39-إنَّما هي أعمالُكُم أُحصيها لكم

قوله ﻷ:$ يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا#:
هو إشارةٌ إلى أنَّ مُلكه لا يزيدُ بطاعة الخلق ، ولو كانوا كلُّهم بررةً أتقياءَ ، قلوبُهم على قلب أتقى رجلٍ منهم ، ولا يَنْقُصُ مُلكُهُ بمعصية العاصين ، ولو كان الجنُّ والإنسُ كلُّهم عصاةً فجرةً قلوبُهم على قلبِ أفجرِ رجلٍ منهم ، فإنَّه سبحانه الغنيُّ بذاته عمَّن سواه ، وله الكمالُ المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله ، فَمُلكُهُ ملكٌ كاملٌ لا نقص فيه بوجه من الوجوه على أيِّ وجهٍ كان.
وفي الحديث أنَّ جميعَ الخلق لو كانوا على صفةِ أكمل خلقه من البرِّ والتقوى ، لم يزد ذلك ملكه شيئًا ، ولا قدر جناح بعوضة ، ولو كانوا على صفة أنقصِ خلقه من الفجور ، لم ينقص ذلك من ملكه شيئًا ، فدلَّ على أنَّ ملكه كاملٌ على أيِّ وجهٍ كان لا يزداد ولا يكمل بالطاعات ، ولا يَنقُصُ بالمعاصي ، ولا يؤثِّرُ فيه شيء.
وفي هذا الكلام دليلٌ على أنَّ الأصل في التَّقوى والفجور هو القلبُ ، فإذا برَّ القلبُ واتَّقي برَّت الجوارحُ ، وإذا فجر القلب ، فجرت الجوارحُ ، كما قال النَّبيُّ ص:$التَّقْوَى هَا هُنَا # ، وأشَارَ إلَى صَدرِه (رواه مسلم).
قوله ﻷ:$ يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ# المرادُ بهذا ذكرُ كمال قدرته سبحانه ، وكمال ملكه ، وإنَّ مُلكَهُ وخزائنَه لا تَنفَدُ ، ولا تَنقُصُ بالعطاء ، ولو أعطى الأوَّلين والآخرين من الجنِّ والإنس جميعَ ما سألوه في مقامٍ واحدٍ ، وفي ذلك حثٌّ للخلق على سؤالِه وإنزالِ حوائجهم به.
وفي (الصحيحين) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ صقال:$ يَدُ اللهِ مَلْأَى لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَقَالَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ#.(لَا يَغِيضهَا)لَا يُنْقِصهَا ، (سَحَّاء) أَيْ دَائِمَة الصَّبّ ، (يَغِضْ) أَيْ يَنْقُص.
وفي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ ص قال:$ إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ وَلْيُعَظِّمْ الرَّغْبَةَ فَإِنَّ اللهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ #.
وقال أبو سعيدٍ الخدريُّ:«إذا دعوتُم الله ، فارفعوا في المسألة ، فإنَّ ما عنده لا يَنْفَدُه شيء ، وإذا دعوتم فاعزموا ، فإنَّ الله لا مستكره له».
قوله ﻷ:$ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ#تحقيق لأنَّ ما عنده لا ينقُصُ البتَّة ، كما قال تعالى:( مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ ) (النحل:96) ، فإنَّ البحرَ إذا غُمِسَ فيه إبرةٌ ، ثم أُخرجتْ ، لم ينقص من البحر بذلك شيءٌ ، وكذلك لو فرض أنَّه شرب منه عصفورٌ مثلًا ، فإنَّه لا ينقص البحر البتة ، وهذا لأنَّ البحر لا يزال تمدُّ هُ مياه الدُّنيا وأنهارُها الجاريةُ ، فمهما أُخِذَ منه ، لم يَنْقُصْهُ شيءٌ ؛ لأنَّه يمدُّه ما هو أزيدُ ممَّا أخذ منه.
وهكذا طعامُ الجنَّة وما فيها ، فإنَّه لا ينفدُ ، كما قال تعالى:( وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ) (الواقعة:32 - 33) ، ، فهي لا تنقُصُ أبدًا ويشهد لذلك قولُ النَّبيِّ ص في خطبة الكسوف:$وأرِيتُ الجَنَّة ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا ، وَلَوْ أخَذْتُه لأكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا #(رواه البخاري ومسلم).
وقال بعضهم:
لا تَخضَعَنَّ لِمخلُوقٍ على طَمَعٍ فإنَّ ذَاكَ مُضِرٌّ مِنْكَ بالدِّينِ
واستَرْزِقِ الله مِمَّا فــي خَزَائِنِهِ فإنَّما هيَ بَيْنَ الكَافِ والنُّونِ
وقوله:$ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا# يعني:أنَّه سبحانه يُحصي أعمالَ عبادِه ، ثمَّ يُوفيهم إياها بالجزاء عليها ، وهذا كقوله:( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ )(الزلزلة:7 - 8) ، وقوله:
( وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا )(الكهف:49) ، وقوله:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) (آل عمران:30) ، وقوله:( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَميعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ ) (المجادلة:6).
وقوله ﻷ:$ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا #الظاهرُ أنَّ المرادَ توفيتُها يوم القيامة كما قال تعالى: (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (آل عمران:185) ، ويحتمل أنَّ المرادَ:أنَّه يوفي عبادَه جزاءَ أعمالِهم في الدُّنيا والآخرة كما في قوله:( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) (النساء:123).
وقد قَالَ رَسُولُ اللهِ ص:$إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا للهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا»(رواه مسلم)
وتوفية الأعمال هي توفية جزائها من خيرٍ أو شرٍ ، فالشرُّ يُجازى به مثلَه من غير زيادةٍ ، إلاَّ أنْ يعفوَ الله عنه ، والخيرُ تُضاعف الحسنة منه بعشر أمثالها إلى سبعِ مئةِ ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ لا يعلم قدرها إلا الله ، كما قال ﻷ:( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (الزمر:10).
وقولهﻷ: $ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ# إشارةٌ إلى أنَّ الخيرَ كلَّه من الله فضلٌ منه على عبدِه ، من غير استحقاقٍ له ، والشرُّ كلُّه من عند ابنِ آدم من اتَّباع هوى نفسه ، كما قال ﻷ:( مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) (النساء:79)
وقال عليٌّ ت:«لا يرجُوَنَّ عبدٌ إلا ربه ، ولا يخافنَّ إلا ذنبه».
فالله سبحانه إذا أراد توفيقَ عبد وهدايته أعانه ، ووفَّقه لطاعته ، فكان ذلك فضلًا منه ، وإذا أراد خِذلانَ عبدٍ ، وكلَهُ إلى نفسه ، وخلَّى بينَه وبينَها ، فأغواهُ الشيطانُ لغفلته عن ذكرِ الله ، واتَّبع هواه ، وكان أمره فُرُطًا ، وكان ذلك عدلًا منه ، فإنَّ الحجَّةَ قائمةٌ على العبدِ بإنزالِ الكتاب ، وإرسال الرسول ، فما بقي لأحدٍ مِنَ النَّاس على الله حجةٌ بعد الرُّسُلِ.
فقوله ﻷ بعد هذا:$ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ #
إنْ كان المرادُ:مَنْ وجدَ ذلك في الدُّنيا ، فإنَّه يكونُ حينئذٍ مأمورًا بالحمد لله على ما وجده من جزاءِ الأعمال الصالحة الذي عجل له في الدُّنيا كما قال:( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97) ، ويكون مأمورًا بلوم نفسه على ما فَعَلَتْ من الذُّنوب التي وجد عاقبتها في الدنيا ، كما قال تعالى:( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (السجدة:21) ، فالمؤمن إذا أصابه في الدُّنيا بلاءٌ ، رجع على نفسه باللوم ، ودعاه ذلك إلى الرجوع إلى الله بالتوبة والاستغفار.
وقال سلمان الفارسي:إنَّ المسلمَ ليُبتلى ، فيكون كفارةً لما مضى ومستعتبًا فيما بقي ، وإنَّ الكافر يُبتلى ، فمثله كمثل البعير أُطلِقَ ، فلم يدر لما أطلق ، وعقل ، فلم يدر لم عُقِلَ؟
وإنْ كان المرادُ من وجد خيرًا أو غيرَه في الآخرة ، كان إخبارًا منه بأنَّ الذين يجدون الخيرَ في الآخرة يحمَدُونَ الله على ذلك ، وأنَّ مَنْ وجدَ غير ذلك يلوم نفسه حين لا ينفعُهُ اللومُ ، فيكونُ الكلام لفظه لفظُ الأمر ، ومعناه الخبرُ ، كقوله ص:$مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًًا ، فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ # (رواه البخاري ومسلم) والمعنى:أنَّ الكاذبَ على النبي ص يتبوَّأ مقعده من النار.
وقد أخبر الله تعالى عن أهل الجنَّة أنَّهم يحمَدُون الله على ما رزقهم من فضله ، فقال:( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ ) (الأعراف:43) ، وقال:( وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ) (الزمر:74) ، وقال:( وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْـمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ) (فاطر:34 - 35).
وأخبر عن أهل النار أنَّهم يلومون أنفسهم ، ويمقُتونها أشدَّ المقت ، فقال تعالى: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ)(إبراهيم:22) ، وقال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ) (غافر:10).
وقال ص:«لَوْ أَنَّ رَجُلًا يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إِلَى يَوْمِ يَمُوتُ هَرَمًا فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَحَقّرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (حسن رواه الإمام أحمد).
يقول ذلك لما يرى عظيم عطاء الله ﻷ.
وقد كان السَّلفُ الصالح يجتهدون في الأعمال الصالحة ؛ حذرًا من لوم النفس عندَ انقطاع الأعمال على التقصير.
قيل لمسروق:لو قصرتَ عن بعض ما تصنع من الاجتهاد ، فقال:«والله لو أتاني آتٍ ، فأخبرني أنْ لا يعذبني ، لاجتهدت في العبادة ، قيل:كيف ذاك؟ قال:حتى تَعْذِرني نفسي إنْ دخلت النار أنْ لا ألومها ، أما بلغك في قول الله تعالى:( وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) (القيامة:2) إنَّما لاموا أنفسهم حين صاروا إلى جهنَّمَ ، فاعتنقتهم الزَّبانيةُ ، وحيل بينهم وبين ما يشتهون ، وانقطعت عنهم الأماني ، ورفعت عنهم الرحمة ، وأقبل كلُّ امرئٍ منهم يلومُ نفسَه».
وكان عامر بن عبد قيس يقول:«والله لأجتهدنَّ ، ثم والله لأجتهدنَّ ، فإنْ نجوت فبرحمة الله ، وإلاَّ لم ألُـمْ نفسي».
وكان مُطرِّف بن عبد الله يقول:«اجتهدوا في العمل ، فإنْ يكن الأمرُ كما نرجو من رحمة الله وعفوه ، كانت لنا درجات في الجنَّة ، وإنْ يكن الأمرُ شديدًا كما نخاف ونُحاذِرُ ، لم نقل:( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) (فاطر:37) ، نقول:قد عملنا فلم ينفعنا ذلك».

40 -لا تَغْضَبْ

عَنْ أَبي هُرَيرَةَ ت أنَّ رَجُلًا قالَ للنَّبيِّ ص:أوصِني ، قال:$ لا تَغْضَبْ # فردَّد مِرارًا قال:$ لا تَغْضَبْ #.رواهُ البُخاريُّ.
وخرَّج الترمذي هذا الحديثَ ولفظُه:جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ ص فقال:يا رسول الله علِّمني شيئًا ولا تُكثر عليَّ لَعَلِّي أعيه ، قال:$ لا تَغْضَبْ # فردد ذلك مرارًا كلُّ ذلك يقول:$ لا تَغَضَبْ #.
وفي رواية أخرى لغير الترمذي قال:قلتُ:يا رسولَ الله ، دلني على عمل يُدخلني الجنَّة ولا تُكثِرْ عليَّ ، قال:$ لا تَغْضَبْ # (صحيح).
 الغضبُ مفتاحُ كلِّ شرٍّ :
هذا الرجلُ طلب مِن النَّبيِّ ص أنْ يُوصِيهَ وصيةً وجيزةً جامعةً لِخصال الخيرِ ، ليحفظها عنه خشيةَ أنْ لا يحفظها ؛ لكثرتها ، فوصَّاه النَّبيُّ ص أنْ لا يغضب ، ثم ردَّد هذه المسألة عليه مرارًا ، والنَّبيُّ ص يردِّدُ عليه هذا الجوابَ ، فهذا يدلُّ على أنَّ الغضب جِماعُ الشرِّ ، وأنَّ التحرُّز منه جماعُ الخير.
وروى الإمامُ أحمد عن عبد اللهِ بن عمرو:أنَّه سأل النَّبيَّ ص :ماذا يُبَاعِدُني مِنْ غَضَبِ اللهِ ﻷ قال:$لا تَغْضَبْ # (إسناده جيد).
قال جعفر بنُ محمد:الغضبُ مفتاحُ كلِّ شرٍّ.
وقيل لابنِ المبارك:اجْمَعْ لنا حسنَ الخلق في كلمة ، قال:تركُ الغضبِ.
وكذا فسَّر الإمام أحمد ، وإسحاقُ بنُ راهويه حسنَ الخلق بتركِ الغضب.
فقولُه ص لمن استوصاه:$ لا تَغْضَبْ # يحتَمِلُ أمرين:
أحدُهما:أنْ يكونَ مرادُه الأمرَ بالأسباب التي توجب حُسْنَ الخُلُقِ من الكرم والسخاء والحلمِ والحياء والتواضع والاحتمال وكفِّ الأذى ، والصفح والعفو ، وكظم الغيظ ، والطَّلاقةِ والبِشْرِ ، ونحوِ ذلك من الأخلاق الجميلة ، فإنَّ النفسَ إذا تخلَّقت بهذه الأخلاق ، وصارت لها عادة أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه.
والثاني:أنْ يكونَ المرادُ:لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حَصَل لك ، بل جاهد نفسَك على ترك تنفيذه والعمل بما يأمر به ، فإنَّ الغضب إذا ملك ابنَ آدم كان كالآمر والناهي له.
ولهذا المعنى قال الله ﻷ:(وَلَـمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ ) (الأعراف:154) فإذا لم يمتثل الإنسانُ ما يأمره به غضبُه ، وجاهد نفسه على ذلك ، اندفع عنه شرُّ الغضب ، وربما سكن غَضَبُهُ ، وذهب عاجلًا ، فكأنَّه حينئذٍ لم يغضب ، وإلى هذا المعنى وقعت الإشارةُ في القرآن بقوله ﻷ:(وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ) (الشورى:37) ، وبقوله ﻷ:(وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِينَ ) (آل عمران:134).
 أسبابٍ تدفعُ الغضبَ :
كان النَّبيُّ ص يأمرُ من غضبَ بتعاطي أسبابٍ تدفعُ عنه الغضبَ ، وتُسَكِّنُهُ ، ويمدح من ملك نفسَه عند غضبه ، ففي $الصحيحين #عن سليمانَ بن صُرَد قال:استَبَّ رجلانِ عندَ النَّبيِّ ص ونحنُ عنده جلوسٌ ، وأحدُهما يَسُبُّ صاحبهُ مغضبًا قد احمرَّ وجهُهُ ، فقال النَّبيُّ ص :$ إنِّي لأعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَها لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ ، لَوْ قَالَ:أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ».
وقال ص:«إذَا غَضِبَ الرَّجُلُ فَقَالَ:«أعُوذُ بِاللهِ »، سَكَنَ غَضَبُهُ» (صححه الألباني في صحيح الجامع).
وقال ص:«إذَا غَضِبْتَ فَاجْلِسْ» (صححه الألباني في صحيح الجامع)
وروى الإمامُ أحمدُ ، وأبو داود:أنَّ النَّبيِّ ص قال:$ إذا غَضِبَ أحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ ، فَلْيَجْلِسْ ، فإنْ ذَهَبَ عَنْهُ الغَضَبُ وإلّا فَلْيَضْطَجِعْ# (صحيح).
وقد قيل:إنَّ المعنى في هذا أنَّ القائم متهيِّئ ، للانتقام والجالس دونَه في ذلك ، والمضطجع أبعدُ عنه ، فأمره بالتباعد عن حالةِ الانتقام.
ولهذا المعنى قال النَّبيُّ ص في الفتن:$ إنَّ المضْطَجِعَ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَاعِدِ ، والقَاعِدَ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ ، وَالقَائِمَ خَيْرٌ مِنَ المَاشِي ، والمَاشِي خَيرٌ مِنَ السَّاعِي # (رواه البخاري ومسلم) ، وإنْ كان هذا على وجه ضرب المثالِ في الإسراع في الفتن ، إلا أنَّ المعنى:أنَّ من كان أقرب إلى الإسراع فيها ، فهو شرٌّ ممن كان أبعد عن ذلك.
وروى الإمامُ أحمد من حديث ابنِ عباس ، عن النَّبيِّ ص قال:$إذا غَضِبَ أحَدُكُمْ ، فليَسْكُتْ # قالها ثلاثًا.(صحيح).
وهذا أيضًا دواء عظيم للغضب ؛ لأنَّ الغضبان يصدر منه في حال غضبه من القول ما يندم عليهِ في حال زوال غضبه كثيرًا من السِّباب وغيره مما يعظم ضَرَرُهُ ، فإذا سكت زال هذا الشرّ كله عنه.
وما أحسنَ قولَ مورق العجلي /:«ما امتلأتُ غيضًا قَطُّ ولا تكلَّمتُ في غضبٍ قطُّ بما أندمُ عليهِ إذا رضيتُ».
ولم أرَ في الأعداءِ حينَ اختبرتُهم عدوًا لعقلِ المرءِ أعْدَى مِن الغضبْ
ليسَتِ الأحلامُ في حالِ الرضـا إنما الأحلامُ في حــــالِ الغضـــبْ
وغضب يومًا عمرُ بن عبد العزيز فقالَ لهُ ابنُه:عبدُ الملكِ رحمهما الله:أنتَ يا أميرَ المؤمنين مع ما أعطاك الله وفضَّلك به تغضبُ هذا الغَضبَ؟ فقال له:أو ما تغضبُ يا عبدَ الملك؟ فقال عبد الملك:وما يُغني عني سعةُ جوفي إذا لم أُرَدِّدْ فيه الغضبَ حتى لا يظهر؟
فهؤلاء قوم ملكوا أنفسهم عند الغضب ي.
وفي (الصحيحين) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ ص قال:$ لَيْسَ الشَّديدُ بالصُّرَعَةِ ، إنَّما الشَّديدُ الَّذي يَملِكُ نَفْسَهُ عندَ الغَضَبِ».
وفي $صحيح مسلم #عن ابن مسعودٍ ، عن النَّبيِّ ص ، قال:$ ما تَعُدُّوَن الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟ # قُلْنَا:الذِي لا تَصْرَعُهُ الرِّجالُ ، قال:$ لَيْسَ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّه الذِي يَملِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ».
وقالص:« الصُّرَعَةُ كُلُّ الصُّرَعَةِ الَّذِي يَغْضَبُ فَيَشْتَدُّ غَضَبُهُ، وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ، وَيَقْشَعِرُّ شَعْرُهُ، فَيَصْرَعُ غَضَبَهُ» (حسن رواه الإمام أحمد).
 وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ :
قال الله ﻷ:(وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِينَ ) (آل عمران:134).
 (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ) أي: إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم ـ وهو امتلاء قلوبهم من الحنق ، الموجب للانتقام بالقول والفعل ـ ، هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية ، بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ ، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم.
( وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) يدخل في العفو عن الناس ، العفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل ، والعفو أبلغ من الكظم ، لأن العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن المسيء ، وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة ، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة ، وممن تاجر مع الله ، وعفا عن عباد الله رحمة بهم ، وإحسانا إليهم ، وكراهة لحصول الشر عليهم ، وليعفو الله عنه ، ويكون أجره على ربه الكريم ، لا على العبد الفقير ، كما قال تعالى:(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) (الشورى:40).
ثم ذكر حالة أعم من غيرها ، وأحسن وأعلى وأجل ، وهي الإحسان ، فقال ﻷ:( وَاللهُ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِينَ) والإحسان نوعان: الإحسان في عبادة الخالق. والإحسان إلى المخلوق ، فالإحسان في عبادة الخالق فسرها النبي ص بقوله: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ » (رواه البخاري ومسلم).
وأما الإحسان إلى المخلوق ، فهو إيصال النفع الديني والدنيوي إليهم ، ودفع الشر الديني والدنيوي عنهم ، فيدخل في ذلك أمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ، وتعليم جاهلهم ، ووعظ غافلهم ، والنصيحة لعامتهم وخاصتهم ، والسعي في جمع كلمتهم ، وإيصال الصدقات والنفقات الواجبة والمستحبة إليهم ، على اختلاف أحوالهم وتباين أوصافهم ، فيدخل في ذلك بذل الندى وكف الأذى ، واحتمال الأذى ، كما وصف الله به المتقين في هذه الآيات ، فمن قام بهذه الأمور ، فقد قام بحق الله وحق عبيده.
وقال النَّبيِّ ص قال:$ مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُو يَسْتَطِيعُ أنْ يُنفِذَهُ ، دَعَاهُ اللهُ يَوْمَ الْقَيامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الْـخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنَ الْـحُورِ الْعِينِ يُزَوِّجُهُ مِنْهَا مَا شَاءَ». (حسن رواه الإمامُ أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه)
وروى الإمامُ أحمد من حديث ابن عمر ، عن النَّبيِّ ص قال:$ ما تَجَرَّع عَبْدٌ جُرعَةً أفْضَلَ عِنْدَ اللهِ مِنْ جُرعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُها ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ ﻷ # (إسناده جيد) ومِن حديث ابن عباسٍ ، عن النَّبيِّ ص قال:$ مَا مِنْ جُرْعَةٍ أحبَّ إلى اللهِ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ ، مَا كَظَمَ عَبْدٌٌ للهِ إلّا مَلَأ اللهُ جَوْفَهُ إِيمَانًا # (قال ابن كثير:إسناده حسن ليس فيه مجروح ، ومتنه حسن).
وقال ميمون بن مِهران:جاء رجلٌ إلى سلمان ، فقال:يا أبا عبدِ الله أوصني ، قال:لا تغضب ، قال:أمَرْتَني أنْ لا أغضب وإنَّه ليغشاني ما لا أملِكُ ، قال:فإنْ غضبتَ ، فامْلِكْ لِسانك ويَدَك ».
وملكُ لسانه ويده هو الذي أشار إليه النَّبيُّ ص بأمره لمن غَضِبَ أنْ يجلس ، ويضطجع وبأمره له أنْ يسكت.
أُحِبُّ مكارمَ الأخلاقِ جُهـدي وأكرهُ أنْ أعيـــبَ وأنْ أعَابَا
وأصفحُ عن سبابِ الناسِ حلمًا وشرُّ الناسِ مَن يهوَى السِبابَا
ومَـن هابَ الرجــالَ تهيَّبـــوه ومَن حَقَر الرجالَ فلــن يُهابا
قال عمرُ بنُ عبد العزيز:«قد أفلحَ مَنْ عُصِمَ من الهوى ، والغضب ، والطمع».
وقال الحسن:«أربعٌ من كُنَّ فيه عصمه الله من الشيطان ، وحرَّمه على النار:مَنْ ملك نفسَه عندَ الرغبة ، والرهبة ، والشهوةِ ، والغضبِ».
فهذه الأربع التي ذكرها الحسن هي مبدأ الشرِّ كُلِّه ، فإنَّ الرغبةَ في الشيء هي ميلُ النفس إليه لاعتقاد نفعه ، فمن حصل له رغبةٌ في شيءٍ ، حملته تلك الرغبة على طلب ذلك الشيء من كل وجه يَظُنُّه موصلًا إليه ، وقد يكون كثير منها محرمًا ، وقد يكون ذلك الشيءُ المرغوبُ فيه مُحرَّمًا.
والرهبة:هي الخوفُ من الشيء ، وإذا خاف الإنسان من شيء تسبب في دفعه عنه بكلِّ طريق يظنه دافعًا له ، وقد يكون كثير منها محرَّمًا.
والشهوة:هي ميلُ النفس إلى ما يُلائمها ، وتلتذُّ به ، وقد تميل كثيرًا إلى ما هو محرَّم كالزنا والسرقة وشرب الخمر ، بل وإلى الكفر والسحر والنفاق والبدع.
والغضب:هو غليانُ دم القلب طلبًا لدفع المؤذي عندَ خشية وقوعه ، أو طلبًا للانتقام ممن حصل له منه الأذى بعدَ وقوعه ، وينشأ من ذلك كثيرٌ من الأفعال المحرمة كالقتل والضربِ وأنواعِ الظلم والعُدوان ، وكثيرٍ من الأقوال المحرَّمة كالقذفِ والسبِّ والفحش ، وكالأيمان التي لا يجوزُ التزامُها شرعًا ، وكطلاق الزوجة الذي يُعقب الندمَ.وربما ارتقى إلى درجة الكفر ، كما جرى لجبلة بن الأيهم وهو ابن الحارث بن أبي شعر ، واسمه المنذر بن الحارث.
قالوا:كتب رسول الله ص إلى جبلة بن الأيهم ملك غسان يدعوه إلى الإسلام ، فأسلم وكتب بإسلامه إلى رسول الله ص وأهدى له هدية ، ثم لم يزل مسلمًا حتى كان زمن عمر بن الخطاب ، فبينا هو في سوق دمشق إذ وطيء رجلًا من مزينة ، فوثب المزني فلطمه ، فأخذ فانطلق به إلى أبي عبيدة بن الجراح ، فقالوا:هذا لطم جبلة.قال:فليلطمه.قالوا:أو ما يقتل؟ قال:لا ، فقالوا:أفما تقطع يده؟ قال:لا ، إنَّما أمر الله بالقوَد ، قال جبلة:أترون أني جاعل وجهي ندًا لوجه جدي جاء من عمق؟ بئس الدين هذا ! ثم ارتد نصرانيًا ، وترحل بقومه حتى دخل أرض الروم.(انظر:تاريخ دمشق 11/19).
والواجبُ على المؤمن أنْ تكون شهوتُه مقصورةً على طلب ما أباحه الله له ، وربما تناولها بنيةٍ صالحةٍ ، فأثيب عليها ، وأنْ يكونَ غضبه دفعًا للأذى في الدين له أو لغيره وانتقامًا ممن عصى الله ورسولَه ، كما قال تعالى:(قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ) (التوبة:14-15)
وهذه كانت حالَ النَّبيِّ ص ، فإنَّه كان لا ينتقِمُ لنفسه ، ولكن إذا انتهكت حرماتُ الله لم يَقُمْ لِغضبه شيء (رواه البخاري ومسلم).
ولم يضرب بيده خادمًا ولا امرأة إلا أنْ يجاهِدَ في سبيل الله.(رواه مسلم).
وخدمه أنس عشرَ سنين ، فما قال له:$ أفٍّ # قط ، ولا قال له لشيء فعله:$لِـمَ فعلتَ كذا # ولا لشيء لم يفعَله:$ ألا فعلتَ كذا # (رواه البخاري ومسلم).
وسئلت عائشةُ عن خُلُقِ رسول الله ص ، فقالت:«كَانَ خُلُقُهُ القُرْآن» (رواه مسلم) تعني:أنَّه كان تأدَّب بآدابه ، وتخلَّق بأخلاقه ، فما مدحه القرآن ، كان فيه رضاه ، وما ذمه القرآنُ ، كان فيه سخطه.
وكان ص لِشدَّةِ حيائه لا يُواجِهُ أحدًا بما يكره ، بل تعرف الكراهة في وجهه ، كما في (الصحيحين) عن أبي سعيد الخدري قال:كان النَّبيُّ ص أشدَّ حياءً من العذراءِ في خِدْرها ، فإذا رأى شيئًا يكرهه ، عرفناه في وجهه ».
ولما بلَّغَه ابنُ مسعودٍ قَولَ القائل:هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ، شقَّ عليه ص ، وتَغيَّر وجهه ، وغَضِبَ ، ولم يَزِدْ على أنْ قال:$ قَدْ أوذِيَ مُوسَى بِأكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ# (رواه البخاري ومسلم).
وكان ص إذا رأى ، أو سَمِعَ ما يكرهه الله ، غَضِبَ لذلك ، وقال فيه ، ولم يَسْكُتْ ، وقد دخل بيتَ عائشة فرأى سترًا فيه تصاويرُ ، فتَلَوَّنَ وجهُهُ وهتكه ، وقال: $إنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِه الصُّوَرَ # (رواه البخاري ومسلم).
ولما شُكِيَ إليه الإمامُ الذي يُطيل بالناس صلاته حتى يتأخرَ بعضهم عن الصَّلاة معه ، غَضِبَ ، واشتد غضبُه ، ووَعَظَ النَّاسَ ، وأمر بالتَّخفيف (رواه البخاري ومسلم).
وكان من دعائه ص :$ أسألُكَ كَلِمَةَ الحَقِّ فِي الغَضَبِ وَالرِّضَا # (صحيح رواه النسائي) وهذا عزيز جدًا ، وهو أنَّ الإنسان لا يقول سوى الحقِّ سواء غَضِبَ أو رضي ، فإنَّ أكثرَ الناس إذا غَضِبَ لا يَتوقَّفُ فيما يقول.
وعن أَبُو هُرَيْرَةَ ت:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ص يَقُولُ:$كَانَ رَجُلَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ ، فَكَانَ لَا يَزَالُ الْـمُجْتَهِدُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ:أَقْصِرْ ، فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ فَقَالَ لَهُ:أَقْصِرْ ، فَقَالَ:خَلِّنِي وَرَبِّي أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا ، فَقَالَ:وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لَكَ أَوْ لَا يُدْخِلُكَ اللهُ الْجَنَّةَ ، فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَقَالَ لِهَذَا الْـمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا ، وَقَالَ لِلْـمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلْ الْـجَنَّةَ بِرَحْمَتِي وَقَالَ لِلْآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ».
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:« وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ»(صحيح رواه أبو داود) .فكان أبو هريرة يُحَذِّرُ الناسَ أنْ يقولوا مثلَ هذه الكلمة في غضب.
فهذا غَضِبَ لله ، ثم تكلَّم في حال غضبه لله بما لا يجوزُ ، وحتم على الله بما لا يعلم ، فأحبط الله عمله ، فكيف بمن تكلَّم في غضبه لنفسه ، ومتابعة هواه بما لا يجوز.
وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ تقَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صفِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَامْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى نَاقَةٍ فَضَجِرَتْ فَلَعَنَتْهَا ، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صفَقَالَ:« خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ».
قَالَ عِمْرَانُ :«فَكَأَنِّي أَرَاهَا الْآنَ تَمْشِي فِي النَّاسِ مَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ»(رواه مسلم).
وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ تقَالَ:بَيْنَمَا جَارِيَةٌ عَلَى نَاقَةٍ عَلَيْهَا بَعْضُ مَتَاعِ الْقَوْمِ إِذْ بَصُرَتْ بِالنَّبِيِّ صوَتَضَايَقَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَقَالَتْ:« حَلْ ، اللَّهُمَّ الْعَنْهَا ».
قَالَ :فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:« لَا تُصَاحِبْنَا نَاقَةٌ عَلَيْهَا لَعْنَةٌ».(رواه مسلم).(حِلْ) كَلِمَة زَجْرٍ لِلْإِبِلِ وَاسْتِحْثَاث.
(خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا فَإِنَّهَا مَلْعُونَة )(لَا تُصَاحِبنَا نَاقَة عَلَيْهَا لَعْنَة ) إِنَّمَا قَالَ ص هَذَا زَجْرًا لَهَا وَلِغَيْرِهَا ، وَكَانَ قَدْ سَبَقَ نَهْيهَا وَنَهْي غَيْرهَا عَنْ اللَّعْن ، فَعُوقِبَتْ بِإِرْسَالِ النَّاقَة ، وَالْـمُرَاد النَّهْي عَنْ مُصَاحَبَته لِتِلْكَ النَّاقَة فِي الطَّرِيق ، وَأَمَّا بَيْعهَا وَذَبْحهَا وَرُكُوبهَا فِي غَيْر مُصَاحَبَته ص ، وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَات الَّتِي كَانَتْ جَائِزَة قَبْل هَذَا فَهِيَ بَاقِيَة عَلَى الْجَوَاز ؛ لِأَنَّ الشَّرْع إِنَّمَا وَرَدَ بِالنَّهْيِ عَنْ الْـمُصَاحَبَة ، فَبَقِيَ الْبَاقِي كَمَا كَانَ.
وعن جابرت قال:سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ص فِي غَزْوَة ورَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى نَاضِحٍ لَهُ فَأَنَاخَهُ فَرَكِبَهُ ثُمَّ بَعَثَهُ ، فَتَلَدَّنَ عَلَيْهِ بَعْضَ التَّلَدُّنِ ؛ فَقَالَ لَهُ : «شَأْ لَعَنَكَ اللهُ » فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ص:«مَنْ هَذَا اللَّاعِنُ بَعِيرَهُ؟».
قَالَ:« أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ ».
قَالَ:« انْزِلْ عَنْهُ فَلَا تَصْحَبْنَا بِمَلْعُونٍ ، لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ ، لَا تُوَافِقُوا مِنْ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ». (رواه مسلم). (فَتَلَدَّنَ عَلَيْهِ بَعْض التَّلَدُّن)أَيْ تَلَكَّأَ وَتَوَقَّفَ.
(شَأْ) كَلِمَة زَجْر لِلْبَعِيرِ.وَفِي هَذَا الْحَدِيث النَّهْي عَنْ لَعْن الدَّوَابّ.
فهذا كله يدلُّ على أنَّ دعاء الغضبانِ قد يُجاب إذا صَادف ساعةَ إجابةٍ ، وأنَّه ينهى عن الدعاء على نفسه وأهله وماله في الغضب.
وقول النَّبيِّ ص :$ إذا غَضِبَ أحَدُكُمْ ، فليَسْكُتْ # (صحيح رواه الإمامُ أحمد) يدلُّ على أنَّ الغضبانَ مُكَلَّفٌ في حال غضبه بالسكوت ، فيكون حينئذٍ مؤاخذًا بالكلام ، وقد صحَّ عن النَّبيِّ ص :أنَّه أمر من غضب أنْ يتلافى غضبَه بما يُسكنه من أقوال وأفعال ، وهذا هو عينُ التكليف له بقطع الغضب.
وقال عطاءُ بنُ أبي رباح:«ما أبكى العلماءَ بكاء آخرِ العمرِ من غضبة يغضبُها أحدُهُم فتهدِمُ عملَ خمسين سنة ، أو ستين سنة ، أو سبعين سنة ، وربَّ غضبة قد أقحمت صاحبها مقحمًا ما استقاله».
وفي (مسند الإمام أحمد) عن خويلة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أنَّها راجعت زوجَها ، فغَضِبَ ، فظاهر منها ، وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خُلُقُه وضَجِرَ ، وأنَّها جاءت إلى النَّبيِّ ص ، فجعلت تشكو إليه ما تلقى من سوء خلقه ، فأنزل الله آيةَ الظهار ، وأمره رسول الله ص بكفارة الظِّهار (حسن).
فهذا الرجل ظاهر في حال غضبه ، وكان النَّبيُّ ص يرى حينئذ أنَّ الظهارَ طلاق ، وقد قال:إنَّها حَرُمَتْ عليه بذلك ، يعني:لزمه الطلاق ، فلما جعله الله ظهارًا مكفرًا ألزمه بالكفارة ، ولم يُلْغِهِ.
وروى مجاهد عن ابنِ عباس:أنَّ رجلًا قال له:إني طلقت امرأتي ثلاثًا وأنا غضبان ، فقال:إنَّ ابنَ عباس لا يستطيع أنْ يُحِلَّ لك ما حرَّم الله عليك ، عصيتَ ربَّك وحرمت عليك امرأتك.(رواه الدارقطني بإسناد على شرط مسلم).
 حصاد الغضب:
قلة الحلم وكثرة الغضب آفتان عظيمتان ، إذا انتشرتا في مجتمع ما قوَّضَتَا بُنيانه ، وهدَمَتا أركانه ، وقادتا المجتمع إلى هوة سحيقة ، ونخَرتا كما ينخر السوس في جسد المجتمع المسلم حتى يؤدي به إلى الهلاك والعياذ بالله.
ألسنا نرى ضياع المجتمعات الإسلامية ، واندثار آدابها وكثرة الخلافات بين دولها وشعوبها فساعد ذلك على تقطيع الأواصر والروابط ، وإشاعة أجواء التباغض والتدابر والتحاسد وإظهار الشماتة على الأمة المسلمة من قبل أعدائها .
انظروا مثلا إلى الحالات المتعددة والمنتشرة للطلاق أو ما يكون بين الزوجين من شقاق ، مما أدى إلى التفريق ، وهدم البيوت، وتفويض الأسر، أليس ذلك في الغالب نتيجة من الغضب وقلة الحلم ؟
حيث ترى الزوج بعد ذهاب غضبه يندم ولات ساعة مندم ، ويتأسف على ما مضى ، ويرى أنه قد جنى على نفسه بالحرمان وعلى زوجته بالعقوبة ولا ذنب لها ، ويَتَّمَ أولاده وهو لم يزل حيًّا ثم يبحث لنفسه عن المعاذير، ويقلب في الفتاوى لدى المفتين لمحو غلطة ارتكبها دون تفكير أو روية ، أو تدرُجٍ في التأديب ، مما تسبب في هدمٍ كان بإمكانه علاجه لو ملك عقله ، وأشهر حلمه ، وكف غضبه.
من نتائج الغضب وثمراته أنك ترى إخوة من أب واحد يختلفون فيما بينهم لأتفه الأسباب فيعمل الغضب فيهم عمله فيتعادون ويتقاطعون، فيتبدد بذلك شمل الأسر وتراهم يتسابُّون ويتشاتمون وقد أخذهم الغضب كل مأخذ .
بل أحيانًا يقتل المسلم أخاه أو زوجته نتيجة الغضب.

 

المصدر: دليل الواعظ
abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 162 مشاهدة
نشرت فى 1 ديسمبر 2011 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

313,803