرضت العديد من الأبحاث الرصينة التى تتناول أساليب الولايات المتحدة فى توجيه السياسة العالمية لمناقشة وتحليل أساليب أجهزة الاستخبارات الأمريكية فى اختراق منظمات المجتمع المدنى فى عدد من الدول، وهذا الاختراق بحسب أحد هذه الأبحاث [1] يهدف إلى تحقيق أربعة أهداف رئيسية هى أولا: جمع وتصنيف المعلومات الاستخباراتية، ثانيًا: إضعاف سلطة النظام المناوئ لسياسات الولايات المتحدة، ثالثًا: توفير الدعم الاستشارى للولايات المتحدة فى تعاملها السياسى والإعلامى مع قضايا البلد، ورابعًا: فتح قنوات تواصل لإقناع الجماهير بالرؤى الأمريكية السياسية والاقتصادية والثقافية، فالاختراق السياسى والأمنى لمنظمات المجتمع المدنى من قبل الولايات المتحدة فى عدد كبير من الدول تأتى على رأسها إيران واليابان ليس بالأمر الجديد، لكن الجديد والمثير أيضًا أن نعلم أن هذا الاختراق قد وصل لهذا القدر من النضج فى مصر، كما كشفت وثائق ويكيليكس الأخيرة كما عرضتها الصحف المصرية وعلى رأسها "المصريـون" خلال الأيام القليلة الماضية.

يقول البروفيسور ويليام روبنسون، أستاذ العلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا، فى كتابه "الصراعات الانتقالية فى أمريكا الوسطى: الصراعات الاجتماعية والعولمة" [2] متحدثًا عن الاختراقات الأمريكية لدول أمريكا الوسطى خلال حقبة التسعينيات والتى كانت تهدف إلى القضاء على أنظمة الحكم الشمولية فى هذه البلاد: "إن أهم تحدٍ كان يواجه الولايات المتحدة هو خلق قوة ضغط مناوئة للقوة الجماهيرية التى تعتمد عليها تلك الأنظمة، وللتغلب على هذا التحدى كان من الضرورى أن يحدث اختراق شامل لجميع منظمات المجتمع المدنى فى الدول المستهدفة بالتغيير خلال الثمانينيات والتسعينيات، وتم هذا الاختراق بتشكيل وتمويل منظمات مجتمع مدنى جديدة شكلت الجبهة (التغييرية) الرئيسية للسيطرة على المنظمات القائمة بالفعل، فأنشئت العديد من المنظمات الأهلية والاجتماعية وتم تمويلها ودعمها من خلال العديد من البرامج السياسية والتعليمية الأمريكية، مثل برامج "التسويق للديمقراطية Democracy Promotion". لقد أوضحت فى العديد من أبحاثى السابقة كيف تم توجيه هذه البرامج لخلق شبكات من المجموعات المدنية فى كل دولة مخترقة وتضم كل شبكة منها العديد من هيئات الأعمال والاقتصاد والمؤسسات الإعلامية واتحادات الطلبة ومؤسسات دعم واتخاذ القرار، إضافة إلى العديد من الهيئات المدنية النسائية واتحادات المزارعين، وباستثناء حالات فردية فإن كل القادة الذين تم اختيارهم لقيادة هذه المؤسسات والهيئات قد تم انتقاؤهم من النخب السياسية المحلية فى كل بلد، وكان هؤلاء القادة لهم مهمة واحدة محددة وهى تسخير كل جهود المنظمات المدنية المدعومة أمريكيًا للقضاء على منظمات المجتمع المدنى (القومية) القائمة بالفعل ومنع أى جهود جماهيرية تهدف لتكوين منظمات مجتمع مدنى خارجة عن سيطرة ودعم الولايات المتحدة. لقد تم (اصطناع) العشرات من منظمات المجتمع المدنى فى دول أمريكا الوسطى من خلال برامج "تسويق الديمقراطية" التى تقدمها أمريكا وتم دعم عشرات المنظمات القائمة بالفعل وإعادة هيكلتها وتشكيلها بما يتوافق مع سياسات ومصالح الولايات المتحدة" أ.هــ

إذن فوثائق ويكيليكس لم تكشف شيئًا جديدًا بالنسبة للسياسات الاختراقية للولايات المتحدة والمتعلقة بمنظمات المجتمع المدنى، لكنها بالفعل كشفت العديد من التفاصيل الجديدة فيما يتعلق بالتطبيق على الساحة المصرية، فمن الواضح تمامًا أن نسبة ضخمة من منظمات المجتمع المدنى المصرية قد تم اختراقها أمريكيًا سواء بالاصطناع من الصفر أو بالتمويل وإعادة التوجيه، فما هى التحديات التى يفرضها هذا الواقع على صناع القرار القادمين لسدة الحكم فى مصر فى القريب العاجل؟ أحاول فيما تبقى من المقال أن ألخص هذه التحديات بشكل يجعلها مستوعبة وواقعية فى ظل موازين القوى العالمية والداخلية.

بالتأكيد لن تقبل الولايات المتحدة بالمساس القانونى أو السياسى بمنظمات المجتمع المدنى، فهذا يشل الإرادة الأمريكية فى مصر ويعمى أبصارها ويصم أسماعها، وعندئذٍ لن يكون هناك سبيل سوى تصعيد لهجة الخطاب إلى الساسة المصريين وربما تدويل القضية، وقد شاهدنا رد فعل البيت الأبيض عند مداهمة الشرطة لبعض مكاتب هذه المنظمات، إذن فخيار (التحييد القانونى) لا ينبغى أن يطرح فى هذه المرحلة الدقيقة، وعلينا أن نترك هذه المنظمات تعمل بحرية فى الفترة القادمة، ولكن فى نفس الوقت لا ينبغى أن نقف مكتوى الأيدى، فيجب أن تطلق الحكومة (بشكل واعٍِ) مبادرة شعبية كبرى تهدف لفتح الباب أمام مشاريع أهلية ضخمة ترعاها الحكومة أو المؤسسات المصرية العريقة مثل الأزهر أو الجامعات الكبرى، هذه المشاريع تهدف لتطوير وإعمار مصر، وينبغى على الحكومة التسويق بشكل جذاب جدًا لهذه المبادرة بحيث تحصد الدعم الجماهيرى والشبابى لها، ومن ثم فإن الخامات التى تعمل على استثمارها منظمات المجتمع المدنى (الجماهير/الشباب) ستصبح غير متاحة لها.

إضافة إلى ذلك فيجب أن تسن قوانين تلزم منظمات المجتمع المدنى وأعضاءها بقدر ما من الخدمات الاجتماعية كمحو الأمية و تشجير الشوارع وغير ذلك، بحيث توفر الحكومة الدعم المالى والبنية التحتية لهذه الأنشطة وتوفر منظمات المجتمع المدنى القوة العاملة من أعضائها والمنتسبين إليها وتوفر أيضًا التخطيط لهذه الأنشطة، بحيث يمكن من خلال هذه الطريقة استثمار القدرات البشرية لهذه المنظمات بعيدًا عن ما يمكن أن يضر بالأمن القومى، كما أن إثقال منظمات المجتمع المدنى بهذه الأدوار سيحد بالتأكيد من عدد المنتظمين فيها وأعضائها.

التعامل مع منظمات المجتمع المدنى المخترقة أمريكيًا فى مصر يحتاج لدهاء وحكمة شديدتين، فعدم القدرة على إدارة هذه الصراع قد يلقى بمصر فى صراع دولى مع الولايات المتحدة ونحن فى أشد الغنى عن مثل هذا الصراع الآن، كما أن ترك هذه المنظمات تمارس دورها المرسوم بعناية بكل حرية يشكل تهديدًا لا شك فيه على الأمن القومى المصرى بقطاعاته المختلفة. القضية تحتاج لمزيد من البحث من المؤسسات المتخصصة وتحتاج لوضع خطة زمنية للتعامل معها بما يتماشى مع الخطة الزمنية التى تسير فيها البلاد لانتقال السلطة.

أستاذ زائر - ماليزيا

[email protected]

 


اضف تعليقك
الاسم :

عنوان التعليق:

التعليق:

أرسل التعليق

تعليقات حول الموضوع

دعهم ينفقون أموالهم فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة

محمد السعيد | 14-01-2012 21:38

كما انه يمكن فضح هذه المنظمات العميلة وتعريتها أمام المواطن العادى وهو قادر بلا شك فى التفريق بين ما هو عميل وما هو وطنى وربما كانت نتيجة انتخابات مجلس الشعب خير دليل على ذلك

 

المصدر: المصريون
abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 33 مشاهدة
نشرت فى 15 يناير 2012 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

309,505