علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
25/3/1425
المسجد النبوي
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- أعظم الوصايا. 2- معنى الوصية. 3- تفسير وصية سورة الأنعام. 4- عظم وصية سورة الأنعام. 5- أهمية الدعاء في دفع البلاء. 6- مفاسد فتنة الخوارج. 7- دعوة للتوبة والرجوع إلى الجماعة.
-------------------------
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ أيّها المسلمون ـ تقوى مَن يعلم أنَّ اللهَ يسمعُه ويراه، ولا يخفى عليه سرُّه ونجواه، ويَجزيه بعمله في دنياه وأُخراه.
عبادَ الله، إنَّ أعظمَ وصيَّةٍ هي وصيَّةُ ربِّ العالمين، ثمّ وصيّةُ المرسلين، ثمّ وصية عباد الله الصالحين. وصيةُ الله تحيى بها القلوب، وتزكو بها الأعمال، ويرتفع بها العمَل، ويرتفعُ كذلك بها الإنسانُ العامل، وتصلُح بها الحياةُ ويَعظُم بها الثوابُ في دارِ النعيم المقيم.
وأعظمُ الوصايا في القرآنِ العظيم ثلاثُ آياتٍ من سورة الأنعام، قال الله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:151-153].
الوصيةُ هي الأمرُ المؤكَّد والعهد المبرَم والعناية بالمعنى العظيم وتأكيدُ فعلِه، وهؤلاء الثلاث الآيات أنزلها الله بعد الآيات التي ذكَر فيها ضلالَ مشرِكي العرب، وذكر أوهامهم وخُرافاتِهم وافتراءَهم على الله تعالى في تحريم بعض الأنعام والحروث والثمار على أنفسهم.
فالآيةُ الأولى تقرِّر توحيدَ الله تعالى الأصلَ العظيم الذي يرجِع إليه كلُّ أمرٍ ونهي، وينبني عليه كلّ تشريع وتوجيه، وبدون توحيدِ الله تعالى لا ينفَع عمل. وتقرِّر وتؤكِّد تحريمَ أنواعِ الشرك بالله عزّ وجل الذنبِ الذي لا يغفره الله عزّ وجلّ لمن مات عليه. وتوصي الآيةُ بالإحسان بالوالدين قاعدَتي الأسرةِ ومحضَنِ الأجيال ونواة المجتمع. وتحرِّم الآية العدوانَ على الطفولة، وترعى حقَّها، والأطفالُ قوَّة الأمة. وتنهى الآيةُ عن الفواحِش الظاهرةِ والباطنة ليعمَّ الطهرُ والعفاف وتصانَ الفضيلة وتدفَن الرذيلة وتُحفَظ الحرمَات والحقوق. وتقرِّر الآيةُ حرمةَ قتل النفسِ المعصومة الدمّ ليبتعدَ المسلم من دمار الحروبِ والثارات وسفك الدماء.
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أي: هلُمّوا وأقبلوا أقصّ عليكم وأخبركم بما حرَّم ربّكم عليكم حقَّا، لا تخرُّصًا وظنًّا ولا وَهمًا، بل أخبركم وحيًا من الله وأمرًا من عنده، أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا: لا تدعُوا مع ربِّكم أحدًا في السماء ولا في الأرض، قال الله تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]. أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا في دعاءِ العبادة ولا في دعاءِ المسألة، ولا تشركُوا به شيئًا في الذبح والنذر، ولا تشركوا بربِّكم شيئًا في الاستعاذة والاستعانةِ والاستغاثة، ولا تشركوا به شيئًا في التوكُّل والرغبة والرهبةِ والطواف بغير بيته، ولا تشرِكوا به شيئًا في الخشية والخوفِ والرجاء والسجود والركوع والمحبَّة والتعظيم، بل اعبُدوا ربَّكم وحدَه بأنواع العبادةِ كلِّها. والنهيُ عن كلِّ أنواع الشّرك في هذه الآية يتضمَّن الأمرَ بجميع أنواع العبادة كما هو منصوصٌ عليه في آياتٍ كثيرة أخرى، وفي صحيح مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من مات لا يشركُ بالله شيئًا دخل الجنةَ))(1)[1].
وقوله تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا أي: وحرَّم عليكم العقوقَ، وأوصاكم بأن تحسِنوا إلى الوالدين إحسانًا. والإحسانُ للوالدين طاعتُهما في غير معصيةِ الله وإكرامُهما وإدخالُ السرورِ عليهما ورحمتهما ولينُ الجانب لهما وعدمُ التضجُّر من صُحبتهما ومداومة التحمُّل لهما والقيامُ بما يُصلحهما وحُسن مخاطبتهما والدعاءُ لهما في حياتهما وبعد مماتهما وإهداءُ الأعمال الصالحةِ المشروعة لهما بعد موتِهما وصلةُ قرابتهما وصلة صديقهما بعد موتهما.
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ، وقد كان بعضُ المشركين من العَرَب يقتلون البناتِ خوفَ العار، وبعضهم يقتُل الولدَ خوفَ الإملاقِ وهو الفقر، فنهى اللهُ عن هذه العادةِ الشنيعة، وأخبر أنه تعالى متكفِّل برزقِ الأولاد والآباء.
ومما يدخُل في عمومِ الآية إسقاطُ الجنين خوفًا من النفَقة، وممّا يُنهَى عنه استعمالُ حبوب منع الحمل لأجل ضِيق المعيشة، لكن لو كان هناك ضرورةٌ شرعيّة جاز استعمالُ منعِ حبوب الحمل بمقدارِ هذه الضرورة، كما لو كانت المرأةُ لا تُطيق الحملَ والرضاع لسببٍ ما، أو كان تتابُع الحملِ بلا مدَّةٍ زمنيّة كافية يضرُّها أو يضرّ الولد.
وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، والفواحشُ ما عظُم قبحُه وخُبثت حقيقتُه في العقلِ والفِطرة واتّفقتِ الشرائعُ على تحريمه، وقد نصّ الله تعالى على فُحشِ معاصٍ بعينها، قال الله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32]، وقال تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ [العنكبوت:28]، وفي الحديثِ عن النبيِّ : ((ملعونٌ من عَمِل عملَ قومِ لوط، ملعون من عمِل عَمل قوم لوط، مَعلونٌ مَن عمل عمل قومِ لوط))(2)[2]. والفواحشُ أعمُّ من ذلك، فهي المعاصي كلُّها، والنهيُ عن قربانها أبلغُ من النهيِ عن فِعلها، فالنهي عن قُرب المعصية نهيٌ عن أسبابها ومقدِّماتها والوسائل التي تُفضي إليها، ونهيٌ عن تلذُّد الخيال بتصوُّرها والاسترسال في الوَسواس بها؛ لأنَّ النفسَ البشرية قد تضعُف عن مقاومة الإغراء بعد التمكُّن من مقدِّماتِ وأسباب المعصية، ولذلك حرَّم الشرعُ الخلوةَ بالأجنبية والمردان ومحادثةِ النساء.
وقوله تعالى: مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ أي: حرَّم الله ما أُعلِن وما أسِرَّ من المعاصي، ما هو من أعمال الجوارح المشاهدَة وما هو من أعمال القلوبِ المخبَّأة المستُورةِ كالكِبر والحسَد والغلّ والخيانة والمَكر والخديعة والنِّفاق وبُغض ما أحبَّ الله وحُبِّ ما يكره الله تعالى.
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، والنفسُ التي حرَّم الله قتلَها هي نفسُ المسلِم، ونفسُ المعاهَد الكافر الذي له أمانٌ من الإمام، والكافر غيرُ المحارب وإن لم يكن له أمان فيحرُم قتلُه، وفي الصحيحين عن النبيّ : ((لا يحلّ دمُ امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفسُ بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة))(3)[3]، وفي الحديث: ((مَن قتل معاهَدًا لم يرح رائحة الجنة))(4)[4]، وفي الحديث أيضًا: ((لا يزال المسلمُ في فُسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا فإذا أصابه بَلَح)) أي: أعيَى وانقطع وضاقَ عليه الأمر جدًّا.
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ: عهِد إليكم بما تُلِي عليكم وأمَركم به لتحفظُوه وتعملُوا به.
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي: تعقِلون النافعَ من الضارّ، فتعمَلون بما ينفع، وتتركون ما يضرّ. والحِكمة في قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أنَّ مضارّ هذه المحرَّمات ومفاسدَها يُعلَم بالعَقل لمن تدبَّر ذلك، والشرع بيَّن تفصيلَ مفاسِد ومضارّ هذه المحرّمات، فمن منعه عقلُه عن هذه المحرَّمات فهو العاقلُ حقًّا، ومن لم يمنعه عقلُه عن هذه المحرَّمات فهو السفيهُ الذي لا عقلَ له، فأيُّ قبحٍ وجُرم أعظمُ من الشّرك بالله تعالى ثمّ عقوق الوالدين وعمل الفواحش وقتلِ النفس التي حرَّم الله؟!
والآية الثانية تقرِّر التراحمَ والتعاونَ والتكافُل الاجتماعيّ بين المسلمين والحُنوَّ والرِّعاية للضعفاء والقاصرين، وتحرِّم بخسَ الحقوقِ وانتقاصها، وتقرِّر الوفاءَ في المعاملات والعدلَ في المبادلات والمعاوَضات بلا طُغيانٍ بالزيادة ولا بخسٍ بالنَّقص، وتحرِّم الجَورَ والظلم في الحكم والشهادة والقول ولو كان على الحبيب والبغيض، وتأمُر بالعدل والقسط.
وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ أي: لا تقربوا مالَ اليتيم إلاَّ بالصِّفة التي هي خيرٌ له، فلا تقرَبوا ماله إلاَّ بالحِفظ لمالِه وتثميرِه والعمل على نمائه، فلا تأكلوه، ولا تتركوه يتعرَّض للضياع والنقصان. ووجوبُ تربيةِ اليتيم وإرشاده ورعايته من باب أولى، ليصبحَ لبِنةً صالحة في بناءِ المجتمع، ومعنى حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ أي: حتى يبلغَ الحلم مع الرّشد وحسنِ التصرُّف، فيُدفَع إليه ماله حينئذٍ.
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ أي: وحرَّم بخسَ الحقوق وعدمَ الوفاء بالمعاملات. وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ أي: بالعدل والحقِّ بلا نَقص، ومثل هذا المقاييس.
لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أي: طاقتَها، فمِن رحمة الله تعالى أنَّه لا يأمرُ ولا ينهي إلا بما هو مقدورٌ عليه.
وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا أي: إذا حكمتُم أو إذا شهِدتم أو دخلتُم بين متنازعِين بالإصلاح أو إذا مَدَحتم أو قدَحتم لغرضٍ شرعيّ فاعدِلوا، الزَموا الحقَّ والقسطَ في ذلك، ولو كان المحكومُ له أو المشهودُ له أو المشهودُ عليه أو المصلَح له أو الممدوح أو المقدوح فيه ذا قربَى، ومثلُه في هذا البعيد أو البغيض.
وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا، عهدُ الله أمرُه ونهيُه وتشريعه، قال الله تعالى لبني إسرائيل: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة:40]. ويتناولُ عهدُ الله ما يكون بين طرفين من العقودِ والعهود المشروعة المباحة، وأضِيفت العهود إلى الله لأنَّ اللهَ أمر بالوفاء بها.
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. والحكمةُ في قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أنّ هذه الوصايا إذا غفل أحدٌ عن رعايتها وحياطتها ارتكب محرَّمَها عاقلاً أو غيرَ عاقل، فإذا تذكَّر وجوبَ حفظها ورعايتها قام بهذه الوصايا.
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، قرأ نافع ومن وافقه بفتح همزة أَنَّ، والمعنى: وحرَّم عليكم تنكُّبَ الصراطِ المستقيم والميلَ يمينًا أو شمالاً عنه، وفرض عليكم لزومَه. ويجوز أن تقدَّر لامُ التعليل قبلَ أَنَّ، ويكون المعنى: ولأنَّ هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه. وقرأ حمزة والكسائي بكسرِ همزة إِنَّ، فيكون الكلامُ ابتدائيًّا مستأنَفًا. والصراطُ المستقيم هو الإسلام كلُّه، والحكمةُ في كلمة تَتَّقُونَ أنَّ الثباتَ على الصراط المستقيم لا يكون إلاَّ للمتقين.
وكلُّ آيةٍ من هؤلاء الآيات الثلاث في الوصايا عليها شواهدُ من القرآن والحديث لو ذُكِرت لطال الكلام، قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: (مَن أراد أن ينظرَ إلى وصيَّة محمّد التي عليها خاتَمه فليقرأ هؤلاء الآيات)(5)[5].
الله أكبر، الله أكبر، ما أعظمَه من موصٍ، وأما عظمَها من وصيّة، وما أسعدَ من قام بهذه الوصية.
أوّلُ هذا الصراطِ المستقيم في الدنيا ونهايته الجنّة، والعدولُ عن الصراط المستقيم بالشّهوات والدُّنيا أو بالبدعة أو الكفر والنفاق بدايتُه في الدنيا ونهايته جهنَّم، فيتردَّى في الدنيا في شهواتِه وشقائه، وفي القبر في ظلمَته وعذابه، وفي الحشر في جهنَّم. ولو أنَّ كلَّ مسلم عمِل بهذه الوصايا لكان الله معه، ولوُفِّق لأَرشدِ أموره، لأحسنَ إلى نفسه غايةَ الإحسان، ولأحسنَ إلى الخلقِ وسلِم الناس من شرِّه، قال الله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [المائدة:92].
باركَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالمين، الرّحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له القويّ المتين، وأشهد أنّ نبيّنا وسيِّدنا محمّدًا عبده ورسوله، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله حقَّ تقواه، واخشَوا يومًا تُرجعون فيه إلى الله.
عبادَ الله، إنَّ من أسبابِ دفعِ الفتن المضِلَّة الدعاءَ، قال الله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]، وقال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، وفي الحديث عن النبيّ : ((الدعاءُ هو العبادة))(6)[1]، وفي الحديث الآخر أنّ النبيّ قال: ((الدعاءُ مُخّ العبادة))(7)[2].
وأوصي نفسي والمسلمين بالدعاءِ لإطفاء فتنةِ الخوارج الذين شوَّهوا سمعةَ الإسلام، وأخافوا الآمنين، وكفَّروا رجالَ الأمن المسلمين، واستحلُّوا الدمَ الحرام والمالَ الحرام، وأخافوا المسلمين الآمنين، وأرهبوا المطمئنِّين المقيمين، وعَصَوا الله، وعصوا رسولَه، وعَصَوا ولاةَ الأمر، واتَّبعوا غيرَ سبيل المؤمنين، وجَمعوا في هذه الفتنة معاصيَ وكبائر وعظائمَ وقبائح ومفاسدَ كثيرةً ضدّ الإسلام والمسلمين.
وإنَّ الكلامَ لا يُستَكثَر إذا رُدِّد في هذا الشأنِ لأنها فتنةٌ عظيمة، تضرُّ الإسلامَ وتضرّ المسلمين وتضرُّ الآمنين، وتضرُّهم أنفسَهم، فإنَّ الربَّ تبارك وتعالى يقول: وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:94]، وهذا في نقضِ المسلم للعَهد الذي بينه وبين غير المسلمين، نقضُهُ للعهد بالغدر والخيانة، فإنَّ هذا يجعل ذريعةً لغير المسلمين أن يتَّهموا الإسلامَ بالنقص، أو يتهموه بتُهمٍ هو منها بريء، أو يتَّهموه بالعَيب، أو يتَّهموه بما هو منه براء، فكذلك المسلم إذا عمِل عملاً خاطئًا وعمل معصيةً وعمل بالمعاصي ولم يتقيَّد بإسلامه فإنَّ الكافر غيرَ المسلم يستدلُّ بعمل المسلمين على الإسلام، ولكنَّ الصحيحَ والحقّ هو العكس، أن يُستدَلَّ بالإسلام على الناس، ولا يستدلُّ بالناس على الإسلام، فإنَّ الإسلام آياتُه وأحاديثُ رسوله وتعاليمُه مشرِقة كالشمس، فإنَّ الاستدلالَ والحجَّة من الله تبارك وتعالى، إنَّ الإسلامَ يُستدَلُّ به على من كان متمسِّكًا به، ولا يستدلُّ بالمسلم إذا خالَفَ على الإسلام، ولكنَّ أعداءَ الإسلام لا يُستغرَب منهم أن يلصِقوا بالإسلام ما هو منه براء، فإنهم قد فعلوا ذلك منذ فَجر التاريخ.
عبادَ الله، إنّ هذه فتنةٌ لا يقضَى عليها إلاَّ بالتعاون، إنّ هذه الفتنة ندعو أصحابها أن يرجِعوا إلى الله، وأن يتوبوا إلى الله عزّ وجل، فإنّ بابَ التوبة مفتوح، ومَن رجع إلى الله وتاب وسلَّم نفسَه لولاةِ الأمر فقد فعل حسنًا، وإن عاقبتَه في تسليمه لنفسِه لولاةِ الأمر إنّ عاقبتَه إلى خير في الدنيا وفي الآخرة، وإنّنا ندعوه أن يتوبَ إلى الله وأن يرجعَ إليه، فإنّ باب التوبة مفتوح، وإنَّه يجبُ عليه أن يبلِّغ عمَّن كان يعرفِهم عمَّن هم وراءَه، فإنّ الفتنةَ بهذا فتنةٌ عامّة وفتنة ضارة، ضارَّة بالبلاد، وضارَّة بالعباد، وضارّة بالإسلام والمسلمين، وأن يرجعَ ويفكِّر في نفسه إلى الله عزَّ وجل، فإنّ الرجوعَ إلى الحقِّ خيرٌ في الدنيا والآخرة، وإنّ العاقبةَ لمن تاب إلى الله عزّ وجلّ خيرٌ له في الدنيا وفي الآخرة.
عبادَ الله، إنّ الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، فقال تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم أبدًا دائمًا على سيِّد البشر محمد ، اللهمَّ وارض عن الصحابة أجمعين...

__________
(1) صحيح مسلم: كتاب الإيمان (92) ولفظه: سمعت رسول الله يقول: ((من مات يشرك بالله شيئا دخل النار))، وقلت أنا: (ومن مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة). وأخرجه أيضا البخاري في كتاب الجنائز (1238). قال ابن حجر في الفتح: "لم تختلف الروايات في الصحيحين في أن المرفوع الوعيد والموقوف الوعد".
(2) أخرجه الطبراني في الأوسط (8497)، والحاكم (8053)، والبيهقي في الشعب (4/378-379)، قال المنذري في الترغيب (3/196): "رجاله رجال الصحيح إلا محرز بن هارون التيمي، ويقال فيه: محرر بالإهمال. ورواه الحاكم من رواية هارون أخي محرر وقال: صحيح الإسناد. وكلاهما واه، لكن محرر قد حسن له الترمذي، ومشاه بعضهم، وهو أصلح حالا من أخيه هارون، والله أعلم"، وقال الهيثمي في المجمع (6/272): "فيه محرز بن هرون، ويقال: محرر، وقد ضعفه الجمهور، وحسن الترمذي حديثه، وبقية رجاله رجال الصحيح"، وللحديث شواهد عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ولذا أورده الألباني في صحيح الترغيب (2420).
(3) صحيح البخاري: كتاب الديات (6878)، صحيح مسلم: كتاب القسامة (1676) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(4) أخرجه البخاري في كتاب الجزية (3166) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(5) أخرجه الترمذي في التفسير (3070) وقال: "هذا حديث حسن غريب"، والطبراني في الأوسط (1186)، والبيهقي في الشعب (6/207)، وأورده الألباني في ضعيف سنن الترمذي (593).
(6) أخرجه أحمد (4/267)، وأبو داود في الصلاة، باب: الدعاء (1479)، والترمذي في تفسير القرآن (2969)، وابن ماجه في الدعاء، باب: فضل الدعاء (3828) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وجوّد إسناده ابن حجر في الفتح (1/49)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1312).
(7) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات (3371) عن أنس رضي الله عنه، وقال: "حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة"، وضعفه الألباني في أحكام الجنائز (ص247) ثم قال: "لكن معناه صحيح بدليل حديث النعمان".

المصدر: المنبر
abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 71 مشاهدة
نشرت فى 12 نوفمبر 2011 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

313,780