الكاتب: د. محمد مورو

تاريخ النشر: السبت، 07/04/2007


الرأسـماليـة الوطنيــة
إذا حاولنا أن نتتبع أحداث الصراع بيننا وبين الغرب وخاصة في المائتي سنة الأخيرة، نكتشف حقيقة مذهلة وهي أن الغرب لا يريد لنا النهضة -أي نهضة- على أساس إسلامي أو حتى على أساس الثقافة والأيديولوجية الغربية ذاتها وبالأسلوب والنمط الحضاري الغربي ذاته.

وإذا كان مفهوماً أن الغرب لا يريد لنا نهضة على الأساس الإسلامي بسبب التعصب الصليبي، وبسبب الصراع التقليدي بين الحضارة الإسلامية التي تنحاز إلى الإنسان وترفع شأنه وتنحاز إلى الحق والعدل والحرية ، وبين الحضارة الأوروبية التي قامت على القهر والعنف والنهب وتدمير القيم، وهي حضارة إغريقية وثنية ذات قشرة مسيحية فإن من العجيب أن الغرب لا يريد لنا حتى النهضة في إطار حضارته هو وثقافته هو أيضاً.

وإذا كان هناك نقطة مبدئية وهي عدم إمكان قيام نهضة في بلادنا على غير الأساس الإسلامي لأن الإسلام هو الأيديولوجية الوحيدة القادرة على تعبئة الجماهير من أجل النهضة ، فإنه حتى وبصرف النظر عن هذا فإن الغرب لا يريد لنا أي نهضة على أي أساس كان.

عمل الغرب جاهداً على ضرب الإسلام والعالم الإسلامي، وواجه العالم الإسلامي تحديات خطيرة في هذا الشأن لم تنقطع يوماً ، فالحروب الصليبية التي بدأت في المشرق الإسلامي سنة 1098م واستمرت قرنين كاملين وانتهت بهزيمة الصليبيين لم تنقطع في الحقيقة ، بل استمرت ألف عام في بلاد المغرب العربي تونس والجزائر والمغرب، ولم تنقطع يومًا، ثم عادت من جديد مع الحملة الفرنسية على مصر 1798 ثم استمرت إلى يومنا هــذا.

والغرب يخاف وحدة المسلمين ولكن حتى في إطار التجزئة فإنه يكيد لبلاد الإسلام المجزأة والمفتتة، ويزيد من تفتيتها رغم أنها تقوم الآن على أساس الإقليمية وليس الإسلامية، أنظر مثلا المؤامرات الاستعمارية في جنوب السودان لإضعاف السودان وخنق مصر في منابع النيل.

وإذا حاولنا أن تأخذ مصر كنموذج ، فأننا نجد أن الاستعمار دائمًا كان يشجع الاستبداد ويحرض عليه، فإنجلترا وفرنسا مثلا تتقدمان بالمذكرات للخديوي توفيق بمصادرة الحريات والإمساك بكل السلطات في يده وتعده بالدعم الكامل في هذا الإطار في مذكرة مشتركة سنة 1881 ولما وجدت أن الثورة العرابية قاب قوسين أو أدني من النصر، تلاشت التناقضات الثانوية بين فرنسا وإنجلترا وضحت فرنسا بمصالحها في مصر وتركت الكعكة كلها لإنجلترا في مقابل ذبح الثورة العرابية، وما أن تحتل إنجلترا القاهرة حتى تلغي مجلس النواب وتصادر الصحف وتمنع حرية القول والاجتماع وأي شكل من أشكال الحرية.

وعلى مستوى النهضة الصناعية ، فإنه بعد نجاح حركة الكفاح الشعبي في مصر ضد الفرنسيين 1798 ـ 1801م، وضد الإنجليز 1807م وضد الاستبداد 1805، فإن من الطبيعي أن تكون هناك طاقة جبارة تتجه للتصنيع خاصة بعد صدمة الاحتكاك مع فرنسا ، وكانت تلك النهضة تستند إلى أسس راسخة فالذين صنعوا المدافع والقذائف في ثورة القاهرة الثانية ضد الفرنسيين سنة 1800م كانوا قادرين على خوض غمار التصنيع، وكانت هناك نهضة علمية في الأزهر نفسه تسمح بهذا، بل كان التلاميذ من أوروبا يأتون لتلقي علوم الرياضة والفلك والكيمياء على يد علماء الأزهر ويوميات الجبرتي مليئة بترجمات لعلماء كانوا يدرسون الهندسة والفلك والكيمياء للتلاميذ المسلمين أو الأوروبيين على حد سواء، بل وكان التمويل موجودًا إذ كان التمويل شرطًا أساسيًا للتصنيع، فمثلا السيد أحمد المحروقي الذي كان واسع الثراء ووصلت تجارته إلى البلاد العربية والإسلامية والأوروبية كان رجلا وطنيًا وبرغم أنه كان كبير التجار "شاه بندر التجار" فانه شارك في الكفاح الوطني ضد الفرنسيين، وأنفق أمواله على حركة المقاومة وتعرض لبطش الفرنسيين ومصادرة أمواله بسبب مشاركته ودعمه للمقاومة أي أنه كان وطنياً ، ومن يشارك في الثورة بديهي أنه لن يبخل في تمويل النهضة الصناعية بل وكان هناك العديد من الصناعات كالغزل والنسيج والنحاس والحدادة والصباغة ، وكانت مصر مملوءة بالحرفيين وكانت محصلة هذا كله مع حالة الشعب المعنوية المرتفعة، ومع الطاقة المتولدة عن نجاح الحركة الشعبية في هزيمة دولتين أوروبيتين في أقل من عشر سنوات 1798 ـ 1807م أن تظهر نهضة صناعية ولكن الغرب كان متربصًا، وكان لابد من وسيلة شيطانية لتبديد تلك الطاقة فجاء محمد علي واحتكر الصناعة والتجارة والزراعة ودمر الحرفيين والصناع ودمر كل مراكز الصناعة الشعبية في مقابل إقامة صناعة متقدمة ترتبط بالجيش وبه شخصيًا، وتركه الغرب يفعل ذلك بل ساعده على أساس أن ذلك كله مادام مرتبطًا بشخص ونظام فيمكن تدميره بسهوله مع تدمير الشخص والنظام، وقد كان فاستنفد محمد علي قوة مصر في الصدام مع الخلافة وبعد أداء المهمة تم ضربه واجتمعت أوروبا كلها لتحطيمه، وسقط محمد علي وسقطت معه كل الصناعات التي أنشأها والنتيجة أنه لا أبقي على الأوضاع الصناعية الشعبية والحرفية، بل دمرها ولا استطاع أن يحمي مشروعه الصناعي ذاته.

وعقب1860م شهدت مصر سيلا هائلا من الهجرة الأوروبية ، من كل حثالات أوروبا جاءوا لممارسة الربا والسلب والنهب، وأنشأوا البنوك وأغرقوا الخديوي في الديون، وشجعوا قيام مشروعات زراعية أو مشروعات طرق وسكك حديدية، وذلك بهدف أن تكون الزراعة مصدرًا للسلع التصديرية، وأن تكون الطرق والسكك الحديدية وقناة السويس وسائل مساعدة في عملية النهب، وسيطر الغرب تمامًا على كل تلك المشروعات، ولم يسمحوا بقيام صناعة من أي نوع أو شكل، بل استصدروا القرارات الخديوية بفرض الضرائب على الحرفيين والصناع، ولم يسمحوا إلا بنمط واحد من الاستثمار هو الاستثمار الزراعي والعقاري، بل وهذا النمط استحوذوا على الكثير منه، وعندما قامت الثورة العرابية تحت تأثير أفكار السيد جمال الدين، انتبهت الثورة لهذا، وفكرت جديًا في تشجيع العلوم والفنون والصناعة، بل وفكرت في إنشاء بنك أهلي لتمويل الصناعة بعيدًا عن نفوذ البنوك الأوروبية، وأكثر من هذا استصدرت الثورة قرار بمنع تصدير الغلال حتى لا ترتفع أسعارها على القراء، ومعني هذا أن هناك تفكير في منع تصدير هذا أو استيراد ذاك من السلع من أجل مصالح الفقراء، وإذا كان منع تصدير الغلال سيخفض أسعارها، فأن زيادة الرقعة الزراعية المزروعة بالغلال تحقق نفس النتيجة، أي أن زراعة القطن ستتقلص وهكذا يمكن أن تقطع كل خيوط التبعية، ويمكن تحقيق استقلال أسواق الوطني، أكثر من هذا أن الثورة استطاعت أن تحشد كل فئات الشعب خلفها الفلاحين والمثقفين، الأزهر، الأعيان، رجال الدين، بل وبعض كبار الملاك مثل البارودي، والتجار أيضًا مثل السيد حسن موسى العقاد الذي ورث 100 ألف جنيه عن والده موسى العقاد، عدا العقارات والأطيان وأنفقها كلها من أجل الثورة وتمت محاكمته بعد هزيمة الثورة ونفي نفيًا مؤبدًا وهو نفس الحكم الذي صدر على عرابي، وهذا يعطينا فكرة عن مدي مساهمة هذا التاجر في الثورة، وكذلك التاجر أمين الشمسي كبير تجار الزقازيق الذي كان ينسق نشاط الثورة واتصالاتها بعرابي في محافظة الشرقية، وتمت أيضًا محاكمته بعد هزيمة الثورة، وصدر حكم عليه بالإقامة الجبرية 4 سنوات وغرامة قدرها 5000جنية (خمسة الأف جنيه).

إذن فق كانت الثورة العرابية نذيرًا بنهضة صناعية، ولكن أوروبا تركت لإنجلترا مهمة ذبح الثورة والقضاء على تلك النهضة، فجاء كرومر إلى مصر ومنع جميع أنواع التعليم العلمي وضرب جميع الصناعات، بل وأصدر قرار بفرض ضريبة على الحرفيين أ سماها :" البا طنطا " وهي ضريبة باهظة أدت إلى وأد الحرف، وكرر كرومر ومن بعده نفس الشيء وهو عدم السماح إلا بالاستثمار الزراعـــي.

وبعد ثورة 1919م فكر المصريون في إنشاء عدد من الصناعات عن طريق بنك مصر الذي انشأه طلعت حرب، ولكن هذا البنك وهذا الرجل تعرضا لجميع المضايقات من كل نوع وشكل، ووصلت إلى حد النيل من شرف وسمعة طلعت حرب، ولكن البنك صمد والصناعات التي أنشأها استمرت، وجاءت الحرب العالمية الثانية وتسببت الأعمال الحربية في قطع طرق المواصلات البحرية بالذات، وكانت هذه فرصة للصناعات المصرية أن تنشط وتتسع ويقوي عودها بعيدًا عن منافسة الصناعات الاستعمارية، بل واضطر المستعمر إلى شراء المنتجات الصناعية المصرية لدعم مجهوده الحربي، وخرجت الصناعة المصرية بعد الحرب العالمية الثانية قوية متماسكة، ولكن من جديد تفكر أوروبا في ضرب تلك الصناعات، ولم يكن هذا سهلا، ولكن تجربة محمد علي تتكرر بكل أخطائها دون أن تحمل أيا من مزاياها، وجاء عبد الناصر وأمم وصادر كل الصناعات المصرية وأقام صناعات مرتبطة ايضًا بجهاز الدولة والجيش والحاكم، فلما سقط عبد الناصر بهزيمة 1967 م سقطت معه صناعاته وتلاشت كأنها بالونة، وغرقت مصر من جديد بالبنوك الأجنبية والمرابيين وحثالات أوروبا وأمريكا وغرقت في شبكة معقدة من التبعية والنهــب.


والمحصلة النهائية
أن الغرب لا يريد لنا نهضة لا على الأساس الإسلامي ولا على أساس النمط الحضاري الأوروبي، لا يريد لنا نهضة في إطار دولة الوحدة أو الخلافة الإسلامية أو حتى الوحدة العربية ولا في إطار إقليمي تجزيئي، ولا في أي إطـار.

 

المصدر: الفتح
abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 74 مشاهدة
نشرت فى 3 ديسمبر 2011 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

313,917