خلفاء الدولة العباسية .. مشاهد من العز والذل - تقرير

خليفة قوي وآخر ضعيف.. ملك يسيطر وآخر يسقط.. سلطان يعدل وآخر يظلم.. إمام صالح وآخر فاسد..وبين صفات الخير والشر تعيش الأمة متأرجحة.. تنهض بنهوض قادتها وتسقط بسقوطهم.
عز حكامها وذلهم ينعكس على واقع الأمة.. فهم من يتحكم بمقاليد الأمور وهم من يقود السائرين في طرقات الحياة ويرشدونهم إلى مواطن الخير أو الشر.
وفي هذا التقرير نبذ متفرقة عن أحوال خلفاء الدولة العباسية وصور من تبايناتهم بين العز والذل؛ الهدف من ذلك عرض سريع لحال الأمة في جزء من تاريخها، وكيف أن واقعها كان مرتبطاً دائماً بواقع وحال حكامها.
بداية الدعوة العباسية
كان بنو أمية يجلون آل البيت، ولكن تجاوزات بعض الولاة أساءت في بعض الأحيان إليهم.
كان الوليد بن عبد الملك الخليفة يومئذ قد أقطع الحُميمة (بلدة في الأردن) لعلي بن عبد الله بن عباس فأقام واستقر بها.
بعد زيارة قام بها عبد الله بن محمد (أبو هاشم) إلى الخليفة سليمان بن عبد الملك، الذي رحب به وأكرمه، شعر أبو هاشم بالمرض وأحس بدنو أجله، وأشاع الناس أن سليمان قد سمّه فعرج أبو هاشم على (الحميمة)، ونقل ذلك إلى ابن عمه محمد بن على بن عبد الله بن عباس، وطلب منه أن يقتص من بني أمية وذلك عام 99هـ.
لقي كلام أبو هاشم لابن عمه محمد موقعاً من نفسه، وكان رجلاً طموحاً، وكان له أكثر من عشرين أخاً يدعمونه بالإضافة إلى أبنائه، فحمل محمد بن علي الفكرة وهى إزالة ملك بني أمية. وبدأ يعمل على تنفيذها.
واختار الكوفة وخراسان نقطتي انطلاق للدعوة، ويقول ابن الأثير إن أول من قدم خراسان من دعاة بني العباس هو زياد أبو محمد مولى همدان في ولاية أسد، بعثه محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
وجاء اختيار الكوفة وخراسان لأسباب، منها:
1- أكثر الناقمين على بني أمية من الكوفة.
2- أن خراسان تقع في مشرق الدولة، وإذا اضطرت الظروف يمكن أن يفر إلى بلاد الترك المجاورة.
3 - وفي خراسان صراعات عصبية بين العرب (القيسية واليمانية) يمكن الاستفادة من هذا الصراع لصالحه.
4 - وخراسان دولة حديثة عهد بالإسلام، فيمكن التأثير في نفوس أهلها من منطلق العاطفة والحب لآل البيت.
5 - اختار الكوفة مركزاً للدعوة ويقيم فيها ما يسمى (بكبير الدعاة أو داعي الدعاة)، وتكون خراسان هي مجال انتشار الدعوة.
وعمد كذلك إلى السرية التامة وكان حريصاً عليها، تنتقل المعلومات من خراسان إلى الكوفة إلى الحميمة، ويتحرك الدعاة على شكل تجار أو حجاج.
أول كبير للدعاة في خراسان هو أبو عكرمة السراج (أبو محمد الصادق) الذي اختار اثني عشر نقيباً كلهم من قبائل عربية، وهذا يرد على الادعاء بأن الدولة العباسية قامت على أكتاف الفرس. فكان كبير الدعاة يختار اثني عشر نقيباً يأتمرون بأمره ولا يعرفون الإمام، ولكل نقيب سبعون عاملاً.
بدأت الدعوة تؤتي ثمارها في خراسان، وبدأ يظهر رجالها؛ مما جعل والي خراسان يومئذ وهو أسد بن عبد الله القسري يقبض على أبي عكرمة السراج، وعدد من أصحابه فيقتلهم سنة 107هـ.
وحتى سنة 118هـ استطاع أسد بن عبد الله (كان قد عزل ثم أعيد) بخبرته أن يكشف بعض قادة التنظيم العباسي واشتد عليهم فلجأت الدعوة العباسية إلى السرية التامة من جديد.
ولأن رجال الدعوة قد عرفوا هناك كان لابد من تغيير، فتم اختيار عمار بن يزيد (خداش) داعية جديداً في خراسان، ولكن لم يكن اختياراً موفقاً؛ إذ أظهر بعد ذلك الكفر وانكشف أمره، وقتل على يد أسد بن عبد الله أيضاً سنة 118هـ.
شوهت أفعال خداش صورة الدعوة العباسية في أذهان الناس، ولم يثقوا في الداعية الجديد، إضافةً إلى شدة أسد بن عبد الله عليهم.
وحتى سنة 122هـ كانت الدعوة تسير ببطء فلقد ظهر عائق جديد وهو ثورة زيد بن علي بن زين العابدين بالكوفة.. وكان لا بُدَّ أثناءها وبعدها من الهدوء ليعود الجو إلى حالته الطبيعية.
وفي سنة 125هـ توفي محمد بن علي وأوصى من بعده لابنه إبراهيم ليقوم بمتابعة أمور الدعوة.
وجاء الفرج في سنة 125هـ بعد وفاة هشام بن عبد الملك وانشغال الدولة الأموية بصراعاتها الداخلية.. بالإضافة إلى أن الدعوة العباسية بتوجيه من إمامها قررت استغلال الصراع القبلي القائم بخراسان؛ وذلك لأن والي خراسان يومئذ كان (نصر بن سيار) مضريّاً وأكثرية العرب هناك من اليمانية فكرهوه، فاتجهت الدعوة العباسية إلى اليمانية.
وأثّر هذا الصراع القبلي على أحوال الناس ومصالحهم بكافة فصائلهم (اليمانيون، المضريون، أهل العلم، الفرس، الترك)، كل هذه الأحداث ساعدت الدعوة العباسية على التحرك من جديد.
وفي سنة 128هـ ظهرت شخصية قوية هو أبو مسلم الخراساني (فارسي الأصل) أحد دعاة بني العباس منذ سنوات، لمح فيه إبراهيم بن محمد الذكاء والكفاءة، فقرر أن يرسله إلى خراسان حيث أمر الدعوة في نمو مطرد.
وفي سنة 129هـ جاءت إلى أبي مسلم رسالة من الإمام تأمره بالظهور بالدعوة، ففعل، ووالي خراسان يومها مشغول بصراعات الدولة الداخلية، ولما كان يوم عيد الفطر صلى أبو مسلم بالناس.
مرحلة الاشتباك المسلح
وقع أول اشتباك بين قوة بني أمية وقوة بني العباس في خراسان، وانتصر فيها أبو مسلم على قوات نصر بن سيار، وكثر أتباع أبي مسلم فقد احتال حيلاً لطيفة في السيطرة على الأمر فكان يرسل إلى اليمانية يستميلهم، ويكتب إلى المضرية يستميلهم بقوله: "إن الإمام أوصاني بك خيراً، ولست أعدو رأيه فيك".
توترت الأحداث، وبعث مروان بن محمد في طلب إبراهيم بن محمد الإمام المقيم بالحميمة، فقيدوه وأرسلوه إلى الخليفة بدمشق فسجن.
وفي سنة 131هـ ازداد تمكن أبي مسلم من الأمر، وفر نصر بن سيار وتوفي، فدانت خراسان كلها لأبي مسلم.
وفي سنة 132هـ انتصرت قوات أبي مسلم على قوات العراق ثم توجه إلى الكوفة والتي كان قد خرج بها محمد بن خالد بن عبد الله القسري داعياً لبني العباس.
وفي سنة 132هـ مات إبراهيم بن محمد في سجن مروان بن محمد، وأوصى بالخلافة بعده لأخيه عبد الله بن محمد (السفاح)، وبالفعل اختير السفاح أول خليفة لبني العباس في ربيع الآخر سنة 132هـ.
وفي 11 من جمادى الآخرة أرسل السفاح الجيوش لمنازلة الأمويين فسحقهم، واستتب الوضع لبني العباس عدا الأندلس.
خلافة السفاح عبد الله بن محمد العباسي
(من ربيع الآخر 132هـ حتى ذي الحجة 136هـ)
ولد السفاح بالحميمة ونشأ بها، ثم لما أخذ مروان أخاه إبراهيم انتقل أهله إلى الكوفة فانتقل معهم، ويقال له أيضاً: المرتضى والقاسم.
آلت إليه الخلافة واستقر بالكوفة، وكان قد خطب في الناس خطبة الخلافة حيث قال: الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه وكرمه وشرفه وعظمه، واختاره لنا فأيده بنا وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوامبه والذابين عنه والناصرين له، فألزمنا كلمة التقوى وجعلنا أحق بها وأهلها، وخصنا برحم رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، وقرابته، وأنشأنا من آبائنا، وأنبتنا من شجرته، واستقنا من نبعته. جعله من أنفسنا عزيزاً عليه ما عنتنا حريصاً علنا بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتاباً يتلى عليهم، تبارك وتعالى فيما أنزل من محكم كتابه: }إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً{، وقال: }وأنذر عشيرتك الأقربين{، وقال: }ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله ولرسول ولذي القربى{، وقال: }واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى{، فأعلمه جل ثناؤه فضلنا، وأوجب عليهم حقنا ومودتنا، وأجزل من الفيء والغنيمة نصيبنا تكرمةً لنا وفضلاً علينا، والله ذو الفضل العظيم. وزعمت السبئية الضلال أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة والخلافة منا، فشاهت وجوههم.. بِنا هدى الله الناس بعد ضلالتها، وبصرهم بعد جهالتهم، وأنفذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحق، ودحض الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسداً، ورفع بنا الخسيسة، وتمم بنا النقيصة، وجمع الفرقة حتى عاد الناس بعد العداوة أهل التعاطف والبر والمواساة في دنياهم، وإخواناً على سرر متقابلين في آخرتهم، فتح الله ذلك منةً ومنحةً لمحمد، صلى الله عليه وسلم. فلما قبضه الله إليه قام بالأمر من بعده أصحابه وأمرهم شورى بينهم، فحووا مواريث الأمم، فعدلوا فيها ووضعوها مواضعها وأعطوها أهلها وخرجوا خماصاً منها. ثم وثب بنو حرب وبنو مروان فانبذوها وتداولوها، فجاروا فيها واستأثروا بها وظلموا أهلها بما ملأ الله لهم حيناً حتى آسفوه، فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا ورد علينا حقنا وتدارك بنا أمتنا وولي نصرنا والقايم بأمرنا؛ ليُمن بنا على الذين استضعفوا في الأرض، وختم بنا كما افتتح بنا.
وإني لأرجو أن لا يأتيكم الجور من حيث جاءكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح، وما توفيقنا - أهل البيت - إلا بالله.
يا أهل الكوفة أنتم محل محبتنا ومنزل مودتنا، أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور عليكم حتى أدركتم زماننا، وأتاكم الله بدولتنا، فأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا فأنا السفاح المبيح، والثائر المنيح".
وخلال حكمه واجه محاولات عديدة للخروج عليه، ولكنه استطاع أن يقضي عليها جميعاً مستعينًا بأبي مسلم الخراساني وفئة من أهله وعشيرته وكانوا كثرة، وكان شديد البطش والتنكيل بخصومه، فكان جُلُّ اعتماده على:
1- أبي مسلم الخراساني بالمشرق.
2- أخوه أبي جعفر المنصور بالجزيرة وأرمينية والعراق.
3- عمه عبد الله بن على بالشام ومصر.
وكان معظم ولاة السفاح من أعمامه وبني أعمامه.. وعَهِد السفاح من بعده إلى أخيه أبي جعفر المنصور، ومن بعده إلى ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي. ولم تطل أيامه، فقد أصيب بالجدري فمات، ولم تستقر له الأمور بصورة تامة.
مرحلة القوة
خلافة أبي جعفر المنصور
لما تولى المنصور الخلافة (من ذي الحجة 136هـ حتى ذي الحجة 158هـ) وضع نصب عينيه مخاطر ثلاث لا بُدَّ أن يقضي عليها:
1- منافسة عمه عبد الله بن علي له في الأمر، وقد كان موكلاً بتدبير جيوش الدولة من أهل خراسان والشام والجزيرة والموصل ليغزو بهم الروم (وكان رغم جلالة قدره عند بني العباس لكنه كان قليل الحزم).
2- اتساع نفوذ أبي مسلم الخراساني، أحد أعمدة الدولة العباسية فكان أبو جعفر شديد الحنق عليه، لا يرضيه أن يكون له في الأمر شريك ذو سطوة وسلطان.
3- بنو عمومته من آل علي بن أبي طالب الذين لا يزال لهم في قلوب الناس مكان، خاصة محمد بن عبد الله بن حسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فخاف أبو جعفر أن يحاول الخروج عليه.
كان عبد الله بن على ينتظر أن تؤول إليه الخلافة لما كان له من يد طولى في القضاء على ملك بني أمية، فلما جاء الخبر باستخلاف أبي جعفر المنصور خلعه وأعلن البيعة لنفسه.. فأرسل إليه أبو جعفر جيشاً بقيادة أبي مسلم الخراساني فالتقوا عند حران ودارت معركة بين الفريقين لمدة ستة أشهر وظلت المعركة سجالاً ثم تحولت إلى أبي مسلم الذي انتصر، وفر عبد الله بن علي إلى البصرة عند أخيه سليمان فعلم بذلك أبو جعفر فبعث إلى أبي سليمان يأمره بإحضار عبد الله بن علي إليه، وأعطاه الأمان لعبد الله ما جعله يثق به، فجيء به إلى المنصور سنة 139هـ، فأمر بحبسه وحبس من كان معه، وظل في حبسه حتى مات سنة 147هـ، وكانت هذه غدرة من المنصور.
أما أبو مسلم الخراساني فقد أراد أبو جعفر أن يصطاده قبل أن يعود إلى خراسان بعد هذه المعركة، ولم يكن يريد أن يظهر لأبي مسلم مراده. فكتب إلى أبي مسلم: "إني قد وليتك مصر والشام فهي خير لك من خراسان.. تكون بقرب أمير المؤمنين، فإن أحب لقاءك أتيته من قريب".
فغضب أبو مسلم، وقال: "يوليني الشام ومصر، وخراسان لي"، وعزم على عدم تنفيذ الأمر والعودة إلى خراسان.
قرر أبو جعفر استعمال الدهاء مع أبي مسلم، وبدأت بينهما حرب مراسلات، حتى أرسل أبو جعفر إليه جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجلي، في جماعة من الأمراء، وأمره أن يكلم أبا مسلم بألين ما يكلم به أحداً، وأن يمنِّيه، فإن أبى يقول له: "هو بريء من العباس إن شققت العصا، وذهبت على وجهك ليدركنك بنفسه وليقاتلنك دون غيره، ولو خضت البحر الخضم لخاضه خلفك، حتى يدركك فيقتلك أو يموت قبل ذلك".
وبالفعل قابل الوفد أبا مسلم فيأبى أن يطيع، أو أن يأتي لمقابلة أبي جعفر، فيبلغاه الرسالة الأخيرة، وجعلت هذه الكلمات الجبار أبا مسلم يخنع ويجبن، ويزداد تردداً وحيرة.
كما كتب أبو جعفر إلى خليفته أبي مسلم على جند خراسان يعطيه إمارة خراسان ما عاش.. كل هذه الضغوط جعلت أبا مسلم يقرر الذهاب لمقابلة أبي جعفر المنصور الذي تمادى في المكر فأعطاه الأمان، وأظهر له عند دخوله المدائن الاحترام والتقدير ومراسم الاستقبال، ولكنه كان عازماً على قتل أبي مسلم غدراً، وبالفعل قتله وهو يكلمه آمنًا على يد بعض حراسه.
وروى البيهقي عن الحاكم بسنده أن عبد الله بن المبارك سئل عن أبي مسلم أهو خير أم الحجاج؟، فقال: لا أقول إن أبا مسلم كان خيراً من أحد، ولكن كان الحجاج شرّاً منه، قد اتهمه بعضهم على الإسلام، ورموه بالزندقة، ولم أر فيما ذكروه عن أبي مسلم ما يدل على ذلك، بل على أنه كان ممن يخاف الله من ذنوبه، وقد ادعى التوبة فيما كان منه من سفك الدماء في إقامة الدولة العباسية، والله أعلم بأمره.
أما محمد بن عبد الله بن الحسن بن زيد فيقال إن بني هاشم انتخبوه للخلافة وبايعوه بها في أواخر عهد بني أمية، وكذلك بايعه أبو جعفر المنصور، فلما جاءت الدولة العباسية لم يف أبو جعفر ببيعته له؛ ولذلك لم يبايع محمد لأبي العباس ولا لأبي جعفر.. واستخفى في زمن أبي جعفر، وظل أبو جعفر يجري تحرياته عن محمد، فلما لم يعثر عليه اعتقل المنصور أباه وصادر أمواله.
ولا يزال المنصور يبحث عنه وأنفق كثيراً من المال في هذه السبيل فلم يصل إلى شيء.. فاعتقل بني الحسن كلهم فلما علم محمد بذلك قال لأمه هند: "إني قد حملت أبي وعمومتي ما لا طاقة لهم به، ولقد هممت أن أضع يدي في أيديهم فعسى أن يخلي عنهم". فتنكرت هند ثم جاءت السجن كهيئة الرسول فأذن لها، فلما رآها عبد الله أبو محمد عرفها فنهض إليها فأخبرته بما قال محمد فقال: "كلا بل نصبر، فو الله إني لأرجو أن يفتح الله به خيراً، قولي له فليدع إلى أمره وليجِدَّ فيه فإن فرجنا بيد الله"، فانصرفت، واستمر محمد على اختفائه.
فاستعمل معهم المنصور أشد أنواع العذاب ونقلهم إلى سجن بالعراق، ومات أكثرهم في الحبس.
نتيجة هذه الفظائع قرر محمد الظهور بالمدينة، وكان ذلك أول يوم من رجب سنة 145هـ، أعانه أهل المدينة وصعد منبر الحرم وخطب فيهم.
ويرجح البعض أن من مكر أبي جعفر أنه كتب إلى محمد على ألسنة قواده يدعونه إلى الظهور ويخبرونه أنهم معه؛ مما جعل محمد يتوهم أن أغلب الأمصار معه، كما أن الحسن كان قد اتفق مع أخيه إبراهيم أن يظهر في نفس اليوم بالبصرة ليعظم ذلك على أبي جعفر ولكن أخاه مرض ولم يخرج.
كما أنه حصر نفسه بالمدينة وهي ليست بمركز حربي يمكن للقائد أن يبقى فيه للدفاع طويلاً فحياة المدينة من خارجها، فلا تحتمل الحصار إلا قليلاً.. وقد كان، فحوصرت المدينة ودبّر أبو جعفر أمره تدبيراً محكماً.
وتكررت تجربة ابن الزبير، فقد انتقض الناس من حول محمد الذي قتل بعد أن أظهر شجاعة فائقة، وذلك في رمضان سنة 145هـ.
وبمقتل محمد استتب الأمر لأبي جعفر وتوطدت أركان الدولة الناشئة، فلم يعد هناك في الأفق مخاطر داخلية.
وشرع المنصور في بناء بغداد كمقر للخلافة العباسية، وأتم بناءها سنة 146هـ.
قال الخطيب البغدادي: لم يكن لبغداد في الدنيا نظير في جلالة قدرها وفخامة أمرها وكثرة علمائها وأعلامها، وحشر إليها المنصور العلماء من كل بلد وإقليم، حتى صارت أم الدنيا وسيدة البلاد ومهد الحضارة الإسلامية في عهد الدولة العباسية، وأربى سكانها على مليونين.
من صفات المنصور القيادية والأخلاقية
كان المنصور أعظم رجل من آل العباس شدة وبأساً ويقظة وثباتاً، كان شغله في صدر النهار بالأمر والنهي، والولايات، والعزل، وشحن الثغور، وأمن السبل والنظر في الخراج، والنفقات، ومصلحة معاش الرعية.
وكان المنصور في شبابه يطلب العلم من مظانه والحديث والفقه، فنال جانبا جيدًا وطرفًا صالحًا، وقد قيل له يومًا: يا أمير المؤمنين، هل بقي شيء من اللذات لم تنله؟، قال: شيء واحد. قالوا: وما هو؟، قال: قول المحدث للشيخ: من ذكرت رحمك الله.
فاجتمع وزراؤه وكتابه وجلسوا حوله وقالوا: ليُملِ علينا أمير المؤمنين شيئًا من الحديث. فقال: لستم بهم، إنما هم الدنسة ثيابهم، المشققة أرجلهم، الطويلة شعورهم، رواد الآفاق وقطَّاع المسافات، تارة بالعراق وتارة بالحجاز، وتارة بالشام، وتارة باليمن، فهؤلاء نقلة الحديث.
وقد ذكروا في مآثره وحلمه وعفوه وحسن تدبيره وتعهده ابنه المهدي وإعداده للخلافة مآثر طيبة، ولكن يؤخذ عليه غدره بأبي مسلم الخراساني وعمه عبد الله بن علي بعد أن أعطى كل واحدٍ منهما الأمان.
عن مالك بن أنس قال: بعث أبو جعفر المنصور إلى ابن طاووس، فأتيناه فدخلنا عليه، فإذا به جالس على فرش قد نضدت، وبين يديه أنطاع قد بسطت، وجلاوزة (جمع جلواز وهو الشرطي) بأيديهم السيوف يضربون الأعناق، فأومأ إلينا أن اجلسا، فجلسنا، فأطرق عنا قليلاً ثم رفع رأسه والتفت إلى ابن طاووس فقال له حدثني عن أبيك، قال: نعم، سمعت أبي يقول: قال: رسول الله: "إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه، فأدخل عليه الجور في عدله".
قال مالك: فضممت ثيابي من ثيابه مخافة أن يملأني من دمه، ثم التفت إليه أبو جعفر فقال عظني. قال: نعم، إن الله يقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد} [الفجر: 6-14]. قال مالك: فضممت ثيابي مخافة أن يملأها من دمه، فأمسك ساعة حتى اسودَّ ما بيننا وبينه.
ثم قال: يا ابن طاووس، ناولني هذه الدواة، فأمسك عنه. ثم قال: ناولني هذه الدواة، فأمسك عنه. فقال: ما يمنعك أن تناولنيها؟، قال: أخشى أن تكتب بها معصية لله فأكون شريكك فيها. فلما سمع ذلك قال: قوما عني. فقال ابن طاووس: ذلك ما كنا نبغي، قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاووس فضله.
الفتوحاتفي عهده
لم تكن هناك فتوحات حاسمة في عهده، بل هي غزوات متكررة، بل ربما تجرأ الروم على المسلمين لانشغالهم بالصراعات الداخلية فهجموا على بعض الثغور، ودخل مَلِكُهم قسطنطين ملاطية عنوة وهدم سورها وتقدم في بلاد المسلمين.
ولكن لما انتبه المنصور وانتهت إلى حد كبير الصراعات الداخلية، عاد الغزو من جديد واستعاد المسلمون سيطرتهم من ناحية بلاد الروم. كما بعث أبو جعفر ابنه المهدي لغزو طبرستان سنة 141هـ.
وفي سنة 151هـ شرع أبو جعفر في بناء الرصافة لابنه المهدي، بعد مقدمه من خراسان، وهي في الجانب الشرقي من بغداد، وجعل لها سورًا وخندقًا، وفيها جدَّد المنصور البيعة لنفسه، ثم لولده المهدي من بعده ثم لعيسى بن موسى من بعدهما.

موت أبي جعفر
مات أبو جعفر سنة 158هـ في طريقه إلى الحج، ودفن بمكة، وقد كتم الربيع الحاجب موته حتى أخذ البيعة للمهدي من قادة بني هاشم ثم دفن.. وروي أن آخر ما تكلم به المنصور أن قال: "اللهم بارك لي في لقائك".
خلافة محمدالمهدي
تولى الخلافة من ذي الحجة 158هـ حتى محرم 169هـ، وعمره 32 سنة.
كانت خلافته مرفهة عن الناس؛ فأمر بإطلاق من كان في سجن المنصور من المعارضين، وكان يجلس للمظالم بنفسه فسارت الأمور في عهده طبيعية مع توسع في العمران.. ومن آثاره زيادته في المسجد الحرام فأدخل فيه دوراً كثيرة مما يحيط به وأمر بمحو اسم الوليد بن عبد الملك من حائط المسجد النبوي وكتابة اسمه.
من الفتوحات في عهده
في سنة 163هـ بعث ابنه هارون الرشيد على رأس قوة من بلاد خراسان ومعه خالد بن برمك، ونال من الأعداء نيلاً عظيماً، وأصبح بعد ذلك والياً على الشطر الغربي من المملكة الإسلامية.
ولم تحدث في عهده فتوح واسعة ولم تُضَم مدن كبيرة إلى بلاد الإسلام، إلا أن الانتصارات كانت كبيرة والغنائم كثيرة.
وفي سنة 165هـ جهز المهدي ولده الرشيد لغزو بلاد الروم، وأنفذ معه من الجيوش عدداً كبيراً فلما عاد سنة 166هـ من بلاد الروم دخل الرشيد بغداد في أبهة عظيمة، ومعه الروم يحملون الجزية من الذهب وغيره.
وفي سنة 167هـ وجَّه المهدي ابنه موسى الهادي إلى جرجان في جيش كثيف لم يُرَ مثله.
من أخلاقه وصفاته القيادية
ذكروا أنه هاجت ريح شديدة فدخل المهدي بيتاً في دار فألصق خده بالتراب وقال: "اللهم إن كنت أنا المطلوب بهذه العقوبة دون الناس فها أنا ذا بين يديك، اللهم لا تشمت بي الأعداء من أهل الأديان"، فلم يزل كذلك حتى انجلت.
ودخل عليه رجل يوماً ومعه نعل فقال: هذه نعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أهديتها لك، فقال: هاتها فناوله إياها، فقّبلها ووضعها على عينيه وأمر له بعشرة آلاف درهم، فلما انصرف، قال المهدي: والله إني لأعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ير هذا النعل فضلاً عن أن يلبسها، ولكن لو رددته لذهب يقول للناس: أهديت إليه نعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فردَّها علي، فتُصدقه الناس؛ لأن العامة تميل إلى أمثالها، ومن شأنهم نصر الضعيف على القوي وإن كان ظالماً، فاشترينا لسانه بعشرة آلاف درهم، ورأينا هذا أرجح وأصلح..وكان يتتبع الزنادقة، ويعاقبهم بالقتل.
وللمهدي مآثر ومحاسن كثيرة يقصر المقام عن ذكرها، وتوفي - رحمه الله- وكان قد استخلف من بعده ابنه موسى الهادي.
خلافة موسى الهادي
تولى الحكم من محرم 169هـ حتى من ربيع 170هـ، وعمره 25 سنة، وكان يسير على هدي أبيه في محاربة الزنادقة.
وقعة (فخ)
وقامت في عهده محاولة للخروج عليه من قبل الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وكان بالمدينة، ولكنه قُتِل على يد جيش الهادي بعد تسعة أشهر وثمانية عشر يوماً وسميت هذه المعركة معركة (فخ).
وأفلت من هذه المعركة إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، واتجه إلى مصر ومنها انطلق إلى المغرب حيث أسَّس دولة الأدارسة التي سيأتي ذكرها.
من مآثره وصفاته القيادية
كان موسى الهادي شديد الغيرة على حرمه، وقد نهى أمه الخيزران أن يدخل عليها أحد من القواد أو رؤساء حكومته بعد أن كان لها نفوذ في عهد المهدي؛ ولذا يقولون إنها سمته لعزلها عن أمر الملك؛ ولأنه ضيَّق على الرشيد (الخليفة من بعده)؛ لأنه أراد أن يعدل عن استخلافه إلى استخلاف ابنه جعفر، وفعل النمّامون وأصحاب النفوس الدنيئة فعلتهم في الإيقاع بينه وبين أخيه الرشيد.
وكان الهادي شهماً خبيراً بالملك كريماً.
وكان من كلامه: ما أصلح الملك بمثل تعجيل العقوبة للجاني، والعفو عن الزلات؛ ليقل الطمع عن الملك.
كان الهادي يرى أن الناس إنما يصلحهم عدم احتجاب خليفتهم عنهم، بل معايشتهم ومعايشة مشكلاتهم فكان يأمر حاجبه الفضل بن الربيع قائلاً: "لا تحجب عني الناس؛ فإن ذلك يزيل عني البركة". وكان قوي البأس، يثب على الدابة وعليه درعان.
توفي الهادي في ربيع أول سنة 170هـ، وصلى عليه أخوه هارون.
خلافة هارون الرشيد
تولى هارون الرشيد الحكم من ربيع الأول 170هـ حتى جمادى الآخرة 194هـ، وعمره 25 سنة.
من مناقبهالقيادية
- كان هارون كثير الصلاة.
- حج تسع مرات خلال فترة حكمه سنة 170هـ، 173هـ، 174هـ، 175هـ، 177هـ، 180هـ، 181هـ، 186هـ، 188هـ.
- وكان إذا حج يحج معه من الفقهاء وأبنائهم جمع كبير، وإذا لم يحج يحج عنه ثلاثمائة رجل بالنفقة السابغة والكسوة الباهرة.
- ومما اشتهر عنه أنه كان يحج عاماً ويغزو عاماً.
قال الطبري: غزا سبع مرات، وجهز عشرين حملة للجهاد في البر والبحر.
وفضائل الرشيد ومكارمه كثيرة جدّاً، وقد كان الفضيل بن عياض يقول: ليس موت أحد أعز علينا من موت الرشيد، لما أتخوف بعده من الحوادث، وإني لأدعو الله أن يزيد في عمره من عمري.
قالوا: فلما مات الرشيد وظهرت تلك الفتن والحوادث والاختلافات وظهر القول بخلق القرآن، فعرفنا ما كان تخوفه الفضيل من ذلك.
محنة البرامكة
لما جاءت الدعوة العباسية إلى خراسان، كان خالد بن برمك من أكبر دعاتها، فاستوزره أبو العباس السفاح، فما زال خالد بن برمك يتقلب في المناصب بحسن السيرة، وكان ممدوح الولاية حتى مات سنة 163هـ.
وكان ابنه يحيى بن خالد بن برمك من أرفع الناس أدباً وفضلاً ونبلاً، تولى المناصب منذ عام 158هـ، وكان محبوباً وهو الذي ربى هارون الرشيد، الذي بدوره كان لا يناديه إلا بـ (يا أبي)، ويحيى هو الذي مكّن هارون من الخلافة على غير رغبة الهادي.
فلما تولى الرشيد الخلافة أمّر يحيى وزارته فكانت وزارة تفويض وقال له: "قلدتك أمر الرعية وأخرجته من حقي إليك، فاحكم في ذلك بما ترى من الصواب، واستعمل من رأيت، وأعزل من رأيت".
في سنة 184هـ بايع الرشيد لابنه عبد الله المأمون بولاية العهد بعد أخيه محمد الأمين وضمه إلى جعفر بن يحيى.
لقد كانت هذه الأسرة مقربة إلى الرشيد، تساعده في القيام بمهام الدولة خير قيام..وسماهم المؤرخون (زهرة الدولة العباسية كلها).. قادوا الجيوش، وسدوا الثغور، ودافعوا عن حياض الدولة.
ولكن لماذا أوقع بهم الرشيد، وما الذي غير قلبه عليهم؟.
بحسب موقع (قصة الإسلام) فإن أرجح ما قيل في ذلك ما ذكره بعض المؤرخين أن سبب ذلك قيام جعفر بن يحيى بتهريب يحي بن عبد الله بن الحسن (أخو إدريس) من سجن الرشيد سرّاً؛ لأنه تعاطف معه لأنه من نسل آل البيت.
وقد اتهم البرامكة بالتشيع من قبل بعض المؤرخين، وبلغ الخبر الفضل بن الربيع من عين كانت له، حيث كان يتحين فرصة يؤلب بها الرشيد على البرامكة، فأخبر الرشيد، فقال له الرشيد: "ما لك وهذا لا أم لك، فلعل ذلك عن أمري". فانكسر الفضل، فلما جاء جعفر (حبيب الرشيد) دعا بالغداء فأكلا وتحادثا إلى أن كان آخر ما دار بينهما أن قال الرشيد: ما فعل يحيى بن عبد الله؟،
قال جعفر: بحاله يا أمير المؤمنين في الحبس والأكبال. قال الرشيد: بحياتي؟. فأحجم جعفر وهجس في نفسه أنه قد علم بشيء من أمره. فقال: لا وحياتك يا سيدي، ولكن أطلقته وعلمت أنه لا حياة به ولا مكروه عنده. فقال الرشيد: "نعمّا فعلت ما عدوت ما كان في نفسي".
فلما خرج اتبعه بصره ثم قال: "قتلني الله بسيف الهدى على عمل الضلالة إن لم أقتلك". فكان من أمره ما كان.
كانت هذه الحادثة سبباً للوشاية بالبرامكة في أخص صفات الوزراء وهي الإخلاص لملوكهم، وذلك طعن مؤثر، ووقر في نفس الرشيد شيء من ذلك أن البرامكة يؤثرون مصلحة العلويين على مصلحته، وهذه التهمة أشد من تهمة الزندقة عند المهدي. وانفرط عقد الثقة بين الخليفة الرشيد والبرامكة وهم أحباؤه وخلصاؤه، فتحمست أمامه عيوبهم وجعلته يستريب فيهم لأدنى شبهة.
حتى كانت سنة 187هـ وفيها كان مهلك البرامكة على يدي الرشيد: قتل جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي بطريقة بشعة، ودمر ديارهم وذهب صغارهم وكبارهم.
ويبدو أن الرشيد قد ندم بعدها؛ فقد كان يقول: "لعن الله من أغراني بالبرامكة، فما وجدت بعدهم لذة ولا رجاء، وددت والله أني شطرت نصف عمري وملكي، وأني تركتهم على حالهم".
عزة القائد المسلم
وفي عهده حكم الروم نقفور، وقد بعث نقفور برسالة إلى الرشيد:
"من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد: فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مكان البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقيّاً بحمل أمثاله إليها، لكن ذلك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد إلي ما حملته إليك من الأموال، وافتد نفسك بما يقع به المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك".
فلما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب، فكتب على ظهر الكتاب الذي جاءه:
"بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه".
فاجتاحت جيوش المسلمين بلاد الروم فاضطر نقفور إلى المسالمة على خراج يؤديه، فمكث نقفور يؤدي جزية قدرها 300 ألف دينار سنويّاً إلى بيت مال المسلمين.
وعلى الجملة كانت قوة المسلمين في عهد الرشيد ظاهرة ظهوراً بيناً على الروم؛ لأن الرشيد كان يغزو ومعه عظماء القواد.
شُبه حول الخلفاء العباسيين
اتهم خلفاء الدولة العباسية وخاصة الرشيد بشرب النبيذ، وبمجالس الغناء والطرب والجواري.
والرد على ذلك يكون من جوانب: ذكر المؤرخين أن هارون الرشيد كان يشرب نبيذ التمر. بل وذكروا أن أبا حنيفة كذلك كان يفعل، وفي مذهب الإمام أبي حنيفة المعمول به في العراق أيام الرشيد أنه يحل شرب عصير التمر في حالتين:
الحالة الأولى: إذا نقع أو طبخ طبخاً وشرب منه قبل أن يغلي ويشتد عصير التمر، فهو في هذه الحالة حلال بإجماع العلماء.
الحالة الثانية: إذا طبخ طبخاً حتى غلا واشتد وشرب منه مقدار قليل يغلب على ظن الشارب أنه لا يسكره، وكان شربه له لغرض التقوِّي لا بقصد اللهو والطرب.
وهنا خلاف بين العلماء من مذهب أبي حنيفة. فإذا شرب من هذا العصير المطبوخ مقداراً كبيراً يسكر عادة فإنه يكون حراماً بإجماع فقهاء المذهب وهذا كله في حالة الطبخ. أما إذا نقع وترك حتى غلا واشتد فإنه يكون حراماً على الإطلاق بإجماعهم.
يقول ابن خلدون: من ذلك ما يحكى من معاقرة الرشيد الخمر، اقتران سكره بالندمان، فحاشا لله ما علمنا عليه من سوء، وأن هذا حال الرشيد، وقيامه بما يجب لمنصب الخلافة من الدين والعدالة، وما كان عليه من صحبة العلماء والأولياء، ومحاورته الفضيل بن عياض وابن السماك ومكاتبته سفيان الثوري، وبكائه من مواعظهم ودعائه بمكة في طوافه.. وعبادته وتنفله.
إلى أن قال: وإنما كان الرشيد يشرب نبيذ التمر على مذهب أهل العراق، وفتاواهم فيها معروفة أما الخمر الصرف فلا سبيل إلى اتهامه بها.
أما ما شاع من انتشار الخمر في عصره فإن واقع هذه الدولة وهذا العصر يكذبه، وخاصة إذا علمنا أن حاشية الرشيد كان على رأسها الأئمة الثقات أمثال: مالك بن أنس، أبو يوسف، الشافعي، الفضيل بن عياض، عبد الله بن المبارك، وغيرهم. فهل هؤلاء كانوا يسكتون إذا وجدت الخمر بهذه الصورة التي يذكرها المبطلون؟، أضف إلى ذلك أن هناك أنواعاً كثيرة من المشروبات كانت منتشرة في هذا العصر، وكلها يطلق عليها الشراب مثل: الماء، اللبن، الشربات، وهذه كانت تصنع من الماء المحلى بالسكر وتعطر بخلاصة البنفسج أو الموز أو الورد أو التوت ويطلق عليها الشراب.
أما مجالس الغناء والطرب والجواري
فالسؤال: كيف كان هذا الغناء في العهد العباسي؟. يقول صاحب كتاب النجوم الزاهرة عن أشهر المغنين في عهد الرشيد:
"وفي عام 174هـ من الهجرة توفي منصور مولى عيسى بن جعفر بن منصور، وكان منصور هذا يلقب بزلزل، وكان مغنياً يُضرب بغنائه المثل، وكان الغناء يوم ذلك غير الموسيقى الآن وإنما كانت زخمات عددية وأصوات مركبة في أنغام معروفة، وهو نوع من إنشاد زماننا على الضروب لإنشاد المداح والمواعظ".
وهذه نماذج من الشعر الغنائي الذي كان موجوداً في ذلك العصر:
نراع بذكر الموت ساعـة ذكره *** ونفتــــر بالدنيا فنلهــو ونلعـب
ونحن بنو الدنيـا خلقنـا لغيرها *** وما كنت فيه فهو شيء محبب
وقولهم:
المـرء في تأخيـر مدتـه *** كالثوب يبلـى بعد جدته
عجباً لمنتبـه يضيـع مـا *** يحتـاج فيه ليوم رقدتـه
خلافة محمد الأمين بن هارون الرشيد
تولى محمد الأمين الحكم من جمادى الآخرة 194هـ حتى من محرم 198هـ، وعمره 23 عاماً، وعهده كان قاصراً على حادثة شنيعة فرقت الأمة، وذلك ما كان بينه وبين أخيه المأمون.
وسبب هذه الأحداث أن هارون الرشيد ولّى عهده أولاً محمد الأمين، والمأمون أسن منه، ولم يكن ما يزيد الأمين إلا أنه ابن زبيدة (زوجة الرشيد عالية النسب والحبيبة إلى قلبه).
أراد الرشيد بعد ذلك معالجة هذه الغلطة ففعل ما يزيدها شراً بتولية المأمون العهد بعد الأمين، ولم يقتصر على مجرد تولية العهد بل أعطاه من الامتيازات ما يجعله مستقلاًّ تمام الاستقلال بمنطقة خراسان والري عن أخيه الأمين.. فأصبح لكل من الأمين والمأمون جيشاً يتصرف فيه، ولم يقتصر الرشيد على ذلك بل أعطى أخاً لهم ثالثاً امتيازات أخرى وهي الجزيرة وأرمينية؛ فأحس الأمين كأنه مقصوص الجناحين منزوعاً من سلطان أعظم بقاع الإسلام وأكثرها أعوانًا وجنداً.
وزاد الأمر اشتعالاً وجود الفضل بن الربيع الذي جرّأ الرشيد على إفساد ملكه وقتل البرامكة. فكان في فئة الأمين وهو الذي أغراه بأخيه المأمون ولم يكن الأمين ينوي قتاله إنما فعل الفضل ذلك خوفاً على مصالحه.
لقد وصل الخلاف بين الأخوين إلى الاقتتال، والحقيقة لم يكن للأمين حسن تدبير بل كان مشغولاً باللهو والعبث، وكان عنده ثقة أنه سيقهر أخاه، بينما كان المأمون مشغولاً بتدبير أمره يجمع إلى مجلسه العلماء والفقهاء ويجلس معهم، حتى أُشرِبت قلوبُهم محبته، وباختصار فقد انتهى الأمر بمقتل الأمين على يد أحد قواد المأمون وبايع الناس المأمون.
خلافة المأمونبن هارون الرشيد
لقد تم الأمر للمأمون من محرم 198هـ حتى رجب 218هـ بالعراق على يد قائدين مخلصين عظيمين هما: طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين.
وفي صفر سنة 204هـ دخل المأمون مدينة بغداد وقد فرَّ عمه واختبأ؛ خوفًا منه ولكنه عفا عنه، ونستطيع القول إن الملك الحقيقي للمأمون بدأ منذ عودته إلى بغداد.. فقد تجلت مزاياه العالية وأخلاقه، وساس الناس سياسة لين لا يشوبه ضعف، وقوة لا يشوبها عنف، وأخذت بغداد تستعيد نضرتها التي كانت لها في عهد أبيه وعظمت بها الحركة العلمية.
فقد نشأ علم الكلام في زمنه وترعرع، وعلم الكلام علم يبحث في أصول الدين والعقائد ويعتمد على العقل، وظهرت المعتزلة وشيخهم إبراهيم بن سيار (النظام).
ونتيجة لذلك ظهر خلاف بين أهل السنة والجماعة الذين يعتمدون في علوم العقائد على النقل، وبين المعتزلة الذين يقدمون العقل على النقل ومنها المسألة المشهورة: هل القرآن كلام الله القديم أم هو مخلوق؟.
وهي مسألة على بساطتها لكنها سبب في ابتلاء كثير من العلماء على يد المأمون، ومن بعده على يد المعتصم، لاعتناقهما المذهب الذي يقول: إن القرآن مخلوق خلافًا لأهل السنة والجماعة.
خلافة المعتصم بالله
تولى المعتصم بالله الخلافة من رجب 218 هـ حتى ربيع الأول 227هـ، وعمره تسعة وثلاثون عاماً، وتمت البيعة للمعتصم ببلاد الروم فعاد بالجند إلى بغداد.
صفات المعتصم بالله
كان المعتصم ذا شجاعة وقوة وهمة يحب الشجعان، قوته خارقة هائلة يحمل أرطالاً تعجز عنها الرجال ويمشي خطوات، ويثني الحديد مرات بعد عجز الأبطال عنه، يقول وزيره أحمد بن أبي دؤاد: كان المعتصم يخرج ساعده إلى ويقول: يا أبا عبد الله عض ساعدي بأكثر قوتك، فأقول: والله يا أمير المؤمنين ما تطيب نفسي بذلك.
فيقول: إنه لا يضرني، فأروم ذلك، فإذا هو لا تعمل فيه الأسنة فضلاً عن الأسنان. وكان مع ذلك شفوقًا غير أنه إذا غضب لا يبالي من قتل.
وكان يقول عن نفسه: قد علمت أني دون إخوتي في الأدب، لحب أمير المؤمنين لي، وميلي إلى اللعب وأنا حدث، فلم أنل ما نالوا. وسبب ذلك أنه كان مع المعتصم غلام في الكُتاَّب يتعلم معه، فمات الغلام، فقال له الرشيد: يا محمد مات غلامك. فقال: نعم يا سيدي واستراح من الكُتاَّب.
قال الرشيد: وإن الكُتَّاب ليبلغ منك هذا المبلغ؟! دعوه حيث انتهى لا تعلموه شيئًا؛ ولذلك ورد أنه (كان يكتب كتابة ضعيفة ويقرأ قراءة ضعيفة).
وصية المأمون للمعتصم
وكانت وصية المأمون للمعتصم: "احمل الناس على القول بخلق القرآن، والخرمية فاغزهم بقوة وحزم وجلد، واحشد لهم الأموال والسلاح والجنود من الفرسان والرجالة، فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك، واعمل في ذلك عمل مقدم النية فيه، راجياً ثواب الله عليه"؛ لذلك انصبت جهود المعتصم، وأموال الخلافة على القضاء على حركة بابك.
جهاده ضد الخرمية
كان بابك من أبطال زمانه وشجعانهم، عاث في البلاد وأفسد وأخاف الإسلام وأهله وغلب على أذربيجان وغيرها وأراد أن يقيم ملة المجوس، وادعى الألوهية وأراد تحويل المُلك من العرب المسلمين إلى الفرس، فأثار ومن تبعه حربًا شعواء على الإسلام والعرب.
فأرسل المعتصم الأفشين أعظم قواده حينئذ لمقاتلة بابك والقضاء عليه.. بيد أن الأمر قد طال رغم أن المعتصم أنفق على هذه الحرب الكثير، وأقام المعتصم البريد على مسافات قريبة ليأتيه خبر المعركة كل يوم وكان جميع من قَتَل بابك في عشرين سنة 250000 إنسان. وكانت نهايته في هذه المعركة.
خلافة الواثق بالله أبي جعفر هارون بن المعتصم بالله
تولى الواثق بالله الخلافة من ربيع أول 227هـ حتى ذي الحجة 232هـ، وعمره إحدى وأربعون سنة، وتوطدت أقدام القواد الأتراك الذين اصطنعهم المعتصم وصاروا أصحاب نفوذ عظيم، ولاسيما أشناس الذي توَّجَه الواثق وألبسه وشاحين بالجوهر في رمضان سنة 228هـ.
بل وقام قواد الأتراك لأول مرة بأعظم الأعمال الحربية في جزيرة العرب نفسها وذلك للقضاء على فتنة قامت سنة 230هـ حيث خرجت بنو سُليم حول المدينة فعاثوا في الأرض فسادًا، وقاد هذه الحملة بغا الكبير أبو موسى التركي.
وفتنة أخرى قامت سنة 232هـ حيث قامت قبيلة بني نمير باليمامة بالإفساد في الأرض، واستطاع أيضًا بغا الكبير أن يقضي على فتنتهم.
وكان الواثق قد سيطر عليه الفكر المعتزلي وتعصب له، وكان يدعو إلى القول بخلق القرآن ليلاً ونهارًا، وفي عهده ارتكب جرمًا شنيعاً إذ قُتِل أحمد بن نصر بن مالك الذي كان من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير، وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وممن يخالف رأي الخليفة في القول في القرآن، وأبوه هو نصر بن مالك الذي بايعته العامة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند غلبة الفساد ببغداد سنة 201هـ.
خلافة المتوكل على الله ابن المعتصم
(من ذي الحجة 232هـ حتى قتل في شوال 247هـ)
عرف المتوكل دون سائر أهل بيته بكراهية على بن أبي طالب وأهل بيته، وهذا ما يعرف في العقائد بالنصب، وهو ضد التشيع، وهو الذي أمر بهدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب سنة 236هـ وما حوله من المنازل والدور، ونودي في الناس من وجد هنا بعد ثلاثة أيام ذهبت به إلى المطبق فلم يبق هناك بشر، واتخذ ذلك الموضع مزرعة تحرث وتستغل.
ومع ذلك كتب المتوكل في الآفاق بالمنع عن الكلام في مسائل الكلام والكف عن القول بخلق القرآن، وأنه من تكلم بها فمأواه المطبق، وأمر الناس ألاَّ يشتغل أحد إلا بالكتاب والسنة لا غير، وأكرم الإمام أحمد بن حنبل، وكان لا يولي إلا بعد مشورته، وكانت ولاية يحيى بن أكثم قضاء القضاة مكان ابن أبي دؤاد عن مشورته، وقد كان يحيى بن أكثم من أئمة السنة.
قال ابن كثير: "وكان المتوكل محبباً إلى رعيته، قائماً في نصرة أهل السنة، وقد أظهر السنة بعد البدعة فرحمه الله".
لكن البعض يرى أن عهود ضعف الدولة العباسية بدأت مع استلام المتوكل للسلطة؛ حيث بلغت الدولة، أوج اتساعها، وبدت على الخريطة، كطائر ذي جسم صغير، وهو العراق والشام، وجناحين كبيرين، ويمثل الجناح الشرقي، بلاد فارس، والجناح الغربي مصر والشمال الإفريقي، قلب ذو كثافة سكانية منخفضة، مقارنة بجناحين، ثقيلين عريضين، في عصر تشكل القوة البشرية والموارد عناصر حاسمة في صراعات القوة، وأي مرض سيطرأ على عقل الطائر أو جسمه سينعكس على الأجنحة، وسيختل ذلك التوازن الصعب، الذي سبب معضلة الدولة العباسية. وذلك ما حدث فمع ضعف قلب الدولة، بدأ تفكك الأطراف فالجناح الغربي وبالتحديد في مصر، سيبدأ أول عملية انفصالية على يد السري بن الحكم 815م لتظهر في الجناح الشرقي المقابل وبالتحديد في خراسان الدولة الظاهرية
سنة 819م.
ويقول الدكتور جاسم سلطان: لو تابعت التواريخ اللاحقة لقيام الدول ستجد عملية التناوب على التفكيك من الأجنحة، ثم الاتجاه للسيطرة على القلب والجسد الضعيف.
عبرة وعظة
دخل عبد العزيز بن يحيى الكتاني أحد المقربين إلى المتوكل عليه فقال: "يا أمير المؤمنين، ما رأيت أعجب من الواثق، قتل أحمد بن نصر الخزاعي وكان لسانه يقرأ القرآن إلى أن دفن".
فوجل المتوكل من كلامه، وساءه ما سمع في أخيه الواثق، فلما دخل عليه الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات قال له المتوكل: "في قلبي شيء من قتل أحمد بن نصر". فقال: "يا أمير المؤمنين، أحرقني الله بالنار إنْ قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافراً". ودخل على المتوكل هرثمة فكلمه المتوكل في ذلك، فقال: "قطعني الله إرباً إرباً إن قتله إلا كافراً".
ودخل عليه القاضي أحمد بن أبي دؤاد فقال له مثل ذلك، فقال: "ضربني الله بالفالج إن قتله الواثق إلا كافراً".
قال المتوكل: "فأما ابن الزيات فأنا أحرقته بالنار، وأما هرثمة فإنه هرب فاجتاز بقبيلة خزاعة، فعرفه رجل من الحي فقال: يا معشر خزاعة، هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر، فقطعوه. فقطعوه إرباً إرباً. وأما ابن أبي دؤاد فقد سجنه الله في جلده - يعني بالفالج - ضربه الله له قبل موته بأربع سنين".
وفي عهد المتوكل قامت الدولة اليعفرية بصنعاء: ومؤسسها هو يعفر بن عبد الرحيم، واستمرت من سنة 247 إلى سنة 387هـ، ومدتها 140 سنة.
نحو السقوط

خلافة محمد المنتصر
(من شوال 247هـ حتى ربيع الآخر 248هـ)
زادت قوة الأتراك في الدولة العباسية؛ لأن أيديهم امتدت إلى حياة الخلفاء فقتلوا الخليفة وساقوا الخلافة إلى خليفة، فأنشبوا أظفارهم بذلك في جسم الدولة، وكانوا لا يحبون ولاية العهد للمعتز والمؤيد ابني المتوكل، فلم يزالوا بالمنتصر حتى أجبر أخويه على أن يكتبا طالبين أن يخلعا من ولاية العهد.
وبذلك وصل عجز الخليفة مداه تحت ضغط عسكر الأتراك، ويبدو أنه ندم على قتل أبيه فإنه لا يزال يؤنب نفسه في يقظته ومنامه، ويبكي ليلاً ونهاراً ندماً على فعلته، وهمَّ بالانتقام من قتلة أبيه ولكنه لم يستطع، ووافته المنية في 5 من ربيع آخر سنة 248هـ.
خلافة المستعين بالله
اختير من ربيع الآخر 248هـ حتى محرم 252هـ، بمعرفة قادة الأتراك (بغا الصغير وبغا الكبير وأتامش)، فلم يولوا أحداً من أبناء المتوكل لئلا يغتالهم بدم أبيه، فكان أول خليفة من بني العباس لم يكن أبوه خليفة، بعد مؤسسي الدولة السفاح والمنصور، وأول خليفة تولى بعد ابن عمه.
ضعف نفوذ الخليفة وتحكم الموالي من الأتراك، فهم يعينون الوزير فإذا غضبوا عليه عزلوه وصادروا أمواله.
ثم تولى أتامش أحد قواد الأتراك الوزارة، وأصبح صاحب السلطان التام فحسده أصحابه من الأتراك، وصيف وبغا، فألبوا العسكر عليه فقتل أتامش وانتهبت داره.
واستوزر الخليفة بعده أبا صالح عبد الله بن محمد، وولَّى بغا الصغير فلسطين وولَّى وصيفًا الأهواز، وفي سنة 251هـ اجتمع رأي المستعين وبغا الصغير ووصيف على قتل باغر التركي، وكان من قواد الأمراء الكبار الذين باشروا قتل المتوكل، وقد اتسع إقطاعه وكثرت عماله، فقتل ونهبت أمواله.
وفي سنة 251هـ وقعت فتنة عظيمة بين جند بغداد وجند سامراء، ودعا أهل سامراء إلى بيعة المعتز، وكان مسجوناً فأُخرِج، واستقر أمر أهل بغداد على بيعة المستعين، فصارت بغداد في جانب المستعين وسامراء في جانب المعتز، وأمر المستعين محمد بن عبد الله بن طاهر أن يحصن بغداد، وأدير حولها السور وحفرت حولها الخنادق ونصب على السور مجانيق وأسلحة كثيرة عظيمة، وبعث المعتز إلى محمد بن عبد الله بن طاهر يدعوه إلى الدخول معه، ويذكره بعهد أبيه المتوكل أن يبايع بعده المعتز، ولكن عبد الله لم يأبه لذلك.
وانضم الأتراك إلى معسكر المعتز، وجرت بينهما حروب طويلة وفتنة مهولة جدّاً..وقد أثرت هذه الخلافات على الأحوال الخارجية للبلاد، واستطاعت الروم أن تنزل الهزائم بالمسلمين، وقتلوا قائدين عظيمين للمسلمين من قواد الثغور هما عمر بن عبد الله الأقطع، وعلي بن يحيى الأرمني.
خلافة أبي عبد الله المعتز
لم يكن في مدة خلافة المعتز من المحرم 252هـ حتى رجب 255هـ، سوى مزيد من ضعف الخلافة العباسية وتنازع الجند الأتراك والمغاربة الأمر، فانتهى الأمر بخلعه بعد ثلاث سنوات ونصف.
فلم تكن له كلمة مسموعة، وكان سبب خلعه أن الجند اجتمعوا فطلبوا منه أرزاقهم فلم يكن عنده ما يعطيهم.. فاجتم�

المصدر: فرسان السنة
abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 63 مشاهدة
نشرت فى 17 أكتوبر 2011 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

308,624