مشاعر دافئة
-----------------------
الأسرة والمجتمع
الوالدان
-----------------------
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
13/7/1423
النور
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- وجوب الإحسان إلى الوالدين. 2- الأنبياء وبرّ الوالدين. 3- برّ الوالدين من أعظم القربات. 4- نبأ أويس القرني. 5- السلف والإحسان إلى الوالدين. 6- من صور البرّ. 7- خطورة العقوق وبعض صوره. 8- استمرار البرّ بعد وفاة الوالدين.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد: حديثنا اليوم حديث حنان وذِكرى، حديث شوق وعِبْرة، حديث حُبّ واشتياق، إنه حديث عن أغلى وأعزّ وأكرم إنسانين لك يا أخي الحبيب، إنهما والداك.
إننا في زمن قد عظمت غُربته واشتدّت كُربته، فلم يرحم الأبناء دموع الآباء، ولم يرحم البنات شفقة الأمهات، في هذا الزمان الذي قلّ فيه البِرّ وازداد فيه العقوق والشرّ، كم نحن بحاجة إلى من يذكّرنا فيه بحقّ الوالدين وعظيم الأجر لمن برّهما؛ لذا كانت هذه الكلمات.
عباد الله، لقد أكثر الله من ذكر شأن الوالدين، وأوجب الإحسانَ إليهما لفضلهما وعظيم معروفهما، قال الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [البقرة:215]، وقال سبحانه: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]، وقال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا [الأحقاف:15].
أيها المؤمنون، لما كان بِرّ الوالدين من القُرُبات العظيمة تَسَابق إليها الأتقياء من عباد الله من الأنبياء والرسل وأتباعهم، فبِرّ الوالدين منهج الأنبياء والمرسلين وعمل الكرام والصالحين، فهذا نوح عليه السلام يخص والديه بالدعاء بالمغفرة بقوله: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح:28]، وكذا حال عيسى ابن مريم عليه السلام حين قال عنه الله عز وجل: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم:32]، وكذا يحيى عليه السلام قال الله عز وجل عنه: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا [مريم:14]، وأما ما كان من شأن الخليل عليه السلام مع أبيه ودعوته إياه وتحبّبه له فأمْرٌ قد بَلَغَ في البرّ غايته وفي الإحسان نهايته، قال الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم:41-45]، ولما هدّده أبوه: لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم:46] قابَل التهديدَ بالإحسان والغِلْظَة بالأدب والاحترام: قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم:47].
فيا معاشر الأحبة، اعلموا أن بِرّ الوالدين من خير ما تقرّب به المتقرّبون وتسابق فيه المتسابقون، وهو من أحب الأعمال إلى الله وأفضلها بعد الصلاة، سئل النبي : أي العمل أحب إلى الله؟ وفي رواية: أي العمل أفضل؟ قال: ((الصلاة على وقتها))، قيل: ثم أي؟ قال: ((بِرّ الوالدين))، قيل: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) رواه البخاري ومسلم. فبر الوالدين مُقدّم حتى على الجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإسلام، مما يدل على عظيم حقّهما، ولهذا جاء رجل إلى النبي يستأذنه في الجهاد فقال: ((أحيٌّ والداك؟)) قال: نعم، قال: ((ففيهما فجاهد)). وفي رواية لمسلم: أقبل رجل إلى النبي فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد؛ أبتغي الأجر من الله عز وجل، قال: ((فهل من والديك أحد حيّ؟)) قال: نعم، بل كلاهما، قال: ((فتبتغي الأجر من الله عز وجل؟)) قال: نعم، قال: ((فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)).
فبِرّ الوالدين من أعظم القُرُبات وأجل الطاعات، ببرّهما تتنزّل الرحمات وتُكشف الكُربات، برّ الوالدين مفتاح كل خير ومِغْلاق كل شرّ، بِرّ الوالدين من أعظم أسباب دخول الجنان والنجاة من النيران، بِرّ الوالدين سبب في بسط الرزق وطول العمر، بِرّ الوالدين سبب في دفع المصائب وسبب في إجابة الدعاء، فأين أنت من هذه النفحات يا عبد الله؟!
هل أتاك نبأ أويس بن عامر القرني؟! ذاك رجل أنبأ النبي بظهوره، وكَشَفَ عن سَنَاء منزلته عند الله ورسوله، وأمر البَرَرَة الأخيار من آله وصحابته بالتماس دعوته وابتغاء القُربى إلى الله بها، وما كانت آيته إلا بِرّه بأمّه، وذلك الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه: كان عمر إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس بن عامر فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مُراد؟ قال: نعم، قال: كان بك بَرَص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله يقول: ((يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مُراد ثم من قَرن، كان به أثر برَص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدةٌ هو بارٌّ بها، لو أقسم على الله لأبرّه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل))، فاستغْفِرْ لي، فاستغَفَرَ له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟! قال: أكون في غَبْرَاء الناس أحبّ إليّ. وعن أصبغ بن زيد قال: إنما منع أويسًا أن يَقدم على النبي برّه بأمه.
فانظر ـ يا رعاك الله ـ المنزلة التي بلغها هذا البارّ بأمّه حتى كان من شأنه أن يُخبِر عنه المصطفى ، وأن يقول لعمر: ((إن استطعت أن يستغفر لك فافعل)).
ولما علم سلفنا الصالح بعظم حق الوالدين قاموا به حق قيام، فهذا محمد بن سيرين إذا كلم أمه كأنه يتضرع، وقال ابن عوف: دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه فقال: ما شأن محمد؟! أيشتكي شيئًا؟! قالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه. وهذا أبو الحسن علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنهم كان من سادات التابعين، وكان كثير البرّ بأمّه حتى قيل له: إنك من أبرّ الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صَحْفَةٍ!! فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها. وهذا حَيوة بن شُريح، وهو أحد أئمة المسلمين والعلماء المشهورين، يقعد في حلقته يعلم الناس، ويأتيه الطلاب من كلّ مكان ليسمعوا عنه، فتقول له أمه وهو بين طلابه: قم يا حَيوة، فاعلف الدجاج، فيقوم ويترك التعليم.
وكان الفضل بن يحيى بارًّا بأبيه، وكان أبوه لا يتوضأ إلا بماء ساخن، فقُدِّر أن سُجِنا سويًّا، فمنعه السجان من إدخال الحطب إلى السجن ليسخّن الماء لأبيه إذا قام لصلاة الفجر، فلما أخذ الأب مضجعه من النوم قام الفضل إلى إناء من النحاس مملوء بماء فأدناه من المصباح، وبقي واقفًا حتى استيقظ والده فتوضأ بالماء الساخن، ثم إن السجان منعه من تسخين الماء بالمصباح فأطفأ المصباح، فعمد الفضل إلى الإناء فأخذه في فراشه، وألصقه بأحشائه متحمّلاً برودة الماء حتى أصبح وقد فَتُر الماء. وهذا الإمام أبو حنيفة رحمه الله في بِرّه بأمه حيث كانت تأمره أن يذهب بها إلى حلقة عمر بن ذر حتى تسأله عما أشكل عليها، مع أن ابنها فقيه زمانه، وكان يذهب بها رحمه الله.
وكان منصور بن المعتمر يفلي رأس أمه. وقال محمد بن المنكدر: بات أخي عمر يصلي، وبِتُّ أغمز رجلَ أمي، وما أحبّ أن ليلتي بليلَته. وأمّا الإمام ابن عساكر محدّث الشام فقد سئل عن سبب تأخر حضوره إلى بلاد أصبهان فقال: لم تأذن لي أمي. وهذا محمد بن بشار المشهور بِبُنْدَار الإمام الحافظ راوية الإسلام جمع حديث البصرة كان يقول: "أردت الخروج ـ يعني: الرحلة لطلب العلم ـ فمنعتني أمي، فأطعتها فبورك لي فيه".
رحم الله هؤلاء الأئمة الكبار البَرَرَة الأبرار، ما أعظم شأنهم مع والديهم، هذه بعض نماذج بِرّ السلف لآبائهم وأمهاتهم، فماذا نقول نحن اليوم؟! وماذا نفعل نحن اليوم؟!
أوصيكم جميعًا ونفسي أولاً ببِرّ الوالدين، وأن نسعى لإرضائهما وإسعادهما في هذه الدنيا، أسألك بالله يا أخي: ماذا يريد منك أبوك إلاّ أن تقف معه حين يحتاجك؟! وماذا تريد منك الأم إلا كلمة حانية وعبارة صافية تحمل في طياتها الحب والإجلال؟!
ادفع عنهما الأذى فقد كانا يدفعان عنك الأذى، لا تحدثهما بغلظة أو خشونة أو رفع صوت، جنبهما كل ما يورث الضجَر، فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا [الإسراء:23]، قال الحسين بن علي رضي الله عنهما: (لو علم الله شيئًا من العقوق أدنى من الأفّ لحرّمه). تخَيّر الكلمات اللطيفة والعبارات الجميلة والقول الكريم، تواضع لهما، واخفض لهما جناح الذل رحمة وعطفًا وطاعة وحسن أدب. لقد أقبلا على الشيخوخة والكبر، وتقدما نحو العجز والهرم، بعد أن صرفا طاقتهما وصحتهما وأموالهما في تربيتك وإصلاحك. تأمّل ـ يا رعاك الله ـ قول ربك: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ [الإسراء:23]، إن كلمة عِندَكَ تدل على معنى التجائهما واحتمائهما وحاجتهما، فلقد أنهيا مهمتهما، وانقضى دورهما، وابتدأ دورك، وها هي مهمتك، فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا [الإسراء:23].
نعم، إن حقهما عظيم، ولكن الجأ إلى الله بالدعاء لهما في حال الحياة وبعد الممات اعترافًا بالتقصير، وأملاً فيما عند الله، رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:24]، ولن يستطيع الأبناء والبنات مجازاة الآباء والأمهات إلا أن يجد الولدُ الوالدَ مملوكًا فيشتريه فيعتقه، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا يجزي ولدٌ والدَه إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه)).
احذر ـ أيها المسلم ـ عقوق الوالدين، فإنه من أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله، وكيف لا يكون كذلك وقد قرن الله برّهما بالتوحيد فقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، وقال تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام:151]. ((إذا ظهر في أمّة محمّد أربع عشرة خصلة فانتظروا ريحًا حمراء وزلزلة وخسفًا ومسخًا وقذفًا وآيات تتتابع كنظام قُطِع سِلكه))، ومن هذه الخصال: ((إذا أطاع الرجل زوجته وعقّ أمه وأدنى صديقه وأبعد أباه))، فلا إله إلا الله ما أكثر هذا في هذا العصر.
احذر ـ يا عبد الله ـ عقوبة الله نتيجة لعقوقك، قال النبي : ((كل الذنوب يؤخر الله تعالى ما شاء منها إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإن الله يُعجّله لصاحبه في الحياة قبل الممات))، وقال النبي : ((رغم أنفهن رغم أنفه، رغم أنفه))، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة))، قال مجاهد رحمه الله: "لا ينبغي للولد أن يدفع يد والده إذا ضربه"، وسئل كعب الأحبار عن العقوق فقال: "إذا أمرك والداك بشيء فلم تطعهما فقد عققتهما العقوق كله".
اعلم ـ أيّها العاقّ ـ أنك مجزيّ بعملك في الدنيا والآخرة، يقول العلماء: كل معصية تؤخَّر عقوبتُها بمشيئة الله إلى يوم القيامة إلا العقوق، فإنه يُعجّل له في الدنيا، وكما تدين تُدان، والجزاء من جنس العمل.
ذكروا أن رجلاً حمل أباه الطاعن في السنّ وذهب به إلى خِرْبة فقال الأب: إلى أين تذهب بي يا ولدي؟ فقال: لأذبحك، فقال: لا تفعل يا ولدي، فأقسم الولد ليذبحنّ أباه، فقال الأب: فإن كنت ولا بد فاعلاً فاذبحني هنا عند هذه الصخرة، فإني قد ذبحت أبي هنا.
عباد الله، إن لعقوق الوالدين صورًا كثيرة، من ذلك إظهار العُبُوس عند مقابلتهما، ومن صور العقوق أيضًا رفع الصوت عليهما، أو مقاطعة كلامهما بزجرهما وفرض الرأي عليهما، وهذه الطباع مما يذمها العقلاء مع الناس، فكيف إذا كان ذلك مع الوالدين؟! ومن الصور النظر إلى الوالدين شَزرًا، وذلك بإحداد النظر إليهما، وكأنه ينظر إلى أحد أبنائه لزجره، قال مجاهد رحمه الله: "ما برّ والديه من أحدّ النظر إليهما"، ومن الصور التأخّر في قضاء حاجاتهما، والتسويف بها إلى أن يسأم الوالدان من سؤاله بعد ذلك، ومن الصور القيام بحقّ الزوجة والاعتناء به في مقابل عدم الاعتناء بحق الوالدين وعدم الاكتراث له، بل وتضييعه.
عن أبي بكرة قال: قال رسول الله : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) قالها: ثلاثًا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين)) والحديث متفق عليه، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه ومدمن الخمر والمَنّان)) أخرجه النسائي، وعن عمرو بن مُرَّة الجهني قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله، أرأيت إذا صليت الصلوات الخمس وصمت رمضان وأديت الزكاة وحججت البيت فماذا لي؟ فقال رسول الله : ((من فعل ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، إلاّ أن يَعُقّ والديه)) رواه الإمام أحمد والطبراني.
إن عقوق الأبناء تئنّ له الفضيلة، وتبكي له المروءة، وتأباه الديانة، ولا يرضى به العاقل فضلاً عن المتديّن؛ لأن فعله منكر عظيم وقبح جسيم. عقوق الوالدين جحود للفضل ونكران للجميل. كم هو عار وشَنَار أن ينسى الواحد منا ضعفه وطفولته، ويعجب ويغترّ بشبابه، ويترفّع على والديه بتعليمه وثقافته أو بشهادته ومركزه. أين الإيمان؟! وأين المروءة والوفاء؟! بل أين الرحمة والإنسانية؟! لقد قَلَبَ أولئك ظهر المِجَنّ، وقابلوا الإحسان بالإساءة، ألا بئس ما صنعوا، وتبًّا لما فعلوا.
وإنك لتأسف حين تجد من عليه مظاهر الصلاح والاشتغال بشيء من العلم والدعوة ولا يجعل لأبويه حقًّا من التقدير والرعاية والبِرّ والعناية، ومهما كان على الأبوين من تقصير فبِرّهما واجب والإحسان إليهما متعيّن، وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15].
فللَّه كم دمعة ذرفها والد أو والدة على ما يلاقيان من الجحود والاستكبار من أولادهما، كم زفرة حَرّى انطلقت من أب مَكْلُوم أو أمّ رَؤُوم، يشتكيان الهجر والقطيعة ومن أقرب الناس إليهما. ويا لله، كم من أب وأم تمنى أن لم يُرزق بأولاد شَقِي معهم أول عمره، وها هو يشقى بهم في آخره، كم حسرة دُفِنت مع والد في قبره، وكم غُصّة ضاق بها جوف أمّ لم تحتمل ما ترى، كم من والد تمثل مع الشاعر قائلاً:
غَذَوتُك مولودًا وعُلتُك يافعًا…تُعَلُّ بِما أحنِي إليك وتَنهَل
إذا ليلةٌ نابتك بالسُّقْم لَم أبِت…لذكرك إلا ساهرًا أَتَمَلْمَل
كأني أنا المطروقُ دونك بالذي…طُرِقتَ به دوني وعَيناي تهمل
تخاف الرّدَى نفسي عليك وإنها…لتَعلم أنّ الْموت حَتمٌ مؤجل
فلما بلغتَ السنَّ والغايةَ التي…إليها مدى ما كنتُ فيك أؤمِّل
جعلت جزائي غِلْظَة وفَظَاظَة…كأنك أنت المُنعم المُتفَّضل
فليتك إذ لَم تَرْعَ حقّ أُبُوّتي…فعلتَ كما الجارُ الْمجاوِر يفعل
فأوليتني حقّ الْجوار ولَم تكن…عليّ بِمالي دونَ مالِكَ تبخل
كيف تَنْسَى أمَّك يا عبد الله؟! إنها سبب وجودك، تلك المربّية المشفِقَة، لُطْفها ملأَ جَنَانها، حملتك في أحشائها تسعة أشهر، تألمت من حملك، وكابدت آلام وضعك، حملته كُرهًا، ووضعته كُرهًا، رأت الموت بعينيها عند ولادتك، صرخت وبكت، ولما بَصُرت بك إلى جانبها سُرعان ما نسيت آلامها، وعَلّقَت فيك جميع آمالها، رأت فيك البهجة والحياة وزينتها، ثم شُغِلَت بخدمتك ليلها ونهارها، تُغذيك بصحتها، طعامك دَرُّها، وبيتك حِجْرُها، ومركبك يداها وصدرها وظهرها، سهرت ونمت، تألمت لألمك، سهرت لراحتك، وحملت أذاك وهي غير كارهة، وتحمّلت أذاك وهي راضية، تحيطك وترعاك، ولو خُيّرت بين حياتك وموتها لطلبت حياتك بأعلى صوتها، كم عاملتها بسوء الخلق مرارًا، فدعت لك بالتوفيق سِرًّا وجهارًا، كم كانت تجوع لتشبع أنت، وتسهر لتنام أنت، وتتعب لتستريح أنت، تترك كثيرًا مما تشتهيه خشية ضرر يعتريك، فهي بك رحيمة، وعليك شفيقة. أنسيت عندما كنت صغيرًا؟! إذا غابت عنك دعوتهَا، وإذا أعرضت عنك ناجيتَها، وإذا أصابك مكروه استغثتَ بها، تحسب كل الخير عندها، وتظن أن الشر لا يصل إليك إذا ضمتك إلى صدرها أو لحَظَتك بعينها، فكيف بعد ذلك تعقّها؟!
رأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلاً قد حمل أمه على رقبته وهو يطوف بها حول الكعبة، وقد أتى بها من بلاده، فقال: يا ابن عمر، أتُراني جازيتها؟ قال: (ولا بطلقةٍ واحدةٍ من طلقاتها، ولكن أحسنت، والله يثيبك على القليل كثيرًا). الله أكبر! ما أعظم الحق، وما أشد تقصير الخلق.
ولما ماتت أم إياس القاضي المشهور بكى عليها، فقيل له في ذلك فقال: "كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة، فغلِّق أحدُهما". وكان هناك رجل من المتعبدين يُقَبّل كل يوم قدم أمه، فأبطأ يومًا على أصحابه فسألوه، فقال: "كنت أتمرغ في رياض الجنة، فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات".
فلله درّهنّ من أمهات مشفقات ومربيات رقيقات ووالدات حانيات، فجزاهنّ الله عنّا جنة عرضها الأرض والسموات.
لأمك حق لو علمت كبير…كثيرك يا هذا لديه يسير
فكم ليلةٍ باتت بثقلك تشتكي…لَها من جواها أنَّةٌ وزفير
وفِي الوضع لو تدري عليك مشقة…فكم غُصصٍ منها الفؤاد يطير
وكم غسلت عنك الأذى بيمينها…ومن ثديها شُربٌ لديك نَمِير
وكم مرّة جاعت وأعطتك قوتَها…حُنُوًّا وإشفاقًا وأنت صغير
فضيّعتها لَما أسنّت جهالة…وطال عليك الأمر وهو قصير
فدونك فارغب فِي عميم دعائها…فأنت لِما تدعو إليه فقير
أما أبوك فهو السبب في وجودك، إنه الأب الغالي والوالد الحاني، الموجّه القيّم والمربّي الفاضل، وأنت له مَجْبَنَةٌ مَبْخَلَةٌ، يكدّ ويسعى، ويدفع عنك صنوف الأذى، ينتقل في الأسفار ويجوب الفَيَافِي والقِفَار ويتحمّل الأخطار بحثًا عن لقمة العيش لك ولإخوانك، يُنفق عليك، ويُصلحك ويُربّيك، إذا دخلتَ عليه هَشّ، وإذا أقبلتَ إليه بَشّ، وإذا خرج تعلقت به، وإذا حضر احتضنت حِجْره وصدره، إذا غبت سأل عنك، وإذا تأخرت انتظرك، يُنشِّئ ويُنفق، ويُربّي ويُشفق، إذا رآك ابتسم مُحَيّاه وبَرَقَت ثَنَاياه، فكم يبذل لتعليمك وتربيتك وتغذيتك وتنشئتك، فجزاه الله من والد كريم وأب رحيم.
هذان هما والداك، جميلهما يربو على كل جميل، وإحسانهما يفضل كل إحسان، إنهما جنتك ونارك، بذلا من أجلك النفس والنفيس والصحة والراحة، لقد أدّيا واجبهما، وأنفقا زهرة عمرهما في رعايتك، وإذا بالسنوات تَزْدَلِف بهما، وتمضي تباعًا على عَجَل، فيعلو الشيب مَفَارِقَهما، ويدبّ الضعف إلى بدنيهما، وقد كبرت أنت وإخوانك، واستقلّ كل واحد منكم بحياته الخاصة مع شريك حياته، فيلتفت الوالد ينظر من حوله، فلا يرى عنده إلا زوجه العجوز التي لا تكاد تخدم نفسها، فضلاً عن القيام بشؤون زوجها الذي أُنهِكت قواه وضَعُفَت حركته وعَجز عن خدمة نفسه في كثير من حاجاته، وأصبح في حالٍ يحتاج فيها إلى مَن حوله، ولا سيّما أبناءه وبناته؛ ليردّوا إليه الجميل أو بعضه مما بذله في سبيلهم، وليتقربوا إلى الله تعالى بخدمة والديهم اللذين طالما تعبا ليستريحوا، واهتمّا واغتمّا لينعموا، فما هو موقفك الآن ـ يا عبد الله ـ وهما في هذه الحال؟!
إن برّ الوالدين ليس درسًا يُلقّن ولا كتابًا يؤخذ، إنما هو سلوك وتربية. برّ الوالدين إكرام وإحسان، توقير وعرفان. برّ الوالدين دعاء واستغفار، بذل وعطاء مِدْرَار. برّ الوالدين قلب ينبض بالحبّ ويد مبسوطة بالبذل وجنة طيبة بالنوال، شعور يتدفّق بالوفاء ويجري مع الدم، فينبثق له الوجه ويبشّ. لا يدعو والده باسمه، ولا يمشي أمامه، ولا يُجلسه خلفه، يمتثل أمره، يلبّي دعوته، لا يمنّ بالبرّ له، يتحاشا كل كلمة نابية أو إشارة طائشة تفيد تأفّفًا أو تضجّرًا. إذا كان على أحدهما دين مالي أدّاه أو صوم قضاه، وإذا لم يحجّا حجّ عنهما.
نسأل الله جل وتعالى أن يوفقنا لبرّ والدينا، إنه سميع قريب مجيب.
أقول ما قلت، فإن كان صوابًا فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
-------------------------
الخطبة الثانية
أما بعد: إنهما والداك يا عبد الله، إذا ذكرتهما ذكرت البرّ والإحسان، إذا ذكرتهما أسعفتك بالدموع العينان، مضت أيامهما، وانقضى شبابهما، وبدا لك مشيبهما، وقفا على عتبة الدنيا وهما ينتظران منك قلبًا رقيقًا وبِرًّا عظيمًا، وقفا ينتظران منك وفاءً وبِرًّا، والجنة أو النار لمن برّهما أو عقّهما، فطوبى لمن أحسن إليهما ولم يسئ لهما، طوبى لمن أضحكهما ولم يبكهما، طوبى لمن أعزهما ولم يذلهما، طوبى لمن أكرمهما ولم يهنهما، طوبى لمن نظر إليهما نظر رحمة وودّ وإحسان وتذكر ما كان منهما من برّ وعطف وحنان، طوبى لمن أسهر ليله ونصب في نهاره وأضنى جسده في حبهما، طوبى لمن شمّر عن ساعد الجد في برّهما، فما خرجا من الدنيا إلاّ وقد كتب الله له رضاهما.
فيا من أبكى أبويه، يا من أبكى أبويه وأحزنهما وأسهر ليلهما وحمّلهما أعباء الهموم وجرّعهما غُصَص الفراق ووحشة البعاد، هلاّ أحسنت إليهما وأرضيتهما وأضحكتهما، كم آذيتهما مرارًا وهما يدعوان الله سرًّا وجهارًا، ويبكيان عليك وأنت صغير إشفاقًا وحذارًا، ويبكيان منك وأنت كبير خوفًا وفرقًا، فهما أليفا حُزن وحليفا همّ وغمّ، فلما بلغت موضع الأمل ومحل الرجاء قلت: أَسِيح في الأرض أطلب كذا وكذا، فارقتهما على كبرهما باكيين، وتركتهما في وَكْرِهما محزونين، كم أطعماك حلوًا وجرّعتهما مُرًّا، فإن غاب شخصك عن عيونهما لم يغب خيالك عن قلوبهما، ولئن ذهب حديثك عن أسماعهما لم يسقط ذكرك عن أفواههما، ولطالما بكيا ولم يذوقا غَمْضًا إن تأخّرت عن الرواح في المساء، فكيف إذا أغلقا بابهما دونك، وأبصرا خُلوّ مكانك، ففقدا أنسك، ولم يجدا رائحتك، فكان ملاذهما سَحّ الدموع، فصار الولد خبرًا، وكل غريب ولدهما، وكل ميت هو لهما، وسل عن حديثهما إذا لقيا إخوانك وأبصرا أقرانك، ولم يبصراك معهم، فهنالك تُسكب العبرات وتتضاعف الحسرات. ارجع إلى والديك وجاهد فيهما، أحسن صحبتهما، الزم خدمتهما، أطع أمرهما، أدخل السرور على قلبيهما.
وإذا فقدتهما وابتليت بموتهما فإنك لا تذكر إلا حينئذ فضلهما، وتَمقُت نفسك على إساءتك لهما، وتقول: ويحي، ماتا قبل أن أبرّهما، ويا خسارتي إذ لم أقم بردّ جميلهما، ولم أشكر حسن صنيعهما، وقد رحلا قبل أن يجدا مني ما يرضي نفوسهما. قال : ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهنّ: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده)).
ذُكِر أن شابًا اسمه مُنازِل كان مُكبًّا على اللهو واللعب لا يفيق عنه، وكان له والدٌ صاحب دين، كثيرًا ما يعظ هذا الابن ويقول له: يا بني، احذر هفوات الشباب وعثراته، فإن لله سطوات ونقمات ما هي من الظالمين ببعيد، وكان إذا ألَحّ عليه زاد في العقوق، ولما كان يوم من الأيام ألَحّ على ابنه بالنصح على عادته، فمدّ الولد يده على أبيه، فحلف الأب بالله مجتهدًا ليأتينّ بيت الله الحرام فيتعلق بأستار الكعبة ويدعو على ولده، فخرج حتى انتهى إلى البيت الحرام فتعلق بأستار الكعبة وأنشأ يقول:
يا مَن إليه أتى الحجّاج قد قطعوا…عَرضَ المَهامِهِ من قُربٍ ومن بُعدِ
إنِّي أتيتك يا مَن لا يُخيِّبُ مَن…يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمَد
هذا مُنازِلُ لا يرتدُّ من عَقَقِي…فخذ بحقّيَ يا رحمن من ولدي
وشُلَّ منه بحولٍ منك جانبه…يا من تقدَّس لم يولَد ولم يلِد
فقيل: إنه ما استتمّ كلامه حتى يبس شِقُّ ولده الأيمن، نعوذ بالله من العقوق.
فيا أيها الحبيب، يا من مات والداه أو أحدهما وقد قصّر ببرهما في حياتهما وندم على ما فرّط وخاف من عاقبة العقوق، اعلم أن باب الإحسان لهما مفتوح، وبإمكانك أن تدرك شيئًا ولو قليلاً من البرّ بعد موتهما، لعلّ الله تعالى أن يعفو عنك، ويُرضي عنك والديك، من ذلك الدعاء لهما بالمغفرة والرحمة، والصدقة عنهما، والحج والعمرة عنهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما، وإنفاذ عهدهما، فإن هذه الأعمال مما يَفرح به الوالدان بعد موتهما، لتخفيف ما عليهما من سيئات وزيادة في الحسنات. إنهما هناك في قبريهما يتشوّقان إلى دعوة صالحة من ولد صالح في جوف الليل، يتطلّعان إلى صدقة جارية من كسب طيب تجلب لهما الرحمة، وتدفع عنهما البلاء، ويرضى عنهما رب الأرض والسماء.
قال النبي : ((برّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم))، واعلموا أن رضا الله في رضا الوالدين، وأن سخط الله في سخط الوالدين. لا تخرجوا من هذا المكان إلا وقد عاهد كل واحد منا نفسه أن يذهب ليُقبِّل رأس أبويه ويستسمحهما، فإن كانا ميتين أو أحدهما فليدع لهما.
اللهم إنا نسألك أن تعيننا على برّ والدينا، اللهم قد قصّرنا في ذلك وأخطأنا في حقهما، اللهم فاغفر لنا ما قدّمنا وما أخّرنا، وما أسررنا وما أعلنا، واملأ قلبيهما بمحبتنا، وألسنتهما بالدعاء لنا، يا ذا الجلال والإكرام. اللهم وفّق الأحياء منهما...

المصدر: موسوعة خطب المنبر
abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 82 مشاهدة
نشرت فى 21 نوفمبر 2011 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

308,474