authentication required





3/6/2011

د. إيراهيم عوض :

 

1- تحرير المصطلح

 

"الحَضَارة"، فى المعاجم والاستعمالات القديمة، هى الإقامة فى الـحَضَر، فهى عكس البداوة. وتُنْطَق كلمة "الحضارة" عادة بفتح الحاء، وإن كان هناك من يكسرها فيقول: "الحِضارة". وفى كل من "باب الفَعَالة والفِعَالة بمعنى واحد" من كتاب "إصلاح المنطق" لابن السِّكِّيت، و"باب ما جاء على "فَِعَالة" مما فيه لغتان: فَعَالة وفِعَالة، بفتح الفاء وبكسرها" من كتاب "أدب الكاتب" لابن قُتَيْبَة الدِّيَنَوَرِىّ نقرأ أن كلمة "حضارة" هى من الكلمات التى جاءت بالضبطين كـ"الرَّطَانة والرِّطَانة"، و"الوَقَاية والوِقَاية"، و"الوَكَالة والوِكالة"، و"الدَّلالة والدِّلالة"، و"المَهَارة والمِهَارة"، و"الوَصَاية والوِصَاية"، و"الجَنَازة والجِنَازة"، و"الجَرَاية والجِرَاية"، و"البَدَاوة والبِدَاوة"، و"الحَضَارة والحِضَارة"، و"الوَلايَة والوِلاية"، و"الوَزَارة والوِزَارة"، و"الرَّضَاعة والرِّضَاعة". ويقال: فلان حَضَرِىٌّ بيّن الحضارة، مثلما يقال: هو بدوىٌّ بيّن البداوة. فمن الواضح أن الحضارة فى التراث العربى تقابل البداوة. وكانت الحضارة مرتبطة فى الأذهان بوجه عام بالرقة والسجاحة، بخلاف البداوة، التى كانت عنوانا على الخشونة، أو فى أحسن الأحوال: على التلقائية والفطرة التى لم تُصْقَل بعد بتزيينٍ أو تحسينٍ مما يُؤْثِره بعض البشر، وإن كانت الفطرية التامة لا توجد تقريبا فى دنيا الناس، إذ لا بد من تدخل يد الإنسان ولو فى أضيق الحدود كوضع المرأة الكحل فى عينيها مثلا لتجميل نفسها. يقول القُطَامِىّ والمتنبى والمعرى فى المقابلة بين هذين المفهومين على الترتيب:

وَمَن تكُنِ الحضارةُ أَعجَبَتْهُ * فأيَّ أُنَــاسِ باديـــةٍ تَـــرَانا؟

* * *

حُسْنُ الحَضارَةِ مَجْلوبٌ بِتَطْرِيَةٍ * وَفي البَـداوَةِ حُسْنٌ غَيْرُ مَجلوبِ

* * *

عُلِّقَ الحَيْنُ في الحَضَارَةِ بِالخِدْ * رِ، وَفي البَدْوِ شُدَّ بِالأَطْنابِ

وعلى العموم فإن هذه الكلمة قليلة التكرار فى الشعر العربى القديم على عكس الحال فى شعرنا ونثرنا الحديث، اللذين اتخذت فيهما معانى جديدة إلى جانب ما كان لها من معانٍ قديمة.

ومن هذه المعانى الجديدة، حسبما جاء فى "المعجم الوسيط"، مظاهر الرقى العلمى والفنى والأدبى والاجتماعى فى الحضر، وإن كان قد أضاف أنها "مرحلة سامية من مراحل التطور الإنسانى". ويعرفها معجم "الرائد" لجبران مسعود بأنها حياة أهل المدن والقرى، أو هى أهل المدن والقرى أنفسهم، أو المدن والقرى والمنازل المسكونة، أو مظاهر الرقي العلمي والأدبي والاجتماعي في الحضر. وهذا المعنى الأخير هو الذى يهمنا فى سياقنا الحالى.

والكلمة بهذا المعنى هى ترجمة لكلمة "civilization" فى الإنجليزية والفرنسية، فمثلا فى قاموس "Encarta" الفرنسى نجدها تعنى "ensemble des aspects culturels et sociaux d une société ou d un groupe de sociétés" و"ensemble des caractéristiques des sociétés considérées comme les plus évoluées". ويعرفها قاموس "Encarta" الإنجليزى بأنها "highly developed society: a society that has a high level of culture and social organization" أو "advanced development of society: an advanced level of development in society that is marked by complex social and political organization, and material, scientific, and artistic progress" أو "advanced society in general: all the societies at an advanced level of development considered collectively"، بالإضافة إلى المناطق التى يسكنها بشر، فى مقابل الخالية من السكان. ويبدو لى، والله أعلم، أن "القرية" فى القرآن الكريم تستعمل بهذا المعنى الأخير. وحين يقول الله سبحانه وتعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى..." (يوسف/ 109) فإنما يقصد أن الرسل لا تُبْعَث إلا فى مجتمعات بشرية لا فى عزلة ليس فيها إلا النبى، أو النبى وأسرته على أوسع تقدير. ذلك أن الرسالات السماوية قد أتت لإصلاح المجتمعات والجماعات، وليس لشخص فرد فحسب، إذ "القرية" مشتقة من مادة "ق ر و"، وهذه المادة تعنى الجمع والتجمع. ويضيف قاموس مارى ووبستر إلى معانى "الحضارة" معنى الرقى الفكرى والذوقى والسلوكى "refinement of thought, manners, or taste".

ويمكن أن نستعمل مصطلح "الحضارة" استعمالا محايدا بمعنى الوضع الذى يكون عليه أى مجتمع بشرى فى زمن معين من ناحية الفكر والذوق والسلوك والأخلاق والعقيدة والإبداع والإنتاج وما إلى ذلك، سواء كان وضعا متقدما أو متأخرا. فتكون "الحضارة" بهذا المعنى هى المستوى الذى بلغه المجتمع من الرقى والتقدم فى طور معين من تاريخه، أيا كان هذا المستوى تخلفا أو تقدما. وبناء على هذا يرى موريس كروزيه مثلا أن الأقوام المتوحشة ذاتها لها حضارتها الخاصة بها (انظر "تاريخ الحضارات العام"/ تحرير موريس كروزيه/ ترجمة فريد داغر وفؤاد أبو ريحان/ منشورات عويدات/ بيروت/ ١٩٦٤/ ١/ ١). وعلى نفس الشاكلة ينفى د. فؤاد زكريا فى كتابه: "الإنسان والحضارة" (مكتبة مصر/ 10) أن "تكون الحضارة صفة لفئة معينة من البشر لا للبشر أجمعين"، إذ إن "لكل شعب من البشر قدرا معينا من التنظيم الداخلى لحياته ومن الفهم لهذه الحياة على نحو يرتفع به عن مصاف الحيوان"، وإن كان هذا لا ينفى أن "الشعوب تتفاوت فى نصيبها من الحضارة"، أى "فى مدى ما اكتسبته من علم وخبرة وقدرة على تسخير الطبيعة من أجل خدمتها، غير أنها كلها ذوات حضارة، ولها منها نصيبٌ قَلَّ أم كَثُر، وكل ما فى الأمر أن ظروفا معينة: اجتماعية أم مادية طبيعية قدعزلت هذه الشعوب عن الاتصال بغيرها، وبالتالى عن الاستفادة بخبرات الغير، فظلت مكتفية بخبرتها الخاصة المحدودة". ومن ذات المنطلق يؤكد د. حسين مؤنس فى كتابه عن "الحضارة" أنه "من الخطأ القول بأن هناك جماعات بشرية متحضرة، وأخرى وحشية أو همجية. فليست هناك جماعات كاملة التحضر، وكذلك لا توجد جماعات إنسانية على الفطرة تماما. فلكل جماعة حضارتها، والفرق في المستوى" (د. حسين مؤنس/ الحضارة- دراسة فى أصول وعوامل قيامها وتطورها/ المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب/ الكويت/ سلسلة "عالم المعرفة"/ العدد 1/ 1978م/ 16) وهذا هو المعنى الذى نقلتُه أول شىء عن قاموس "Encarta" الفرنسى، وفيه أن الحضارة ه هى "ensemble des aspects culturels et sociaux d une société ou d un groupe de sociétés". وقريب جدا منه ما نطالعه فى قاموس "Le Petit Larousse" (ط2009م) من أن الحضارة هى "Ensemble cohérent de sociétés ou de cultures ; ensemble des caractères sociaux, culturels, etc., qu elles partagent "، وكذلك فى قاموس أوكسفورد للمتعلم المتقدم، إذ يقول، ضمن تعاريف الحضارة، إنها "a society, its culture and its way of life during a particular period of time or in a particular part of the world".

ولعل النص التالى الذى أنقله من كتاب "الحضارة- دراسة فى أصول وعوامل قيامها وتطورها" للدكتور حسين مؤنس (ص13) أن يكون هو أيضا قريبا من هذا المعنى. قال رحمه الله: "الحضارة، في مفهومنا العام، هي ثمرة كل جهد يقوم به الإنسان لتحسين ظروف حياته: سواء أكان المجهود المبذول للوصول إلى تلك الثمرة مقصودا أم غير مقصود، وسواء أكانت الثمرة مادية أم معنوية. وهذا المفهوم للحضارة مرتبط أشد الارتباط بالتاريخ لأن التاريخ كما سنرى هو الزمن، والثمرات الحضارية التي ذكرناها تحتاج إلى زمن لكي تَطْلُع. أي أنها جزء من التاريخ أو نتاج جانبي للتاريخ. وكما أن ثمر الزروع والأشجار لا يطلع إلا بفعل الزمن، إذ لا يمكن أن تزرع وتحصد ثمرة ما في نفس الوقت، فإن ثمار الحضارة لا تظهر إلا بإضافة الزمن إلى جهد الإنسان".

وإذا كان محرر مادة "الحضارة" فى "الموسوعة العربية العالمية"، بعد أن عرف الحضارة بأنها "طريقة حياة نشأت بعد أن بدأ الناس يعيشون في مدن أو مجتمعات نُظِّمَتْ في شكل دول"، وأنها "تشمل الفن والعادات والتقنية وشكل السلطة وكل شيء آخر يدخل في طريقة حياة المجتمع"، قد أضاف أن "الحضارة مماثلة للثقافة"، إلا أن "الثقافة تشير إلى وسيلة ما من وسائل الحياة، وتشمل أسلوب الحياة البسيطة والمعقدة، أما كلمة "الحضارة" فتشير فقط إلى أساليب الحياة التي تتصف بنظم اقتصادية وحكومية واجتماعية معقدة"، وهو ما يفيد أن الحضارة أكثر تعقيدا وتقدما من "الثقافة"، فكأنهما شىء واحد، وإن كانت الحضارة تسبق الثقافة فى مضمار التقدم، فإنى أحب أن أرى الأمر بشكل آخر، إذ "الحضارة" عندى أوسع وأشمل من "الثقافة"، وليست مرادفة لها ولو إلى حد ما، بل تستوعبها ومعها "المدنية". فالحضارة، كما أرى، تتكون من عنصرين: عنصر مادى هو "المدنية" كالمبانى ووسائل المواصلات والمصانع وآلات الزراعة والأجهزة المادية... وهلم جرا، وعنصر معنوى هو الثقافة بالمعنى الواسع بحيث تغطى الدين والعادات والتقاليد والعلوم والآداب والفنون وما إلى هذا (انظر فى هذا الاختلاف مثلا كتاب "الإنسان والحضارة" للدكتور فؤاد زكريا/ 12 فما بعدها، وإن كانت "الحضارة" عنده تقابل الـ"culture" أما الـ"civilisation" فتعنى "المدنية").

وفى سياق مشابه لما نحن فيه يقترح أحمد القص، فى كتاب له على المشباك عنوانه: "نشوء الحضارة الإسلامية"، تخصيص كلمة "المدنية" للدلالة على مجموعة الأشكال والوسائل المادية المستخدمة في شؤون الحياة، أو للدلالة على المستوى الذي وصلت إليه البشرية في المجال التقني والصناعي. ومن ثم كان من الحريّ عنده أن يتم الفصل بين الدراسات التي تتناول التاريخ الحضاري للأمم والشعوب والمجتمعات وبين الدراسات التي تتناول تاريخ التطور العلمي والصناعي لدى الجماعات البشرية، والتي من الأحرى بها عنده أن تندرج ضمن ما يُعْرَف بـ"تاريخ العلوم"، إذ لكل منهما فى رأيه مسارها الخاص بها: فللحضارة وحداتها البشرية المستقّلة، بينما للمدنية مسارها العام في العالم. ومع هذا فمن المفكرين من يرى أن الحضارة تقابل الثقافة. أى أن الحضارة عندهم تعنى ما أقصده أنا وأمثالى بـ"المدنية". ولا مُشَاحَّة فى الاصطلاح كما يقال.

وبناءً على الاستعمال المحايد لمصطلح "الحضارة"، بمعنى الوضع الذى يكون عليه أى مجتمع بشرى فى زمن معين من ناحية الفكر والذوق والسلوك والأخلاق والعقيدة والإبداع والإنتاج وما إلى ذلك، سواء كان وضعا متقدما أو متأخرا، يرى كاتب هذه السطور أن الحضارة قد ظهرت منذ فتح الإنسان الأول عينيه وبدأ يفكر ويتحرك ويباشر نشاطه الحياتى. وتمثل هذه النقطة نقطة الصفر الحضارى على طريق التقدم الذى لا ينتهى إلا بقيام الساعة. وقد أثبت العصر الحديث بما تحقق فيه من إنجازات حضارية متلاحقة وهائلة أن ما تتضمنه مخازن الحياة من احتياطيات الحضارة هو شىء لا نهاية له، وأننا كلما بلغنا شأوا حضاريا استبانت لنا عند الأفق آشاءٌ أخرى لا يُوقَف لها على حد.

وفى "الموسوعة الفلسفية" لجميل صليبا أن أول من أطلق مصطلح "الحضارة" على معنى قريب من معناه الحاضر هو ابن خلدون، الذى "فرق فى "مقدمته" بين العمران البدوى والعمران الحضرى، وجعل أجيال البدو والحضر طبيعية فى الوجود. فالبداوة أصل الحضارة، والبدو أقدم من الحضر لأنهم يقتصرون على انتحال الزراعة والقيام على الحيوان لتحصيل ما هو ضرورى لمعاشهم. أما الحضر فإن انتحالهم للصنائع والتجارة يجعل مكاسبهم أكثر من مكاسب أهل البدو، وأحوالهم فى معاشهم زائدة على الضرورى منه. وإذا كانت البداوة أصل الحضارة فإن الحضارة غاية البداوة ونهاية العمران".

ثم يمضى صليبا قائلا إن للحضارة معنى موضوعيا هو "مظاهر التقدم الأدبى والفنى والعلمى والتقنى التى تنتقل من جيل إلى جيل فى مجتمع واحد أو عدة مجتمعات متشابهة"، ومن هنا نقول: "الحضارة الصينية، والحضارة العربية، والحضارة الأوربية"، ومن ثم فإن "لكل لحضارة نطاقها وطبقاتها ولغاتها: فنطاقها هو حدودها الجغرافية، وطبقاتها هى آثارها المتراكمة بعضها فوق بعض فى مجتمع واحد أو فى عدة مجتمعات. ولغاتها هى الأداة الصالحة للتعبير عن الأفكار السياسية والتاريخية والعلمية والفلسفية". وأما الحضارة بالمعنى الذاتى المجرد فتطلق على "مرحلة سامية من مراحل التطور الإنسانى المقابلة لمرحلة الهمجية والتوحش، أو تطلق على الصورة الغائيّة التى نستند إليها فى الحكم على صفات كل فرد أو جماعة. فإذا كان الفرد متصفا بالخلال الحميدة المطابقة لتلك الصورة الغائية قلنا إنه متحضر. وكذلك الجماعات، فإنّ تحضُّرها متفاوت بحسب قربها من هذه الصورة الغائية أو بعدها عنها. ومع أن الصورة الغائية للحضارات مختلفة باختلاف الزمان والمكان فإن اختلافها لا يمنع من اشتراكها فى عناصر واحدة". ثم يمضى فيقول إن هذه العناصر فى زماننا تتألف "من التقدم العلمى والتقنى وانتشار أسباب الرفاه المادى وعقلانية التنظيم الاجتماعى والميل إلى القيم الروحية والفضائل الأخلاقية. فالكلام على الحضارة بهذا المعنى لا يخلو من التقويم والتقدير، أى من الحكم على الحضارات بنسبتها إلى المثل العليا المتصوَّرة فى الأذهان. ويدل تطور هذه المثل العليا على اتجاهها إلى الاشتراك فى عناصر متشابهة لسرعة انتقال الأفكار والأشياء من إقليم حضارى إلى آخر".

وإلى ما مر يضيف صليبا أن "الحضارة، بمعنى ما، مرادفة للثقافة. إلا أن هذين اللفظين لا يدلان عند العلماء على معنى واحد: فبعضهم يطلق لفظ "الثقافة" على تنمية العقل والذوق، وبعضهم يطلقه على نتيجة هذه التنمية، أى على مجموع عناصر الحياة وأشكالها ومظاهرها فى مجتمع من المجتمعات. وكذلك لفظ "الحضارة"، فإن بعضهم يطلقه على اكتساب الخلال الحميدة، وبعضهم يطلقه على نتيجة هذا الاكتساب، أى على حالة من الرقى والتقدم فى حياة المجتمع بكاملها. و إذا كان بعض العلماء يطلق لفظ "الثقافة" على المظاهر العقلية والأدبية فإن بعضهم الآخر يذهب إلى عكس ذلك. دَعْ أن لفظ "الثقافة" يدل عند علماء الأنثروبولوجيا على مظاهر الحياة فى كل مجتمع، متقدما كان أو متخلفا، على حين أن لفظ "الحضارة" عندهم يدل على مظاهر هذه الحياة فى المجتمعات المتقدمة وحدها. وخير وسيلة لتحديد معنى كل من هذين اللفظين إطلاق لفظ "الثقافة" على مظاهر التقدم العقلى وحده، وهى ذات طابع فردى، وإطلاق لفظ "الحضارة" على مظاهر التقدم العقلى والمادى معا، وهى ذات طابع احتماعى". وهو ما يرينا أن العلماء مختلفون فى استعمال مثل تلك المصطلحات. والمهم هو ثبات كل منهم على المعنى الذى يختاره لكل منها بحيث يكون كلامه متسقا بعضه مع بعض.

وتقدم "الموسوعة البريطانية" (ط2010م) "الحضارة" بوصفها:

"A civilization is a large group of people who share certain advanced ways of living and working. Civilizations came about as humans started living in cities. City people developed advanced forms of culture and government. Eventually, this advanced lifestyle spread to people in large regions around cities".

أما "الموسوعة اليونيفرسالية" (ط2010م) فتطالعنا بتعريف ذلك المصطلح على النحو التالى: "Le mot « civilisation » est employé en des sens très variés et souvent fort imprécis. D une manière générale, on peut classer sous trois rubriques les significations qui lui sont attribuées explicitement ou implicitement. Premièrement, dans le langage le plus courant, le terme de civilisation est associé à un jugement de valeur et qualifie favorablement les sociétés à propos desquelles on l emploie. Il suppose alors qu il y ait, inversement, des peuples non civilisés ou sauvages. Le verbe « civiliser » en est la preuve, et, de ce verbe, dérive aussi un sens particulier du substantif qui désigne alors l action de civiliser. La civilisation est, en deuxième lieu, un certain aspect de la vie sociale. Il y a des manifestations de l existence collective qui peuvent être appelées phénomènes de civilisation ou qui, si elles se concrétisent dans des institutions et des productions, sont nommées œuvres de civilisation, alors que certaines autres ne méritent évidemment pas d entrer dans cette catégorie. Enfin, le mot « civilisation » s applique à un ensemble de peuples ou de sociétés. Ainsi, à côté de la civilisation qui est un degré élevé d évolution ou un ensemble de traits caractéristiques, il y a les diverses civilisations qui possèdent ces caractères et en tirent une personnalité propre qui leur donne une place déterminée dans l histoire ou dans l ensemble des populations à un moment donné. Cette troisième signification du mot est donc liée à l une ou l autre des deux premières et en est l objectivation, ou, si l on préfère, c est elle qui rend le concept opératoire dans l analyse de la réalité sociale".

وفى النسخة الفرنسية من "موسوعة الإنكارتا" (ط2009م) نجد السطور التالية تتصدر المادة الخاصة بمصطلح "الحضارة"، إذ تعرّفه المادة المذكورة بأنه "croyances, des conventions sociales et l état d avancement matériel qui caractérisent une société. Souvent opposé à la notion de culture, le terme apparut au XVIIIe siècle sous la plume de Mirabeau, qui l employa au double sens de processus du « progrès » matériel, social, culturel, et de résultat de ce processus. Plus ancien, le terme de culture (du latin cultura, « champ cultivé ») ne prit son sens moderne qu au XXe siècle: « Ensemble des formes acquises de comportements dans les sociétés humaines », telle fut la définition qu en donna Marcel Mauss dans les années 1920".

هذا من حيث الكلام فى تحرير مصطلح "الحضارة"، أما بالنسبة إلى وصف حضارتنا، وهل هى حضارة إسلامية أو عربية، فهذا ما سوف نتناوله الآن: فهناك من يقول: "الحضارة العربية" كجوزيف هل المستشرق الألمانى الذى ألف كتابا بهذا العنوان نفسه وترجمه د. إبراهيم أحمد العدوى، وكجوستاف لوبون المستشرق الفرنسى المشهور صاحب كتاب "حضارة العرب"، الذى ترجمه عادل زعيتر، وكالدكتور شكرى عياد، الذى أصدر كتيبا بعنوان "الحضارة العربية" فى سلسلة "المكتبة الثقافية" فى ستينات القرن المنصرم. وإلى جانب هؤلاء نرى من يسميها بـ"الحضارة الإسلامية": فلجرجى زيدان كتاب بعنوان "تاريخ التمدن الإسلامى" (5 أجزاء). وللدكتور أحمد شلبى "موسوعة الحضارة الإسلامية" (5 أجزاء أيضا). وهناك "معالم الحضارة الإسلامية" للدكتور مصطفى الشكعة، وكتاب "الحضارة الإسلامية من القرآن والسنة" للدكتور شوقى ضيف. كذلك لا بد أن نشير إلى سلسلة الكتب التى أرخ فيها د. أحمد أمين لتلك الحضارة وحللها تحليلا مستفيضا، مضيفا كل شىء فيها إلى "الإسلام" فقال: "فجر الإسلام" و"ضحى الإسلام" و"ظهر الإسلام" و"يوم الإسلام". ولكن طه حسين فى المقدمة التى كتبها لـ"فجر الإسلام" لا يتحدث إلا عن "الأمة العربية" رغم أنه إنما يتكلم عن تلك الأمة بعد سطوع شمس الإسلام. وانطلاقا من هذه النقطة نراه يقول إن أحمد أمين قد أخذ على عاتقه تحليل الحياة العقلية "العربية"، مع أن أحمد أمين قد أضاف كل شىء فى كتبه إلى "الإسلام" كما رأينا حتى لقد جاءت عناوين تلك الكتب تحمل اسم "الإسلام" واضحا صريحا لا يحتمل شيئا من اللبس. لكن لا بد أن أضيف أن طه حسين فى مقدمته للجزء الأول من "ضحى الإسلام" قد عدل إلى الكلام عن الإسلام والمسلمين لا العرب.

وفى "الويكيبيديا" الإنجليزية مقال خاص بهذا الموضوع تحت عنوان "Civilization Islamic". وثم مقال مشابه فى "الويكيبيديا" الفرنسية بعنوان "Civilisation Islamique" نقرأ فى مفتتحه أن هذه الحضارة تشير إلى "la zone géographique couverte par la conquête musulmane, et s identifie par conséquent à la civilisation arabe de la période dite arabe classique, jusque la chute du Califat de Bagdad en termes de datation". وكان جوستاف فون جرونباوم المستشرق النمساوى قد أصدر كتابا يحمل اسم "Medieval Islam"، ومعناه: "الإسلام فى العصور الوسطى"، إلا أن مترجم الكتاب عبد العزيز توفيق جاويد أبى إلا أن يترجمه بـ"حضارة الإسلام". وقد أخذ د. مصطفى الشكعة هذه الترجمة على أنها هى اسم الكتاب فعلا (انظر كتابه: "من معالم الحضارة الإسلامية"/ ط3/ دار العلم للملايين/ 1978م/ 13). وعلى كل حال فترجمة هذا العنوان تذكّرنا بالكتاب الذى وضعه جميل نخلة المدوّر باسم "حضارة الإسلام فى دار السلام"، أى فى بغداد. وبالمثل يطلق د. أحمد فؤاد الأهوانى على تلك الحضارة اسم "الحضارة الإسلامية" (ص5 من كتابه: "الفلسفة الإسلامية"/ سلسلة "المكتبة الثقافية"/ العدد 69/ 15 سبتمبر 1962م).

بل لقد عقد د. الأهوانى أول جزء من الفصل الأول فى كتيّبه هذا، وهو بعنوان "موضوع الفلسفة الإسلامية"، لمناقشة تسمية هذه الفلسفة: "إسلامية أم عربية؟" (ص10 فما بعدها). وعلى نفس الشاكلة نجد د. مصطفى الشكعة يفتتح الفصل الأول من كتابه: "معالم الحضارة الإسلامية" متسائلا: "حضارة إسلامية أم عربية؟". وقد انتهى كلا المؤلفين إلى الانحياز للسمة الإسلامية لا العربية، مع فارق هام هو أن د. الشكعة عَدَّ تسمية تلك الحضارة بـ"الإسلامية" أمرا بديهيا، والأمور البديهية (كما يقول) لا تحتاج إلى برهنة، بخلاف د. الأهوانى، الذى بَسَط القول إلى حد ما وقلّب كلا المصطلحين على وجهه، لينتهى فى آخر المطاف إلى اختيار وصف "الإسلامية".

ولسوف أقوم أنا أيضا هنا بتناول هذه النقطة تحريرا للمصطلح وبحثا عن أدق الألفاظ فى التعبير عن الموضوع الذى أتناوله بالدراسة رغم ما يقال من أنه "لا مُشَاحَّة فى الاصطلاح". ذلك أن المؤلفين، إذا أمكنهم البرهنة على صحة اختيارهم لمصطلح دون مصطلح وتوصلوا إلى إقناع القراء بما آثروه على غيره، فبها ونعمت، و"زيادة الخير خيران" كما يقول المثل، وإلا عدنا إلى المربَّع الأول الذى تُرْفَع فيه لافتة "لا مُشَاحَّة فى الاصطلاح". أما أن نمضى فى طريقنا دون أن نعبأ بتوضيح الأمور وكأن القارئ لا يعنينا فى شىء، أو كأن عليه قبول ما نقول دون أن يكون له الحق فى معرفة الحيثيات التى حملتنا على ذلك، فبخلاف الأَوْلَى.

وأنا، حين أختار مصطلح "الحضارة الإسلامية" مُؤْثِرًا إياه على وصفها بالعروبة، فمردّ ذلك إلى أن الحضارة التى أقصدها إنما هى الحضارة التى أنشأها الإسلام لا الحضارة التى كانت للعرب قبل سطوع شمس ذلك الدين الكريم، أيا كان مستوى تلك الحضارة. كما أن الحضارة التى أسميها بـ"الإسلامية" ليست مقصورة على العرب وحدهم رغم أنهم هم الذين حملوا الإسلام إلى خارج بلادهم ونشروا ضياءه فى ربوع العالم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، ورغم أن كثيرين جدا من المشاركين فى صنع تلك الحضارة كانوا يستخدمون العربية خلال زمن طويل. ثم إن الحضارة، كما وضحنا قبلا، تتكون من الإبداعات المادية والفكرية والروحية والعادات والتقاليد والأنظمة الإدارية والسياسية وما إلى ذلك مما يتمايز فيه كل شعب عن غيره من الشعوب. فكيف نصف مثلا تصاميم العمارة فى آسيا الوسطى أو فى تركيا بـ"العربية"، وليس العرب هم الذين صمموها؟ كما أننا، حين نصف تلك الحضارة بصفة العروبة، قد نُذْكِى، ولو عن غير قصد، الحساسيات القومية التى أتى الإسلام ليقضى عليها، أو على أقل تقدير: ليُطَامِن منها ويحصرها فى أضيق نطاق. ثم لا ننس أن رقعة العالم الإسلامى أوسع كثيرا جدا من رقعة بلاد العرب. فكيف ننسى أو نتناسى تلك الحقيقة التى لا يصح تجاهلها ولا تناسيها؟ وأخيرا وليس آخرا ألم يقل الرسول الكريم صلوات الله وسلاماته عليه إنه لا فضل لعربى على عجمى، مثلما لا فضل لعجمى على عربى، إلا بالتقوى والعمل الصالح؟ ثم إن دين الله يسمى: "الإسلام"، ولا يسمى: "العروبة"، فلماذا نصادر تسمية "الحضارة الإسلامية" لصالح "الحضارة العربية"؟

على أننى، وإن كنت أُوثِرُ وصف "الإسلامية" على "العربية"، لا أنظر إلى العرب بعين التقليل، بل بالعكس أُقِرّ بفضلهم كاملا فى اضطلاعهم بحمل رسالة الإسلام إلى كل أنحاء العالم بإمكاناتٍ تقترب من الصفر، ونتائجَ تشبه الإعجاز، ذلك الدين الذى ليس كمثله دين، وكذلك فى إهدائهم لنا لغتهم العبقرية الجميلة التى أجد لها على لسانى وفى قلبى وفى عقلى حلاوة ونداوة. وهل يمكننى أن أنسى، ولو للحظة، أن الرسول محمدا عليه الصلاة والسلام عربى، أو أننى أنا أعد نفسى عربيا ولا أقتصر على انتمائى المصرى بأى حال، وإن كنت لا أقف عند الانتماء العربى باعتباره نهاية المطاف، بل أمضى موسعا هذا الانتماء إلى حدوده الإسلامية؟ كل ما هنالك أننى أتصور التسمية التى اخترتها أقوم سبيلا وأوفى فى الدلالة على ما أريد.

صحيح أن الحضارة الإسلامية كانت ولا تزال تضم نصارى ويهودا وصابئة وغير ذلك، إلا أن نسبتهم رغم ذلك إلى بحر المسلمين المتلاطم هى نسبة جد ضئيلة. كما أن وصف "الإسلامية" لا يعنى بطبيعة الحال أن كل من يستظل برايتها هو مسلم بالضرورة، وبخاصة أن الإسلام، الذى انبعثت منه تلك الحضارة، هو دين يحترم أصحاب الأديان الأخرى ويعطيهم الفرصة كاملة للتنفس والازدهار فى ظلاله دون عسف أو إكراه أو تحقير أو تضييق. وفى تاريخ الأدب العربى على سبيل المثال، والشعرُ والأدبُ هما أهم ما يعتز به العرب، نجدنا طوال القرون ندرس شعر الأخطل النصرانى، ورسائل أبى إسحاق الصابى، ومؤلفات ابن النغريلة اليهودى كما ندرس ما تركه لنا أى مسلم من شعر أو رسائل أو كتب. وحتى لو كانت الملاحظة الأخيرة تمثل عقبة على نحو أو على آخر فلا ريب أنها أخف كثيرا وأسهل من عقبة تسمية تلك الحضارة بـ"العربية"، على الأقل: لأن غير العرب فى الأمة الإسلامية أكبر عددا من أعداد العرب إلى حد لا يُتَصَوَّر. ثم إن هناك توجيها جميلا لتلك التسمية، وهو أننا لا نسميها: حضارة "مسلمة"، بل حضارة "إسلامية". وشتان الأمران، إذ "المسلمة" (Muslim, Musulmane) تعنى أن كل من يعيش فى إطارها يدين بالإسلام، أما "الإسلامية" (Islamic, Islamique) فتعنى الانتساب إلى الحضارة التى أنشأها الإسلام، ويدين غالبية صناعها بالإسلام، لكن ليس شرطا أن يكونوا كلهم مسلمين.

 

 

المصدر: العرب نيوز
abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 76 مشاهدة
نشرت فى 4 نوفمبر 2011 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

325,776