-----------------------
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
-----------------------
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
23/4/1425
بلال بن رباح
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- عِظم اللسان وخطره. 2- تحريم الغيبة والنميمة. 3- ذكر مجموعة من آفات اللسان. 4- الوصية بحفظ اللسان.
-------------------------
الخطبة الأولى
وبعد: يقول تعالى في كتابه العزيز: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:17، 18]، ويقول في الحديث الذي رواه معاذ بن جبل والحديث أخرجه أحمد والترمذي: ((ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ كف عليك هذا)) وأشار إلى لسانه، قال: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! قال: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟!)).
أيها المسلمون، كنا قد تكلمنا في الخطبة السابقة عن معصية قول الزور، وهي من آفات اللسان، وآفات اللسان كثيرة، لهذا نواصل الحديث في هذه الخطبة وفي الخطبة القادمة ـ بإذن الله ـ عن بعض آفات اللسان، سائلين الله سبحانه أن يسدّد ألسنتنا وأن يحفظها من كل سوء.
فاللسان من أكثر أعضاء الإنسان خطورة وأشدها فتكا بالإنسان، وهو أيضا من أهم الأعضاء التي تدخل الناس النار كما يقول في الحديث السابق: ((وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟!)). فاللسان إذا لم يضبطه الإنسان ويحسن استعماله فيما يرضي الله فإنه يُهلكه ويرديه، لهذا كان الصالحون من سلفنا الصالح يخافون ألسنتهم ويحذرونها ويراقبونها، فقد ورد أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يمسك بلسانه ويقول: (هذا الذي أوردني المهالك)، وورد عن ابن عباس أنه كان يأخذ بلسانه ويقول: (ويحك، قل خيرا تغنم، أو أسكت عن سوء تسلم، وإلا فإنك ستندم).
فاللسان عضو لا ينبغي للإنسان أن يهمله ويغفل عنه ظانا بأن أمر اللسان أمر يسير لا خوف منه، فهذا الظن خاطئ، بل إن أمر اللسان من أهم الأمور، ويكفي أن الأعضاء بكاملها تضع اللوم فيما يحدث منها على اللسان، ففي الحديث الحسن الذي رواه الترمذي وابن خزيمة عن أبي سعيد يقول : ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان، فتقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا)).
وإن من أهم آفات اللسان ـ وهي كثيرة ـ الآفتان اللتان تتناولهما اليوم وهما الغيبة والنميمة، فهما مرضان عظيمان انتشرا بين الناس انتشار النار في الهشيم، ولعل انتشار الغيبة أعظم وأكثر بكثير من انتشار النميمة، وإذا ركز الإنسان على أي جلسة يحضرها طالت أو قصرت فإنه يجد أنها لا تخلو من الغيبة بحال من الأحوال، لا تخلو من ذكر عيوب الناس وما يكرهون أن يسمعوه من أمور، وهذه هي الغيبة كما عرَّفها رسول الله عندما سُئل عن الغيبة فقال: ((ذكرك أخاك بما يكره))، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟! قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)) أخرجه مسلم والترمذي عن أبي هريرة.
والناس ـ كل الناس أو أكثرهم ـ يدخلون في أمر الغيبة هذا الأمر الخطير من باب المزاح وتزجية الأوقات والثرثرة، فحتى يمر الوقت وندفع الملل نخوض في كل الأمور، وفي ذكر سيئات وعيوب الغائبين عنا من إخواننا ومن عباد الله أجمعين، لا يسلم منا أحد، ونحن لا نشعر أننا نأكل لحوم هؤلاء الذين نغتابهم، يقول تعالى: وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّاب رَّحِيمٌ [الحجرات:12].
وتصور ـ يا عبد الله ـ لو وضعوا أمامك لحم آدمي هل تأكله؟ الجواب سيكون من الجميع: أعوذ بالله، أيعقل أن يؤكل لحم البشر؟! ولكننا جميعا نأكل لحوم بعضنا في المجالس والأحاديث التي نخوضها، كما أننا إلى جانب أكل لحم الشخص الذي نغتابه فإننا نأكل ونحرق حسناتنا والعياذ بالله، وهل حسناتك ـ أيها المسلم ـ كثيرة وثقيلة عليك حتى أضرمت فيها النيران لتحرقها؟! يذهب أحدنا إلى المسجد، فيبقى فيه ربع ساعة أو أكثر ليصلي ويسبح أو يتلو القرآن، فيرجع ببعض الحسنات والحمد لله، ولكنه يجلس بعدها في أحد المجالس ساعتين، فإذا به يحرق الحسنات التي اكتسبها في المسجد ويحرق معها غيرها من الحسنات، فهل هذا من الدين أو من العقل؟!
يا من تتّبِع عورات المسلمين وتغتابهم، أبشر بأنك ستفضح ولو في قعر بيتك، يقول كما في مسند أحمد والسنن الأربعة من حديث أبي برزة: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته))، والذي يجلس مع المغتاب أو يستمع إليه مشارك له، فاحذر أيها المسلم، فإما أن تنهى المغتاب عن غيبته أو أن تترك المجلس، ولو اضطررت أن تترك هذه المجالس إلى الأبد، فلا شك ولا مرية في أن حسنات الإنسان ومنزلته عند الله أعز عليه من أن يفرِّط فيها ويُفسد أعماله الصالحة بهذه السهولة، قال سفيان بن حصين: كنت جالسا عند إياس بن معاوية فمر رجل فنلت منه ـ أي: وقعت في غيبته ـ فقال لي: اسكت، ثم قال لي: يا سفيان، غزوت الروم؟ قلت: لا، قال: غزوت الترك؟ قلت: لا، قال: سلم منك الروم والترك ولم يسلم منك أخوك المسلم! قال: فما عدت إلى ذلك بعد.
وإليكم هذا الحديث العظيم في نهاية كلامنا عن الغيبة، يقول : ((لما عرج بي ربي عز وجل مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم)) أخرجه أبو داود عن أنس. هذا هو عذاب الذين يغتابون الناس ويذكرون معايبهم يخبرنا عنه رسول الله .
أما النميمة ـ إخوة الإيمان ـ فهي أيضا ذنب عظيم لا يرضاه الله سبحانه وتعالى؛ لأن فيه الإفساد بين المسلمين وتفريق شملهم وإضعاف صفهم وزرع بذور الشقاق بينهم، لهذا قال فيما اتفق عليه الشيخان من حديث حذيفة: ((لا يدخل الجنة قتات)) أو: ((لا يدخل الجنة نمام))، وهما بنفس المعنى. فها هي أبواب الجنة قد أوصدت دونك أيها النمام، ها هي أبواب النعيم قد أغلقت في وجهك أيها القتات، يا من تفسد بين الناس، يا من تدخل بين الرفيقين وبين الصديقين وبين الجارين، فتزرع بذور الفتنة بينهما، وتوصل إلى كل طرف ما يسوؤه ويغضبه من الأمور نحو صاحبه، فتسوء العلاقة بينهما، فاعلم إن كنت لا تعلم أنك بهذا العمل من أعوان الشيطان ومن جنده المخلصين، لهذا مُنعت عنك الجنة كما مُنعت عنه، كما أن النمام يُعذَّب في قبره، فالنميمة من أهم أسباب عذاب القبر، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه مر على قبرين فقال: ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، وإنه لكبير. أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله)).
فانظروا ـ رحمكم الله ـ إلى آثار هذه المعصية معصية النميمة، وانظروا إلى مآل صاحبها، واحذروا أن تكونوا ممن يقعون في هذه المعصية فيقع عليهم عذاب القبر.
ومن أفضل ما يُتخذ مع النمام عدم الاستماع إليه؛ لأنه لن يكف عن هذه العادة القبيحة إلا بهذا الإهمال، كما أنك إن استمعت إليه فإنه كما نم لك سينم عنك، وكما أوصل كلام غيرك عنك إليك فسيوصل كلامك عن غيرك إليه، لهذا لا بد من عدم إتاحة الفرصة للنمام، رُوي عن عمر بن عبد العزيز أنه دخل عليه رجل فذكر عنده وشاية في رجل آخر فقال عمر: إن شئت حققنا هذا الأمر الذي تقول فيه وننظر نسبته إليه، فإن كنت كاذبا فأنت من أهل هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6]، وإن كنت صادقا فأنت من أهل هذه الآية: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم:11]، وإن شئت عفونا عنك، فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدا. هذا هو الأسلوب الأمثل مع النمام حتى ينتهي عن هذه المعصية وعن هذه العادة السيئة.
وكلمة السوء ـ إخوة الإيمان ـ وبال على صاحبها، إذا خرجت منه لم تعد إليه أبدا، ولا يجني منها إلا الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة، يقول كما في صحيح الجامع من حديث أبي هريرة: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار)).
فاتقوا الله عباد الله، وأشغلوا ألسنتكم بما فيه نفعكم في الدنيا والآخرة، واستعملوها فيما يرضي الله من ذكر وخير وإصلاح بين الناس، يقول تعالى: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا [الإسراء:53].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأجارني وإياكم من خزيه وعذابه الأليم، وغفر لنا إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغر المحجلين عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فاللسان ـ عباد الله ـ عضو حساس، يرتكب به الإنسان أكثر المعاصي، فمن معاصي اللسان الكذب وقول الزور والغيبة والنميمة والحلف الحانث والتنابز بالألقاب إلى غير ذلك من ذنوب ومعاص لعلنا نتعرض لها لاحقا، وهو أيضا سبب ومدخل لمعاصي أكبر، كالقتل والزنا وعقوق الوالدين وغيرها من المعاصي التي يكون أول مقدماتها اللسان بإطلاقه بالسوء والشر، وقد يكون الذنب بكف اللسان لا بإطلاقه، مثل ذنب كتمان الشهادة، فهو من معاصي اللسان العظيمة، فالشهادة أمر عظيم لا تقوم أمور المسلمين إلا به، وإذا كتمت الشهادة ضاعت الحقوق وشاع الظلم بين الناس، فلا ينبغي لمسلم أن يكتم الشهادة لمصالح دنيوية أو لكي يبقى الود بينه وبين بعض الناس، فيكون سببا في ضياع حقوق أناس آخرين أو وقوع الظلم عليهم، يقول تعالى: وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [البقرة:283]، قال الشافعي رحمه الله في كتاب الأم: "والذي أحفظ عن كل من سمعت منه من أهل العلم في هذه الآيات أنها في الشاهد قد لزمته الشهادة، وإن فرضًا عليه أن يقوم بها على والديه وولده والقريب والبعيد ولا يكتم عن أحد ولا يحابي بها ولا يمنعها أحدا" انتهى كلامه.
ويكفي كاتم الشهادة قول الله عز وجل عنه أنه آثِمٌ قَلْبُهُ، فقد فسرها أهل العلم بأنه فاجرٌ قلبه والعياذ بالله.
فلا تكتموا الشهادة ـ عباد الله ـ حتى لا تُعوِّدوا قلوبكم على الإثم والفجور، واعلموا أنه كما يحتاج الناس لشهادتكم على ما رأيتم من أمور فإنكم قد تحتاجون في يوم من الأيام إلى شهادة الناس لكم، فهل ترضون أن يكتم مسلم شهادة تحتاجون إليها في إحقاق حق أو إبطال باطل؟ فإن كنتم لا ترضون هذا فلا ينبغي لكم أن تكتموا شهادة حقت عليكم.
هذا شيء من آفات اللسان ومخاطره، فاحذروا ألسنتكم، وأحكموا وثاقها حتى لا توقعكم فيما لا يحمد عقباه، يقول عبد الله بن مسعود : (ما على الأرض شيء أحق بطول سجن من لسان)، وقال عمرو بن العاص يوصي ابنه: (يا بني، عثرة الرِّجل عظم يُجبر، وعثرة اللسان لا تبقي ولا تذر).
اللهم قنا شر ألسنتنا، اللهم قنا شر ألسنتنا، اللهم قنا شر ألسنتنا، اللهم اجعل ألسنتنا ألسنة ذكر وتسبيح وتلاوة، ولا تجعلها ألسنة كذب وغيبة ولغو، اللهم إنا نسألك خير القول وخير العمل وخير الذكر وخير الدعاء برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر لنا...

(1/3856)


آفات اللسان 2
-----------------------
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, الكبائر والمعاصي
-----------------------
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
30/4/1425
بلال بن رباح
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- خطر جناية اللسان على الإنسان. 2- آفة الكذب. 3- آفة التنابز بالألقاب. 4- آفة القذف. 5- آفة السبّ واللعن. 6- آفة الطعن في الأنساب والنياحة على الميت. 7- ظاهرة فحش القول.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد: لا زلنا مع آفات اللسان ومخاطره وأضراره التي يجلبها للإنسان أو يجنيها الإنسان عن طريقه، يقول فيما رواه الإمام أحمد وابن حبان من حديث أبي ثعلبة الخُشَني: ((خياركم أحاسنكم أخلاقا، وشراركم الثرثارون والمتفيهقون والمتشدقون)).
فاسمعوا ـ يا عباد الله ـ إلى هذا القول من رسول الله ، شرار المسلمين الثرثارون، وهذا أمر يقوم به اللسان، والمتفيهقون وهم الذين يتوسعون في الكلام ويتظاهرون بالفصاحة، وهذا الأمر أيضا يقوم به اللسان، والمتشدقون وهم الذين يتكلمون بأشداقهم ويتكلفون في الكلام، وهذا كذلك أمر يقوم به اللسان، فما أعظم جناية اللسان على الإنسان.
وقد تكلمنا في الخطبة الماضية عن بعض آفات اللسان، فذكرنا الغيبة والنميمة وكتمان الشهادة، ونتناول اليوم آفات أخرى من آفات اللسان مما يكثر انتشارها بيننا، حتى نبتعد عنها.
من هذه الآفات آفة عظيمة حذر منها الله تعالى ورسوله وعدها شرعنا من عظائم الأمور، وهي آفة الكذب، يقول سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّار [الزمر:3]. فالكذب آفة ومرض خطير وعادة لا يحبها الله ولا رسوله ، وهي صفة مذمومة عند الناس، فكل الناس يمقتون الكذاب ولا يثقون به، والكذب من علامات النفاق، يقول فيما اتفق عليه الشيخان من حديث أبي هريرة: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)).
وقد يتعود الإنسان على الكذب ليضحك الناس، فالمسكين يهلك نفسه من أجل إضحاك الآخرين، وهذا متوعد بحديث رسول الله الذي يقول فيه: ((ويل للذي يحدث فيكذب ليُضحك به القوم، ويل له، ثم ويل له)) أخرجه الترمذي وأحمد عن معاوية بن حيدة.
فالكذب نهى عنه ديننا الحنيف ولو كان الإنسان مازحا؛ لأن الإنسان إذا كذب مازحا استسهل بعد ذلك الكذب جادا، لهذا يقول كما في صحيح الجامع من حديث أبي أمامة: ((أنا زعيم بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب ولو كان مازحا))، ومعنى ((أنا زعيم)) أي: أنا ضامن لهذا البيت، فبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب في كل أحواله حتى في المزاح، وهذا البيت الضامن له رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى، فما أعظمه من ضمان، وما أعظمه من ضامن، وما أعظمه من بيت.
ومن أسوأ تبعات الكذب أن الإنسان إذا تعود عليه وتحرَّاه كُتب عند الله كذابا، وكيف سيكون حال من يلقى الله وقد سبقته صفة الكذب عند ربه؟! ففي الحديث الذي أخرجه الشيخان عن ابن مسعود يقول : ((إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما زال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذابا)).
ومن آفات اللسان الخطيرة والتي يقع فيها أكثرنا التنابز بالألقاب، وهذا أمر نهى عنه الله سبحانه وتعالى بقوله: وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11]، فعندما تنادي غيرك ـ يا عبد الله ـ بلقب لُقّب به وهو في أكثر الأحيان غير راض بهذا اللقب أو راض به كُرها فإنك تؤذيه وتجرح شعوره، وهذا أمر لا يرضاه الله، بل نحن مأمورون بأن ننادي الناس بأسمائهم، هذا ما يرضاه الله سبحانه وتعالى ويرضاه ديننا الحنيف.
ومن آفات اللسان التي تقوّض البيوت وتفسد المجتمعات وتكون آثارها من أخطر الآثار إطلاق الألسنة في الكلام عن النساء الغافلات البريئات، واتهامهن بالفاحشة والفجور، وهذا من الذنوب التي شدد الشرع في التحذير منها وجعل أصحابها ملعونين في الدنيا والآخرة، بل وجعل لهم عقابا بالجلد كما يُجلد الزناة، يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور:23-25]، ويقول سبحانه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور:4، 5]، هذا هو وعيد الله وتحذيره للذين يطلقون ألسنتهم في حق المحصنات الغافلات ويرمونهن بالفاحشة. فليتق الله هؤلاء، وليعلموا أنهم يقترفون بهذا واحدة من السبع الموبقات المهلكات التي ذكرها رسول الله فيما رواه الشيخان وأبو داود من حديث أبي هريرة حيث يقول : ((اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات))، فقذف المحصنات ـ أيها المسلمون ـ موبقة مهلكة. فاتقوا الله ولا تجعلوا أعراض المسلمات فاكهة مجالسكم، ولا تلصقوا بهن ما هن منه براء.
ومن آفات اللسان السب واللعن، فالمسلم طيب لا يُخرج إلا طيبا، وقد حذر رسول الله من اللعن فقال: ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء)) أخرجه أحمد عن ابن مسعود. فالمؤمن لا يكون لعانا، ولا يجتمع الإيمان وكثرة اللعن في إنسان، بل إن رسول الله يقول فيما اتفق عليه الشيخان من حديث ثابت بن الضحاك: ((لعنُ المسلم كقتله))، هذا يبين لنا ـ إخوة الإيمان ـ أن إثم اللعن إثم عظيم؛ لأن اللعن إذا صدر فلا بد أن يلحق بأحد، ولا يمكن أن يذهب سدى أبدا، إن كان الملعون يستحقه فبها، وإلا عاد على صاحبه، يقول فيما أخرجه أبو داود عن أبي الدرداء: ((إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء فتُغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يمينا وشمالا، فإذا لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لُعِن، فإن كان لذلك أهلا وإلا رجعت إلى قائلها))، فلماذا يكون المؤمن لعانا؟! وكم من لعنة أطلقها مسلم ثم عادت عليه والعياذ بالله.
ومن آفات اللسان أيضا الطعن في الأنساب والنياحة على الميت، يقول : ((اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت)) أخرجه مسلم عن أبي هريرة. والطعن في الأنساب هو الوقوع في أعراض الناس والقدح في نسب ثبت في ظاهر الشرع، وهذا الذنب شبيه بقذف المحصنات.
أما النياحة على الميت فهي رفع الصوت بالندب بتعديد شمائل الميت، وهذا من أجهل الجهل؛ لأن فيه اعتراضا على القدر وعدم التسليم بقضاء الله، وأكثر من يقوم بالنياحة النساء في المآتم، فإنهن يولولن ويصرخن بذكر محاسن الميت؛ كونه صغيرا وطيبا إلى غير ذلك من صفات، وكأنهن يعترضن على الله ولسان حالهن يقول: لماذا ـ يا رب ـ تقبض روح هذا الرجل الطيب أو صغير السن؟! إلى آخر هذه الاعتراضات على رب الأرض والسماوات.
وهذا الأمر خطير لأنه يمس جناب التوحيد والعقيدة، فالله الحكيم العادل في ملكه يعلم تمام العلم روح من يقبض وروح من يؤجل، ولتعلم أمهاتنا وأخواتنا أن أمر النياحة أمر عظيم ليس باليسير، وأن الله يعذب النائحة في الآخرة عذابا شديدا، فعن أبي مالك الأشعري أن رسول الله قال: ((النياحة من أمر الجاهلية، وإن النائحة إذا ماتت ولم تتب قطع الله لها ثيابا من قطران ودرعا من لهب النار)) أخرجه ابن ماجه.
فعلى كل مسلمة ابتليت بفقد عزيز عليها أن تتدرع بالصبر وأن تتترّس بالإيمان، حتى تكون من المهتدين الذين أثنى الله عليهم في كتابه بقوله: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا هذه الآفات التي توجب الغضب من رب الأرض والسماوات، والتي تكفي الواحدة منهن لتفسد أو تعكر آخرة المسلم، فكيف إذا كان متصفا بأكثر من آفة؟! فكيف إذا كان متصفا بهن جميعا؟!
واعلموا أن المسلم غير ملزم بالكلام في كل شيء وفي كل موضوع، بل عليه أن يقصر كلامه في أمور الخير والإصلاح، وإلا فالصمت أجدى من الكلام الذي يضر ولا ينفع، لهذا يقول الله سبحانه في كتابه: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، ويقول فيما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)).
نسأل الله سبحانه أن يستعمل ألسنتنا فيما فيه رضاه، وأن يجنبنا ما فيه سخطه، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله القائل في كتابه العزيز: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَن [الإسراء:53]، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد الذي كان أطيب الناس لسانا وأكملهم بيانا.
وبعد: فنقف ـ إخوة الإيمان ـ مع آفة أخرى من آفات اللسان يفعلها بعض الناس مستهينين بآثارها، ألا وهي ظاهرة فحش القول، ظاهرةٌ تخدش الحياء وتُذهب الهيبة، وهذه الظاهرة ذكرها رسول الله من ضمن أشراط الساعة وعلامات القيامة، يقول في الحديث الذي أخرجه الطبراني في الأوسط عن أنس والحديث في صحيح الجامع: ((من أشراط الساعة الفحش والتفحش وقطيعة الرحم وتخوين الأمين وائتمان الخائن)).
والفحش ليس من صفات المؤمن بأي حال من الأحوال، يقول : ((إن الله يبغض الفاحش المتفحش)) أخرجه أحمد عن أسامة بن زيد، فما الذي يدعو الإنسان إلى فحش القول والكلام البذيء الذي يندى له جبين المسلم حين يسمعه؟!
وبعض الناس يكثر من فحش القول حتى يضطر الناس إلى تحاشيه والابتعاد عن المجلس الذي يكون فيه، وهذا من شر الناس منزلة يوم القيامة كما يقول ، فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((شر الناس منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه)) متفق عليه، ((شر الناس يوم القيامة)) كلمة عظيمة، فما الذي يستفيده صاحب هذا اللسان الفاحش بعد ذلك؟! وما الذي يدعوه إلى هذا الفحش؟! هل يريد أن يبين للناس جُرأته على الله وخساسة نفسه؟! غريب أن يصير الفحش والتفحش سبيلا للتباهي والمفاخرة.
وفحش القول ـ إخوة الإيمان ـ أمر ممقوت، ولكنه أمقت وأبغض حين يصدر من كبير السن؛ لأن كبير السن قد تجاوز فترة الطيش ودواعي الفجور، وكثيرا ما أسمع من كبار السن عبارات فاحشة سفيهة وأتعجب ممن يقف على شفير القبر ومع هذا لا زال يصر على التلفظ بألفاظ توجب عليه غضب الله سبحانه. إن كبير السن أبعد الناس عن مثل هذه التفاهات، وواجب عليه أن يكرم هذا الشيب الذي شابه في الإسلام ولا ينغصه بظلمة المعاصي حتى يجده نورا يوم القيامة، عن كعب بن مرة أن رسول الله قال: ((من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة)) أخرجه النسائي. وإذا أصر كبير السن على مثل هذه المعصية فإن عذابه أشد مما لو قام بها غيره من صغار السن؛ لأن دواعي الفحش من طيش وفوران شهوة منتفية فيه.
فاتقوا الله عباد الله، واستعدوا ليوم تحاسبون فيه عن كل فعل أو قول أمام من لا يظلم مثقال ذرة.
اللهم ردنا إليك ردا جميلا، اللهم ردنا إليك ردا جميلا، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها...

(1/3857)


abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 114 مشاهدة
نشرت فى 22 نوفمبر 2011 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

321,076