الانتصار للنبي - صلى الله عليه وسلم - المختار
خطب المنابر

د: علي بن عمر بادحدح

 

الخطبة الأولى:

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون : يحار المرء فيما يجري في هذا العالم، ويزداد حيرة في بعض أحوال أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأترك هذه الكليمات في مقدمة حديثي لتجول خواطركم في سببها وعلتها ؛ لأننا نحتاج حقيقة إلى كثير وكثير من الوقفات مع أنفسنا ؛ نبحث فيها عن حقائق إيماننا ، وصدق إسلامنا ، وقوة غيرتنا، وكثير من المعاني المهمة في حياتنا ..

رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم -، الرسول الأكرم النبي الأعظم - عليه الصلاة والسلام - الذي جعل الله له من الخصائص ما لم يجعل لغيره من البشر مطلقا ، بل فضله على سائر رسله وأنبياءه من صفوة خلقه وأصفياءه، فقال جل علا : {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أقررتم وأخذتم على ذلك إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} .

 

وأخبر سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - أنه : (ما من نبي إلا وأخذ عليه الميثاق أن يؤمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وينصره إن أدركه يوم) .

والله - سبحانه وتعالى - قد عظّم شأن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بما لا مزيد لأحد عليه من البشر مهما عظم في ثناءه ومدحه للرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -.. ألسنا نقرأ : {إنا فتحنا لك فتحا مبيناً * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما * وينصرك الله نصرا عزيز}؟ .

 

ألسنا نتنبه وندرك كثيرا من هذه الآيات العظيمة في شأن رسولنا - صلى الله عليه وسلم-: {ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك * ورفعنا لك ذكرك}؟ .

فذكره مع ذكر الله - عز وجل - في أساس إيماننا وتوحيدنا وشهادتنا بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .. أليس ذلك في آذاننا وفي صلاتنا وتحياتنا .. أليس ذلك في كل ما هو متعلق بديننا وشأننا في إسلامنا .. ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورفع شأنه وتوقيره .

 

نبي الرحمة كما أخبر الحق - سبحانه وتعالى-: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}. {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} .

نبي الصدق - صلى الله عليه وسلم -: {والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون}.

النبي الذي وصفه الله - سبحانه وتعالى - بالصفات العظيمة فقال : {إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً * وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً} .

الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - لا يستطيع أحد أن يذكر أو أن يلمّ بكل ما جاء في تعظيمه وتوقيره وإجلاله ورفعة مكانته - عليه الصلاة والسلام -.

أليس في دنيا الناس بل في الآخرة بين يدي الهول الأعظم والحشر الأكبر : {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً}.

والمقام المحمود كما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع) رواه مسلم في صحيحه .

 

وخوطبت أنت وأنا وكل مسلم مؤمن بهذا الدين العظيم وبالرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - خطوبنا بالأدب اللازم معه : {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} . {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}. {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً} .

 

ومضات لها دلالات أعظم وآيات أكثر ونصوص أكثر فقهها المؤمنون الخلص من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قدوتنا وأسوتنا المحبون المعظمون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

زيد بن الدخنة - رضي الله عنه - أسر عند كفار قريش، جيء به ليصلب، اللحظات الأخيرة من حياته الأنفاس الأخيرة في دنياه، خاطبه أبو سفيان وكان إذ ذاك على شركه وكفره، فقال: " أتحب أن محمداً مكانك وأنت سليم معافى في أهلك ؟ ".

فنطق زيد بلسان الحب الصادق والتعظيم الخالص والإيمان المستقر المستكن في نفسه وبقدر ونبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال رضي الله عنه وأرضاه: "والله لا أحب أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي" .

وليس ذلك قول بلاغة ولا قول ثناء فارغ، بل كان بين يدي الموت، وكان عند معاينة انتهاء حياة، قال ذلك زيد - رضي الله عنه - وقاله بفعله بعد قوله عندما صلب ومضى إلى الله - عز وجل - شهيدا.

وعندما سئل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كيف كانت محبتكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، قال: "والله كان أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وأمهاتنا والماء البارد على الظمأ".

وروى البخاري هذه القصة الفريدة التي نطق بها شاهد من أعداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأعداء الإسلام والمسلمين، عروة بن مسعود الثقفي عندما ذهب مفاوضا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية ثم رجع فقال لقريش: " أي قومي والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على كسرى وقيصر والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف أحد منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوءه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيما له " .

 

ولما نزلت الآية في قول الله - جل وعلا -: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي}. أقسم أبو بكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " والله لا أحدثك إلا كأخ السرار " أي كأنما أسر لك سراً بصوت خفيض .

ونعلم قصة ثابت بن قيس خطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان جهوري الصوت امتنع عن حضور مجلس النبي - عليه الصلاة والسلام -.. لما ؟ خوف أن يتحدث فيعلو صوته فوق صوت النبي فيحبط عمله فيهلك كما قال بنفسه - رضي الله عنه وأرضاه -.

 

وروى أنس في تعظيم وتوقير ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبل أصحابه ما هو عجيب في غاية العجب قال: ( كانت أبواب بيوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقرع بالأظافير ).

قرعا خفيفا غير مزعج ؛ تعظيماً وتوقيراً وإجلالاً وهيبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وذلك أمر عجيب في دنيا الناس لكنه ليس عجيباً في دنيا المؤمنين المسلمين الصادقين المحبين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

 

وروى الطبراني في معجمه بسند قال فيه الهيثمي رجاله ثقات إلا واحدا لا يعرفه، عن أنس: أن أهل المدينة يوم أحد حاصوا حيصة أي بعدما جرى عليهم من قدر الله عز وجل، وطارت الصوارخ وبعض الناس يقول مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرجت امرأة من الأنصار محتزمة تشق الصفوف ، فاستقبلت بابنها وزوجها وأبيها وأخيها - أي كلهم تخبر أنهم ماتوا - قال لا أدري بأيهم استقبلت أولا ، وهي تقول كلما رأت واحداً ، وقيل هذا أبوك وهذا أخوك: " ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ " فلما رأته بخير قالت: " كل مصيبة بعدك جلل يا رسول الله " أي هينة يسيرة.

تلك هي القلوب المحبة الصادقة المخلصة والتي كانت كذلك متبعة.

 

وهذه أم حبيب بنت أبي سفيان يوم جاء أبوها قبل إسلامه ودخل عليها لتكون شفيعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد نقض قريش لعهدها، طوت عنه فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا ابنتي أصابك بعدي شر ! أطويته رغبة بي عنه أم رغبة عنه بي ! فقالت: " إنه فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنك مشرك نجس، فطوت عنه فراش رسول الله " . كما ذكر هذا ابن كثير في البداية وابن حجر في الإصابة.

 

لكن هذا الأمر لم يكن وحده أم لم تكن مشاعر المحبة والتعظيم والإجلال مقتصرة على تلك العواطف لكنها كانت في المواقف الصعبة تظهر لنا صورة الغيورين المدافعين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كلهم يفديه بروحه ونفسه في أقل ما يمكن أن يعرض له - عليه الصلاة والسلام -.

روى الطبري في تفسيره عند قول الله - جل وعلا - في شأن ما أقسم به أو ذكره المنافقون ورأسهم عبد الله بن أبي بن سلول : {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل} . قال: فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول فجاءه فقال:( ألا ترى ما يقول أبوك ) قال: ما يقول يا رسول الله، فأخبره قال: والله يا رسول الله لقد صدق يا رسول الله، إنك والله الأعز وهو الأذل، أما والله إن كان يرضي الله ورسوله أن آتيهما برأسه لآتينهما به، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا)، فلما مضى إلى المدينة وقف شاهراً سيفه، وعندما أراد أبوه أن يدخل اعترضه وقال له رضي الله عنه وأرضاه: والله لا يؤويك ظله ولا تأوي إليه - أي إلى بيته - أبداً إلا بإذن من الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فصاح أبوه : يا آل الخزرج ابني يمنعني مسكني، يا آل الخزرج ابني يمنعني مسكني ، فجاء إليه وثار إليه رجال يراجعونه قال: حتى يأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسعوا إلى رسول الله - عليه الصلاة والسلام -، فأرسل إليه فقال: ائذن له في مسكنه فقال: أما وقد جاء الإذن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنعم.

وفي رواية الترمذي قال: " والله لا تنفلت حتى تقر أنك الذليل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - العزيز " .

هكذا كان الحال مع الابن مع أبيه، لأن مقام ومكان وقدر وعظمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفس المؤمن أعظم من كل أحد في الوجود حتى وإن كان من أهل الإسلام فضلا عن أن يكون من غير المسلمين.

 

وهذا الحديث المتفق عليه من رواية أنس - رضي الله عنه - نرى فيه الصور التي بعثت الصحابة - رضوان الله عليهم - لمثل هذا في هذه الرواية يروي أنس - رضي الله عنه -: أن ابن خطل كان متعلقاً بأستار الكعبة في يوم فتح مكة فجاء من يخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه متعلق بأستار الكعبة فقال عليه الصلاة والسلام: اقتلوه، فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة .

لماذا؟

روى ابن إسحاق تفصيل قصته :

كان بعثه النبي في الصدقة مع رجل من المسلمين فغضب عليه لأنه أمره أن يهيئ له طعامه فلم يفعل فلما غضب قام فقتله، ثم خشي من العودة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فارتد ثم سلب إبل الصدقة ثم مضى مرتدا ينال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ومن هنا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اقتلوه) .

 

وفي مثل هذه الحادثة كذلك تأتي قصة عبد الله بن سعد بن أبي السرح وقد كان كذلك ممن نالوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وممن اجترؤوا على مقامه - عليه الصلاة والسلام -، كما روى ذلك أبو داود والنسائي في سننهما والحاكم في مستدركه فلما جاء به عثمان - رضي الله عنه - بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا رسول الله بايع عبد الله، أي على الإسلام فأعرض عنه الرسول فقال: يا رسول الله بايع عبد الله فأعرض عنه الرسول، فقال: يا رسول الله بايع عبد الله، فبعد الثالثة بايعه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال لأصحابه أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت عن بيعته فيقتله، قالوا: يا رسول الله ما علمنا لو أشرت إلينا بعينك، قال: (إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين).

 

والشاهد هنا ظاهر في أن من نال من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو اجترأ عليه أو انتقص من قدره ومقامه فهذا حكمه في دين الإسلام، وهكذا نرى الأمر واضحا جليا في شواهد عديدة وكثيرة.

فعن علي : ( أن يهودية كانت تشتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقع فيه فخنقها رجل من المسلمين فماتت فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - دمها). أي أهدر دمها .

والقصة في رواية أخرى فيها تفصيل واضح، لرجل أعمى من المسلمين كان يأوي إلى امرأة يهودية فتطعمه وتساعده وتعينه، ولكنها تنال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما اشتد عليه ذلك قام إليها فخنقها فأصبح الناس ينشدون عنها أي يسألون عن قاتلها، فقام الرجل وقال: أنا يا رسول الله، فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - دمها أي أهدره لما كانت تنال من رسول الله - عليه الصلاة والسلام-. والقرآن يثبت ذلك : {والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم}.

والحق - جل وعلا - يخبرنا بذلك، ليس في آية ولا آيتين ولا ثلاث بل في أكثر من ذلك. {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده إن ذلكم كان عند الله عظيما}. ويخاطبنا الحق - جل وعلا - بنداء الإيمان: {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا}.

بمجرد كلمة كان يمكن أن يكون فيها التباس أن فيها سوء أدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهي عنها أهل الإيمان وذلك من عجائب الأمور في تعظيم وتوقير النبي - صلى الله عليه وسلم - وتأديب الأمة بذلك، وغرس هذا التعظيم والمحبة والإجلال والغيرة والحمية له - عليه الصلاة والسلام - في نفس كل مؤمن ومسلم.

 

وروى ابن سعد عن عمر - رضي الله عنه - وأنتم تعرفون من هو - لنرى المدى الذي ذهب إليه الصحابة رضوان الله عليهم، وهو مدى عظيم - رأى رجلا اسمه محمد وكان يسب فيقول له الذي يسبه: فعل الله بك يا محمد وفعل بك وصنع بك يا محمد، فالتفت عمر إلى ابن أخيه محمد بن زيد بن الخطاب، فقال رضي الله عنه: " لا أرى محمداً - صلى الله عليه وسلم - يسب بك، والله ما تدعى محمداً ما حييت وسماه عبد الرحمن، وأراد أن يمنع الناس من التسمية بأسماء الأنبياء ثم أمسك - رضي الله عنه وأرضاه -".

غيّر اسم ابن أخيه لئلا يكون ذلك فيه نوع على الاجتراء على اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي)؛ لأن نداءه عليه الصلاة والسلام لم يكن باسمه ولكن بالنبوة والرسالة: {يا أيها النبي}. {يا أيها الرسول} ما سمي ولا نودي محمد - صلى الله عليه وسلم - في النداء باسمه المباشر، وذلك تمييز له عن غيره، فلما بقيت الكنية التي يمكن أن يشترك معه غيره فيها، نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أن يكنى المرء بكنيته، لئلا يساء الأدب بهذا ولو كان على سبيل النداء كما ورد في الرواية أن رجلا قال: يا أبا القاسم ! فالتفت إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: لم أردك وإنما أردت هذا ..

فلئلا يكون في ذلك شيء مما قد يمس جناب النبوة العظيم عنده - صلى الله عليه وسلم - ورد النهي بذلك.

فماذا بعد ذلك ؟ وهل هناك ما يمكن أن يكون أكثر من ذلك؟ والجواب نعم.

 

وقد ثبت ذلك في صحيح البخاري وفقهه المسلمون وطبقوه وعرفوه في حياتهم.

روى البخاري في صحيحه عن أنس - رضي الله عنه -: أنه كان رجل نصراني فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فعاد نصرانيا وصار يقول: لا يدري محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا ما كتبت له - يدعي أنه هو الذي أدخل الدين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه كان يفعل ذلك ويمر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ليس من القرآن أو ما ليس من الدين - قال: فأماته الله - عز وجل -، فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض فقال أهله: فعل محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه نبشوه فأخرجوه فحفروا له أعمق ما يستطيعون فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس فتركوه .

وفي لفظ مسلم : فانطلق هاربا حتى لحق بأهل الكتاب فرفعوه - أي فعظموه - وقالوا: هذا يكتب لمحمد فأعجبوا به فما لبث أن قصم الله عنقه، فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجه فتركوه منبوذا.

واستنبط المسلمون من ذلك أن كل متعرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - له عقوبة معجلة أو مؤجلة قطعا ويقينا بل إنهم طبقوا ذلك في واقع عملهم كما نقلوا ذلك ابن تيمية - رحمه الله -، قال: " في بعض معارك المسلمين مع بني الأصفر أي الروم قال: كنا - بعضهم يروون- كنا ربما نحاصر المدينة أو الحصن شهرا أو شهرين ويستعصي علينا فينال أهله من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويشتمونه فلا يلبثوا يوما أو يومين إلا ويفتح علينا ونوقع بهم ما هم أهله "

حتى قال بعضهم: " كنا نستبشر بذلك ونحن نكره منهم لما يكون من النصر عليهم والانتصار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - " .

 

تلك صور حقيقية واقعية تصور المشاعر النفسية والمحبة القلبية والتعظيم الحقيقي الذي كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما تصور الغيرة والحمية والنصرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، التي تبلغ أن يقف المسلم في وجه أبيه أو من هو أقرب إليه منه وأن يقف في وجه الدنيا كلها انتصارا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل أن يزهق نفسه وروحه فداء وحماية لرسول الله - عليه الصلاة والسلام -، كما فعل الأصحاب يوم أحد عندما اجتمع عليه المشركون فأحاط به الأنصار - رضوان الله عليهم -، وقضى بين يديه سبعة منهم شهداء واحدا إثر الآخر، وإلى جواره طلحة بن عبيد الله أيضا، ينافح عنه - رضي الله عنه وأرضاه -، أراد النبي أن يرتقي صخرة فلم يستطع، فجعل طلحة - رضي الله عنه - ظهره موطئا لقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليرتفع وجاء أبو طلحة وكان النبي يأمر الصحابة أن ينثروا له السهام لينافح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبي يكبر ويثني عليه ثم يشرف إلى القوم فيقول: " يا رسول الله لا تشرف على القوم فيصيبك سهم .. نحري دون نحرك يا رسول الله " .

 

لم يكن قول لم تكن عواطف كانت مواقف عظيمة وكانت أمة الإسلام مجمعة إجماعا ليس فيه أدنى شك بأن النيل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو الانتقاص من قدره أو الاستهزاء به أنه إن صدر من مسلم، فهو كافر بالإجماع مباح الدم، بل قد قال بعض الفقهاء: ( إنه لا تصح له توبة).

وأحسب أننا نعلم اليوم ما الذي يدعونا إلى هذا الحديث، وقد صورنا شيئا من العظمة الربانية التي جعلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بآيات القرآن الخالدة إلى قيام الساعة وصورنا صور انعكاس ذلك في قلوب ونفوس ومشاعر الأصحاب - رضوان الله عليهم -، وفي مواقفهم وغيرتهم، وعلمنا ونعلم كذلك تلك الأوامر الربانية التي تدعونا إلى التعظيم والتوقير من جهة وتدعونا إلى ترك الأذى من جهة وتحملنا تبعا لذلك كما أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - وكما أمرت بذلك سنته أن تكون لنا الغيرة الإيمانية التي ندرأ بها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل ما يتعلق بالانتقاص منه أو الاستهزاء به أو النيل من مقامه وقدره - عليه الصلاة والسلام -.

وأمة المليار تحتاج اليوم إلى الانتصار للنبي المختار - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الناس جميعا اليوم في هذه القرية الصغيرة كما يقولون قد علموا وسمعوا وربما رأوا بأعينهم ما نشر من رسوم الاستهزاء وكلمات البذاءة التي وجهت إلى سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك ما أحسب أنا رأينا صورة من هذه الصور التي أوردتها وهي قليل من كثير، لا قولا ولا شعورا ولا عملا كما كان في هذه المواقف العظيمة الجليلة لأولئك المؤمنين الصادقين ونحن نملأ الكون إدعاء بمحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وربما نكتفي بذكر الكلمات أو القصائد والأشعار، نرنمها ونرددها ونتغنى بها ونزعم أنا قمنا بحق النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان الاعتداء يمسنا في أشخاصنا أو يمس من يعز علينا ممن له قدر أو مقام عندنا لكان حالنا ربما على غير هذه الحال وللأسف الشديد.

 

وربما لو نظرنا إلى الأمة الإسلامية كلها لقلنا لو أن النيل جاء لدولة من دولها أو قائد من قادتها لرأينا كيف تحمر الأنوف وكيف ترتعد الفرائص وكيف تكون المواقف فكأن مقام وقدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهون من ذلك والعياذ بالله.

ومن هنا فإن هذه المسألة في غاية الخطورة أحبتي الكرام، إنها ليست مسألة إعلامية وليست مسألة سياسية، يكفي فيها بيان هناك أو استنكار هنا، إنها مسألة عقدية إيمانية، إنها مسألة الإيمان والتوحيد والإسلام، إنها مسألة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، إنها مسألة التزام واستسلام وقيام وأداء بأحكام شريعة الإسلام، إنها امتثال لما كان عليه سلف الأمة - رضوان الله عليهم - إنها دلالة على حب وحيوية وقوة وغيرة وإيمان وصدق في الأمة أو على عكس ذلك وضعفه وذهابه في كثير من أبناءها.

 

لا أود أن أطيل ولا أحسب أني أحسن القول الذي تذرف به الدموع لكني أضع نفسي وإياكم أمام هذه النصوص القرآنية والنبوية وأمام هذه الأحداث والوقائع الفريدة وأقول لكم ولنفسي من قبل، ماذا نحن صانعون؟ وهل سنكتفي بالحوقلة؟ وهل يبرئ ذلك ذمتنا يوم القيامة بين يدي الله؟ وهل سترتفع رؤوسنا يوم القيامة عندما يكون في المشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهل سنشرف أمتنا وتاريخنا ونحن قد عقدنا ألسنتنا فلم نتكلم، وطأطأنا رؤوسنا فلم نجابه، ولم يكن لنا حتى ربما اعتصار أسى وألم في النفوس ولا هم ولا غم في القلوب.

 

نسأل الله - عز وجل - أن يتداركن برحمته، وأن يغيث قلوبنا بالإيمان، وأن يعظم في نفوسنا محبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن يسلك بنا سبيل المنتصرين له والمنافحين عنه بكل ما نستطيع ولو بذلنا في ذلك أرواحنا ومهجنا، نسأله عز وجل أن يلزمن دينه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.

أقول هذا القول واستغفر الله العظيم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم ..

 

الخطبة الثانية:

أما بعد :

أيها الإخوة المؤمنون : وإن حقيقة التقوى لتحقيق الإيمان بالله - عز وجل - والإيمان برسوله - صلى الله عليه وسلم - والغيرة لحرمات الله والانتصار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بدأت حديثي بسؤال أردته أن يكون مثار خواطري وتفكير في خواطر العقل، وثنيت من بعد أن ذكرت هذه النصوص والوقائع بمواجهة وضعت فيها نفسي وإياكم مع هذه النصوص والوقائع، وأريد من ذلك أن ننتبه إلى أننا أمام مسألة خطيرة في إيماننا واعتقادنا ومشاعرنا وفي ما هو عليه الأمر في سلوكنا وحياتنا والتزامنا بإسلامنا وديننا، وقد يقول قائل: ماذا تريد منا أن نعمل ؟

 

وقد قلت مرارا في مثل هذه المواقف، إن من يريد أن يعمل وقد اشتعلت الغيرة في نفسه واضطرمت نار الحمية في قلبه وتأججت في مشاعره عظمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومحبته ؛ فإنه لن يسأل هذا السؤال لن يسأل ماذا تريد أن تعمل. سيلتمس طريقا سيعرف شيئا، ولكننا مع ذلك نوصي ونتواصى ونقول ما يذكرنا بالواجب العملي في كل الجوانب التي نحتاجها.

 

أولا: محبة حقيقية لا زائفة:

فلنصدق الله في محبتنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنها محبة الفداء محبة التعظيم محبة الإجلال التي جعلت بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كعبد الله بن عمرو بن العاص يقول إنه لا يستطيع أن يصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لم يستطع مرة أن يملأ عينه من وجه الرسول - عليه الصلاة والسلام - هيبة وإجلالا.

ليست المحبة دعوى، وليست مبالغة ولا هرطقات إنها حقيقة مستقرة في النفس باعثة على العمل.

 

وثانيا: غيرة صادق لا كاذبة:

لا نريد أن تكون مجرد استعراض عضلات وقد كنت أسائل نفسي قبل أن أقف بين يديكم في هذا المقام، هل تريد أن تثير الناس وأن تحمسهم وأن يقولوا خطب فقال وقال وأثر وأبكى أو صنع وقال، فرأيت أن أكون أول من يطلب من نفسه ذلك، فجمعت هذه النصوص لأجعلها نصب عيني وأعينكم، إنها آيات لا نستطيع أن نكون عنها في انفكاك مطلقا، إنها آيات نتلوها كل يوم إنها نداءات ربانية، إنها سيرة عطرة التي تمر بنا إنها الحقيقة العملية الواقعية في تاريخ أمتنا، وفي الصادقين المؤمنين المخلصين في كل زمان ومكان من أهل هذا الدين العظيم .

 

وثالثة أضيفها: نصرة عملية لا دعائية:

لا نريد أن يصدر بيان من هنا أو من هناك أو يكون اجتماع مع تلك الدولة فيقال إننا وقفنا عن الاجتماع، أي نصرة هذه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم لا تقاطع البضائع التجارية، لم لا يسحب السفراء لم لا تكون هناك إجماع من أمم ودول الإسلام كلها أن تقف وقفة واحدة كما قال زعماؤها في مكة ونصوا على ذلك في بياناتهم التي لم يجف حبرها بعد، يوم قالوا إنهم ينظرون إلى الكراهية المتنامية ضد الإسلام وإلى السخرية والانتقاص من رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن منظمة المؤتمر الإسلامي معنية بمتابعة ذلك والعناية بالرد عليه ومواجهته بما يناسب، ثم لا يكون إلا قليل من أشياء لا تقدم ولا تؤخر، ولئن كان هذا على مستوى الدول والأمم فعلى مستوى كل فرد يستطيع أن ينطق بلسانه، أن يكتب بقلمه، أن يرسل إلى كل مسئول فالأبواب مشرعة وأن يصل بقوله ولسانه إلى أولئك في عقر دارهم، تلك المجلات معروفة عناوينها وهواتفها وإمكان الكتابة إليها والصدع بالحق في آذانها وعلى صفحاتها وأن يكون ذلك مثيرا لأهل الإسلام كلهم لا إثارة عابرة وإنما لمراجعة صادقة في صدق الانتماء لهذا الدين والارتباط بالرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - لنجعل من مثل هذه الأحداث تصحيحا للمسار فإن الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا ينظرون إلى كل أمر متصل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر الدين وأمر الحياة وأمر ما بعد هذه الحياة حتى قال سعد بن الربيع - رضي الله عنه - عند آخر لحظة من لحظات حياته وآخر نفس من أنفاسه: " أبلغ قومي أنه لا خير فيكم قط إن خلص إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيكم عين تطرف " .

هكذا ينبغي أن يكون الأمر، وثمة وسائل كثيرة يمكن أن نترجم فيها ما ينبغي أن يكون أولا قبل هذه الأعمال.

 

ينبغي أن نراجع المشاعر القلبية والعواطف النفسية والقناعة العقلية والمعرفة العلمية أن نجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونعظمه حق التعظيم من خلال معرفتنا لقدره في نصوص القرآن والسنة وأن ننذر وندرس ونعلم أجيالنا مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليس أحد في الخلق كلهم كمقامه أو منزلته - عليه الصلاة والسلام -.

وإذا صدقنا في ذلك ترجمنا بعد هذا ما ينبغي أن يكون عمليا والوسائل كثيرة غير أنه لا ينبغي لك أن تنام قرير العين وأنت لم تشعر بألم ولا حزن ولا أسى ولم تنطق بكلمة ولم تكتب سطرا ولم تعبر عن هذا السخط والانتصار للنبي المختار - صلى الله عليه وسلم -.

 

أسأل الله -عز وجل - أن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا وأن لا يؤاخذنا بتقصيرنا وأن يجعلنا أصدق في الإيمان به وفي محبة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من حب دنيانا ومصالحنا.

 

المصدر:

المصدر: موقع نبي الرحمة
abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 50 مشاهدة
نشرت فى 5 نوفمبر 2011 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

299,207