الكاتب: د. محمد مورو

تاريخ النشر: الثلاثاء، 23/01/2007

يخطئ من يتصور أن العطاء الحضاري والجهادي للإسلام والمسلمين قد أنقطع يومًا ما ويخطئ من يتصور أيضًا أن الاستعمار الأوروبي لأفريقيا كان قدرًا لافكاك منه، بل يرجع أساسًا إلى أخطاء تكتيكية واستراتيجية أرتكبها المسلمون.

ولعل في تجربة الشيخ عثمان بن فودي مؤسس الدولة الصكتية في غرب أفريقيا ما يؤكد هذين الأمرين
يقول الأستاذ أحمد محمد قاني عن تلك التجربة في كتابه الهام " الجهاد الإسلامي في غرب أفريقيا" :" مما لاشك فيه أن حركة الجهاد الصكتي تعتبر إحدى الثورات الإسلامية الفريدة في العالم الإسلامي التي ساهمت في خلق دولة إسلامية وفي بناء مجتمع إسلامي على أسس سلمية . لقد تركت هذه الحركة بصمتها الفكرية والسياسية على مجتمعات غرب أفريقيا، وما زالت آثار هذه البصمات باقية وعالقة حتى الآن، ولا تزال معالمها تقف شامخة وشاهدة على عظمة هذه الدولة التي استمرت مائة عام منذ عام 1804م وحتى دخول الاستعمار الأوروبي الفرنسي والإنجليزي والألماني لتلك البلاد في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ونتج عن ذلك تقسيم الخلافة الصكتية إلى مناطق نفوذ للدول الاستعمارية، وكانت الخلافة الصكتية في فترة قصيرة قد نجحت في السيطرة على مساحة جغرافية، كبيرة حوالي 150الف ميل مربع، واستطاعت أن تقيم دولة كبيرة شاسعة الأطراف من تشاد إلى مالي شرقًا وغربًا وإلي ولاية أويو جنوبًا.

وهكذا فإننا أمام حركة جهادية ظهرت في القرن التاسع عشر أي في عصر الانحطاط الإسلامي، الأمر الذي يؤكد استمرار العطاء الحضاري والجهادي للإسلام في كل الظروف، واستطاعت تلك الحركة أن تقيم خلافة على مساحة كبيرة من الأرض من تشاد إلى مالي لمدة كبيرة من الزمن - حوالي 100 عام - وأن توحد تلك المناطق تحت نفوذها، ولولا الخلافات التي ظهرت فيما بعد لاستطاعت تلك الدولة الصمود في وجه الزحف الأوروبي، خاصة إذا أضفنا إلى ذلك أنه لو كان محمد على الذي ظهر في مصر سنة 1805 م واستطاع أن يقيم دولة قوية، لو كان محمد على قد أهتم بمشروعه الأفريقي وتحاشي الصدام مع الخلافة العثمانية، ووفر على مصر وأفريقيا والعرب والخلافة العثمانية هذا المجهود الكبير الذي تبدد في الصدام بين مصر ودولة الخلافة العثمانية، لاستطاع محمد على بجيش مصر ومواردها وعلمائها أن يقيم نهضة حضارية شاملة في أفريقيا حيث أن فتح السودان مثلاً كلف محمد على أقل من 1 0/0 من المجهود الذي بذله في مشروعاته ومغامراته الشمالية، ولكان قد استطاع أن يقيم نهضة صناعية وعسكرية في أفريقيا، ويوفر في الوقت نفسه المجهود الذي بلته الدولة العثمانية في الصدام معه ، وبالتالي كانت تستطيع أن تصمد في معاركها مع الدول الأوروبية داخل أوروبا ذاتها .. وهذا معناه أولاً شغل الدول الأوروبية عن مشروعاتها الاستعمارية في أفريقيا، وحرمان أوروبا بالتالي من كل الموارد التي قامت عليها نهضتها الصناعية ثانيًا ويمكن لنا أن نتصور تساند محمد على والدولة الصكتية في أفريقيا لإقامة نهضة إسلامية حضارية وعسكرية وصناعية بثروات أفريقيا وعلماء مصر ورجالها، خاصة أن التقدم العلمي في ذلك الوقت لم يكن يسمح لأوروبا أن تعرقل مشروع محمد على الأفريقي خاصة في مجال المواصلات، حيث تظل المسافات بين أوروبا وأفريقيا في هذه الحالة حائلاً بينها وبين عرقلة مشروع محمد على الأفريقي، كما أن ميزان القوى العلمي والعسكري لم يكن مختلاً جدًّا بين أوروبا ومصر في عهد محمد على لأن هذا الميزان أصلاً كان مستقطبًا نحو الصراع داخل أوروبا ذاتها ومع الدولة العثمانية من ناحية، ولأن التقدم العلمي والعسكري والصناعي الأوروبي لم ينشأ بصورته الراهنة إلا بعد نهب ثروات أفريقيا.

أي أن الاستعمار الأوروبي لأفريقيا لم يكن قدرًا، بل جاء نتيجة اختلاف أبناء عثمان الفودي وأتباعه من الدولة الصكتية وكذلك جاء نتيجة الخطأ الاستراتيجي الفادح لمحمد على حين اتجه شمالاً فاصطدم بالخلافة بدلاً من أن يتجه إلى عمقه الاستراتيجي الطبيعي والحيوي في أفريقيا، ولو حدث ذلك لكان من الممكن الآن الحديث عن الإنسان الأفريقي صاحب المشروع الحضاري الصناعي والعسكري، والإنسان الأوروبي المتخلف، أي لكانت النهضة والثروة الصناعية قد حدثت في الجنوب، والعكس في الشمال على غير الحال التي وصلت إليه الآن.


حياته وجهاده :
هو الشيخ عثمان بن محمد بن محمد الملقب بالفودي " أي الفقيه بلغة القلانيين " ولد في ولاية سكتو في نيجريا الحالية في قرية مرت سنة 1168 هـ ـ 1752 م، وقد نشأ الشيخ في بيئة علمية إسلامية، وبدا حياته العلمية بحفظ القرآن الكريم على يد والده الشيخ محمد فودي ودرس علوم اللغة العربية والعلوم الدينية الإسلامية على يد الشيخ عبد الرحمن بن حمدا، ثم أخذ ينتقل من مكان إلى مكان طالبًا للعلم كعادة الطلاب في ذلك الزمان.

وتنقسم حياة الشيخ عثمان الفودي إلي ثلاث مراحل، هي مرحلة الدعوة منذ عام 1774 إلى عام 1803، ثم مرحلة الجهاد وإنشاء الخلافة الصكتية من عام 1804 إلى عام 1810 م، ومرحلة توطيد أركان تلك الدول الإسلامية الجديدة من عام 1810 وحتى عام 1817 م، حيث توفي الشيخ في هذه السنة نفسها أي عام 1817م.


الخلافة الصكتية :
بعد مجهود كبير بذله الشيخ عثمان الفودي في الدعوة إلى الجهاد والوحدة وتحكيم شرع الله بدلاً من التنافر والفساد والتفكك و استطاع الرجل أن يجمع حوله عددًا كبيرًا من الأنصار والأتباع، بدأ بهم مرحلة جهاد وقتال مرير وهجرة من مكان إلى مكان، واستطاع الشيخ أن يصنع النواة لدولته الجديدة القائمة على تحكيم شرع الله تعالي والدعوة إلى توحيد المسلمين في غرب أفريقيا، واتخذ من مدينة صوكتو عاصمة لدولته الجديدة ومن قتال على قتال ومن جهاد إلى جهاد وسع الشيخ أملاك خلافته حتى أصبحت تضم بعد وفاته حوالي 150 ألف ميل مربع في تشاد شرقًا ومالي غربًا والنيجر ونيجريا جنوبًا، وعاشت تلك الدولة حوالي مائة عام منذ عام 1804 وحتى بداية القرن العشرين حيث كان الصدام والتفكك الذي حدث فيما بين خلفاء الشيخ عثمان الفودي سبباً في سقوط تلك البلاد في يد الاستعمار الأوروبي.


الآثار العلمية للشيخ عثمان الفودي :
وإلي جانب حياة الجهاد والقتال والإدارة التي عاشها الشيخ عثمان فإنه كان عالمًا فقيهًا وشاعرًا فحلاً، فقد كان يقرض الشعر ويجيد وزن الأبيات بلغة عربية فصحي ومازال الكثير من أشعاره محفوظًا حتى الآن كما كان ضليعًا في علوم اللغة العربية والعلوم الشرعية الإسلامية وكان صاحب مدرسة جهادية وإصلاحية متميزة مازلت آثارها الفكرية والسياسية والدينية باقية في غرب أفريقيا حتى اليوم 0
وقد تميز الشيخ عثمان بالدعوة إلى الاجتهاد ورفض الدعوة التي تقول بإغلاق باب الاجتهاد الشرعي، وكان يشجع تلاميذه على ذلك وفي هذا الصدد يقول الأستاذ أحمد محمد قاني في كتابه " الجهاد الإسلامي في غرب أفريقيا " كان الشيخ عثمان الفودي يرمي من وراء أرائه الاجتهادية إلى حل المشاكل التي تواجه الإدارة السياسية والنظام القضائي، وقد تبلورت أراء الشيخ عثمان الاجتهادية في كثير من المسائل السياسية والقضايا التي تولدت من المشاكل اليومية التي واجهتها الإدارة في تلك الأزمنة 0
وكان من الطبيعي أن يلقب فقه الجهاد الصكتي بفقه الدعوة لأنه فقه عمل وليس نظريًا كما يتضح جليا في كتابات بعض الفقهاء، ولم يعتمد الشيخ عثمان بن فودي في طرحه للقضايا الفقهية والسياسية ومحاولته إيجاد الحلول لها على أراء المتقدمين فحسب، بل حاول بنفسه استنباط الأحكام المناسبة، معتمدًا على اجتهاده الخاص على ضوء الكتاب والسنة، ليجريها على الواقع الاجتماعي والسياسي 0
وفد ناهزت مؤلفات الشيخ عثمان الفودي مائة كتاب، كما شكل مدرسة فقهية استمر عطاؤها طويلاً في أخوانة وأبنائه وأتباعه وتلاميذه، ومن أهم مؤلفات الشيخ عثمان الفودي إرشاد الملة إلى تيسير الملة، الفرق بين ولاية أهل الإسلام وبين ولاية أهل الكفر، تنبيه الإخوان على جواز اتخاذ المجلس لأجل تعليم النسوان علم فروض الأعيان من دين الله تعالي الرحمن، سراج الأخوان في أهم ما يحتاج اليه في هذا الزمان، مسائل مهمة يحتاج معرفتها أهل السودان وغيرها من المؤلفات التي جاءت في معظمها في باب الجهاد والدعوة وتحليل الواقع المعاش والاجتهاد في المسائل المطروحة عمليًا 0

 

المصدر: الفتح
abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 324 مشاهدة
نشرت فى 3 ديسمبر 2011 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

308,454