وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد،

فالواجب على الإنسان أن يكون عبدًا لله في أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته وفي كل شأن من شئون حياته، يتحرى صحة العمل وإخلاص العبودية لله -تعالى-.

﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف:110].

والطاعة بالنسبة إلى المؤمن كالماء للسمك والهواء للإنسان، فلا تتصور حياة حقيقة في غيبة معاني الإيمان والعمل الصالح.

﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [الأنعام: 122].

﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى : 52] بل هو إذا ما حيل بينه وبين طاعة ربه يحزن ويشفق على نفسه، حتى وإن كان معذورًا كحالة السبعة الذين أرجعهم النبي -صلى الله عليه وسلم- من غزوة تبوك، رجعوا يبكون فذكر ربنا جل وعلا حالتهم: ﴿وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة: 92] وكما قالوا: إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر أين أقامك، وكان شداد بن أوس يقول: «إذا رأيت الرجل يعمل بطاعة الله فاعلم أن لها عنده أخوات، وإذا رأيت الرجل يعمل بمعصية الله فاعلم أن لها عنده أخوات، فإن الطاعة تدل على أختها، وإن المعصية تدل على أختها، ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل: 5-10]، والمعصية مذلة ومهانة وضنك وشقاء ولذلك كان البعض يقول: «رأيت المعاصي نذالة فتركتها فاستحالت ديانة».

وكان الحسن يقول: «إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين فإن ذلَّ المعصية لا يفارق رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه»، ولذلك فالمؤمن الكيس الفطن هو الذي ينتقل من طاعة إلى طاعة ومن عبادة إلى عبادة، ورائده في ذلك قول الله -تعالى- لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 99] واليقين هو الموت.

أمره بعبادته إذا قصر عباده في خدمته، وأن ذلك يجب عليه ومعنى الآية: لا تنفك عن طاعة الله ولا تفارق هذا حتى تموت، وهذا كما قال العبد الصالح: ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ [مريم: 31].

والدليل على أن اليقين هو الموت، ما رواه البخاري من حديث أم العلاء الأنصارية وكانت من المبايعات وفيه: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَمَّا عُثْمَانُ -أعني: عثمان بن مظعون-؛ فَقَدْ جَاءَهُ والله الْيَقِينُ، وَإِنِّي لأرجو لَهُ الْخَيْرَ، والله مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ الله مَا يُفْعَلُ بِهِ) [رواه البخاري]

وكان عمر بن عبد العزيز يقول: «ما رأيت يقينًا أشبه بالشك من يقين الناس بالموت، ثم لا يستعدون له -يعني كأنهم فيه شاكون-».

وقد روى جبير بن نفير عن أبي مسلم الخولاني أنه سمعه يقول: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَا أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ المَالَ، وَأَكُونُ مِنَ التاجرين، وَلَكِنْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [رواه أبو نعيم في الحلية، وأحمد في الزهد]

والمسلم يعلم أن رب رمضان هو رب سائر العام واستعداده للقاء الله يدعوه دائمًا لاغتنام كل لحظة وصرفها في طاعة الله حتى وهو يأكل ويشرب وينام ويعمل ويتكسب ويأتي سائر شؤونه، فهو لا ينفك فيه عن طاعة ربه، وذلك لأنه يستن فيها بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وينتوي فيها نية الطاعة.

وقد وسع النبي -صلى الله عليه وسلم- في مدلول الصدقة فقال: (تَبَسُّمُكَ في وَجْهِ أخِيكَ صَدَقَةٌ) [رواه الترمذي، وصححه الألباني]، وفي حديث مسلم قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةً) [رواه مسلم]

وإذا كان المسلم ينتقل من عبادة إلى أخرى في رمضان لتأكد الطاعة فيه، فهناك مجال واسع للعبادة بعد رمضان، فما نكاد نرى هلال شوال حتى نخرج من اعتكافنا، ونستعد لعيد فطرنا، والأعياد من أعظم شعائر الدين، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: (مَا هَذَانِ اليَوْمَانِ؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله قد أَبْدَلَكُمْ الله بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الأَضْحَى وَيَوْمَ الفِطْرِ) [رواه أبو داود، وأحمد، وصححه الألباني]

ويتأكد الإكثار من ذكر الله عقب الانتهاء من الفرائض؛ كالصلاة والصيام والحج، فدبر الصلاة يُعد من أوقات الإجابة، ويُشرع للإنسان فيه الاستغفار، والتسبيح، والتحميد، والتكبير، وتلاوة آية الكرسي، وقل هو الله أحد، والمعوذتين، واللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، واللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وغيرها من الأذكار التي تشرع عقب الصلاة.

ويقول -تعالى-: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ [البقرة: 200] وهذا في الحج.

ويقول -سبحانه-: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 185] وهذه الآية وردت بشأن الصيام، حيث يشرع للمسلمين أن يبدأوا التكبير في عيد الفطر من رؤية الهلال حتى يغدو الناس إلى المصلى وحتى يصعد الإمام على المنبر ويستأنف العباد شهر شوال بانقضاء رمضان حيث يكونون قد تزودوا بزاد التقوى وشعروا بحلاوة الإيمان ودفء اليقين وتربوا تربية إيمانية يستصحبونها في سيرهم إلى الله في شوال وفي سائر أشهر العام، قال -تعالى-: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة:36] فبين -سبحانه- أنه وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتبها عليه يوم خلق السموات والأرض، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة، وحكمها باق على ما كانت عليه لم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين لأسمائها.

والمقصود من ذلك اتباع أمر الله فيها ورفض ما كان عليه أهل الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها، وتعلق الأحكام على الأسماء التي رتبوها عليه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في خطبته في حجة الوداع: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اهلو السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ) [رواه البخاري ومسلم]، وهذه الآية تدل على أن الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقبط -وإن لم تزد على اثني عشر شهرًا-؛ لأنها مختلفة الأعداد، منها ما يزيد على ثلاثين ومنها ما ينقص.

وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين وإن كان منها ما ينقص، والذي ينقص ليس يتعين له شهر، وإنما تفاوتها في النقصان والتمام على حسب اختلاف سير القمر في البروج.

وشهر شوال الذي يعقب رمضان هو من جملة أشهر الحج ويعقب ذلك ذو القعدة وذو الحجة وكلاهما من أشهر الحج والأشهر الحرم.

فهل يليق بنا أن نقلل من طاعاتنا وعبوديتنا في هذه الأشهر؟! يقول -تعالى-: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: 197] فجميع السنة وقتٌ للإحرام بالعمرة، وأما الحج فيقع في السنة مرة، فلا يكون في غير هذه الأشهر.

قال ابن مسعود وابن عمر وعطاء والربيع ومجاهد والزهري: أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة كله، وقال ابن عباس والسدي والشعبي والنخعي: هي شوال وذو القعدة وعشرة من ذي الحجة.

فشمر عن ساعد الجد، واحذر -رضي الله عنه-لتسويف، واحذر طريقة قوم غرهم طول الأمل، قال -تعالى-: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [البقرة: 148]، وقال -تعالى-: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133].

وعن جابر -رضي الله عنه- قال: (قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ أُحُدٍ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فَأَيْنَ أَنَا؟ قَالَ: فِي الْجَنَّةِ. فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ)

المصدر: الشيخ سعيد عبد العظيم
abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 99 مشاهدة
نشرت فى 6 نوفمبر 2011 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

304,333