عائض القرني
 ملخص الخطبة

1- ثلاث رؤى للنبي  عن عمر بن الخطاب. 2- إسلام عمر. 3- موقف عمر المحب عند وفاة النبي. 4- زهد عمر. 5- تفقد عمر لرعيته. 6- عدل عمر في قصة القبطي مع ابن عمرو بن العاص. 7- وقوف الهرمزان بين يدي عمر. 8- عمر يتمنى الشهادة ويلقاها على يد أبي لؤلؤة المجوسي. 9- نصيحة لعمر وهو في سكرات الموت.


 الخطبة الأولى

 

أيها الناس:

نتكلم اليوم عن ((شهيد المحراب))، من هو شهيد المحراب؟ ولماذا قتل؟ وكيف قتل؟ وأين قتل؟ ومن قتله؟

الزمن: صلاة الفجر.

المكان: مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام.

المقتول: عمر بن الخطاب .

القاتل: أبو لؤلؤة المجوسي لعنه الله.

ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون  فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون  يستبشرون بنعمة من الله وفضلٍ وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين [آل عمران:169-171].

أيها المسلمون:

من منكم لا يعرف عمر؟ مَنْ مِن الناس لم يسمع بعمر؟

·        السلام عليك يا عمر بن الخطاب في يوم الجمعة.

·        السلام عليك في هذه الساعة المباركة.

·        السلام عليك يوم أسلمت.

·        السلام عليك يوم توليت.

·        السلام عليك يوم قتلت.

·        السلام عليك يوم تبعث حياً.

ترى ثياب الموت حمراً فما أتى             لها الليل إلا وهي من سندسٍ خضر

فوا طاهر الأردان لم تبق بقعة            غداة ثـوى إلا اشتهت أنهـا قبـر

فتـى كلما فاضت عيون قبيلة            دماً ضحكت عنه الأحاديث والذكـر

الرسول عليه الصلاة والسلام يفسر ثلاث رؤىً رآها في المنام، كلها لأبي حفص  وكلها صحيحة كالشمس.

الأولى: قال : ((بينا أنا نائم، رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعُرض عليّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره))، قالوا: فما أوّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: ((الدين))[1].

دينه يغطيه، دينه يستره، فلا يظهر منه إلا كل جميل، ولا يخرج من فيه إلا كل حق.

الثانية: عن ابن عمر  قال: سمعت رسول الله  يقول: ((بينا أنا نائم، أتيت بقدح لبن، فشربت، حتى أني لأرى الريّ يخرج في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب)). قالوا: فما أوّلته يا رسول الله ؟ قال: ((العلم))[2].

سبحان الله ! رجل اجتمع له العلم والدين، فأي رجل هو؟

الثالثة: عن أبي هريرة  قال: بينا نحن عند رسول الله ، إذ قال: ((بينا أنا نائمٌ، رأيتني في الجنة، فإذا امرأةٌ تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب فذكرت غيرته، فوليت مدبراً)) فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله[3]؟

كيف يغار عمر من النبي  وهو تلميذ من تلاميذه، وهو حسنة من حسناته .

قُتل هذا العظيم وهو يصلي في المحراب، والعظماء يقتلون دائماً؛ لتعلم الأمة أنهم عظماء، فتعيش على نهجهم، وتنظم من دمائهم نظماً زكياً تحيا به، وتبني من جماجمهم مكرمات ما كان لها أن تُبنى، وتجعل من أشلائهم تحفاً تتحدى بها التاريخ.

يقول أحد المسلمين من أتباع محمد عليه الصلاة والسلام، من الذين خاضوا المعارك، وتكسّرت سيوفهم على رؤوس المارقين وسالت دماؤهم نصرة لهذا الدين.

وهو ليس من الشباب الذين تكسّرت أيديهم وأرجلهم يوم تزلجوا على الثلج في العطلات الصيفية، أو الذين قتلوا في ساعات السهر الحمراء، أو الذين تدحرجت بهم مسارح الفن فوقعوا على رؤوسهم، لا. إنما هو من شباب الجهاد وطلائع الصحوة.

يقول هذا الشاب:

تأخـرت أستبق الحيـاة فلم أجد         لنفسي حياـة مثل أن أتقدّما

وليس على الأعقاب تدمى قلوبنا             ولكن على أقدامنا يقطر الدما

هذا جيل محمد عليه الصلاة والسلام، هذه مدرسته التي قدمها للتاريخ، هذا الرعيل الأول الذي ما سمع الناس بمثله.

عاش عمر مع الرسول عليه الصلاة والسلام، يؤازره، ويعينه، أسلم بـ طه. وكان أجمل من الشمس في ضحاها، أوضح من القمر إذا تلاها، تولى الأمة فرعاها، وقاد المسيرة وحباها. فمرحباً بعمر.

أسلم لما سمع: طه  ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى  إلا تذكرة لمن يخشى  تنزيلاً ممن خلق الأرض والسموات العلى  الرحمن على العرش استوى [طه:1-5].

وهل هناك إنسان يستمع إلى هذا الخطاب ثم لا يسلم؟ هل هناك إنسان يفهم كلام رب البشر، ثم لا يسري هذا الكلام في ذرات دمه؟

فهم عمر هذا الخطاب؛ لأنه العربي القح، فسرى في دمه، وانتشر تيار الإسلام في كل جزئية من كيانه.

أسلم، ووضع يده في يد محمد عليه الصلاة والسلام، وعاهده، على ماذا؟ على الاستيلاء على أموال الناس بالباطل؟ على توسيع القصور والدور؟ على بناء الحدائق الغنّاء والبساتين الفيحاء؟ على استغلال البشر وتسخيرهم؟ لا، إنما بايعه على الحق، والعدل، بايعه على لا إله إلا الله.

فكان عمر في كف الرسول، عليه الصلاة والسلام سيفاً مصلتاً يهزه للحادثات والمعضلات.

يقول العقاد: الفرق بين أبي بكر وعمر؛ أن أبا بكر عرف محمداً النبي، أما عمر فقد عرف النبي محمداً.

أبو بكر عرف الرسول عليه الصلاة والسلام، في جاهلية أبي بكر وبعد إسلامه، لكن عمر لم يعرف الرسول عليه الصلاة والسلام إلا ساعة ميلاده يوم أسلم، فكان كلما رأى حدثاً، كلما رأى زنديقاً، كلما رأى معترضاً على الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: يا رسول الله، ائذن لي أضرب عنقه، ولو أذن له الرسول عليه الصلاة والسلام لقتل العشرات!! فهو لا يتأخر لحظة واحدة عن أمر رسول الله .

ويموت الرسول عليه الصلاة والسلام، كما يموت البشر، لكن عمر  لم يعترف بذلك، فقام رافعاً سيفه يقول: من قال إن محمداً عليه الصلاة والسلام قد مات، ضربت عنقه بهذا السيف!!

ولكن يتأكد الخبر، ويتحقق النبأ، فيطيح عمر على وجهه مغمىً عليه، وكان قوي الجثة، صلب البنيان، متين الهيكل، ولكن أين قوته؟ أين عضلاته؟ أين بنيانه ؟ خار في لحظة واحدة.

قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها             بفضل ربك حصناً من أعاديها

قل للملوك تنحـوا عن مناصبكـم         فقد أتـى آخـذ الدنيا ومعطيها

كان عمر بن الخطاب يأخذ الدنيا في يوم، ويسلمها للفقراء في يوم.

تأتيه الموائد من الذهب والفضة على الجمال، وتدخل المدينة، وهو يصلي وفي بردته أربع عشرة رقعة من الفقر والعوز.

هذا الرجل؛ يقضي على إمبراطورية هرقل، ويجعل عاليها سافلها، ولا يجد خبز الشعير ليأكله مع فقراء المسلمين.

يتولى أبو بكر الخلافة بعد الرسول، عليه الصلاة والسلام، فيقف عمر بجانبه كما وقف بجانب رسول الله  ويكون مستشاره ووزيره.

ويحين أجل أبي بكر  فيكتب ولاية العهد لعمر  يقول أبو بكر في كتابه لعمر :

بسم الله الرحمن الرحيم من أبي بكر إلى عمر بن الخطاب، وأنا في أول أيام الآخرة، وآخر أيام الدنيا، فقيراً لما قدمت، غنياً عما تركت.

أما بعد:

فيا عمر بن الخطاب، قد وليتك أمر أمة محمد، علي الصلاة والسلام، فإن أصلحت وعدلت، فهذا ظني فيك. وإن اتبعت هواك، فالله المطلع على السرائر، وما أنا على صحبة الناس بحريص.

يا عمر: اتق الله لا يصرعنّك الله مصرعاً كمصرعي، والسلام.

وتولى عمر خلافة المسلمين، وبحث عن ميراث أبي بكر، فإذا هو ثوبان وبغلة، فبكى وقال: لقد أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر!!.

تولى عمر، وألقى خطبة عظيمة، بين فيها سياسته، وأوضح فيها واجباته تجاه الأمة، وسار في الناس  سيرة عمريّة ما سمع الناس بمثلها.

كتب عنه الفضلاء، وتكلّم عنه العلماء، وتدارس سيرته الأذكياء؛ عمر يطوف المدينة، عمر رجل العسّة الأول، ينام الناس في عاصمة الخلافة ولا ينام، يشبع الناس ولا يشبع، يرتاح الناس ولا يرتاح.

كان  إذا هدأت العيون، وتلالأت النجوم، يأخذ درّته ويجوب سكك المدينة، علّه يجد ضعيفاً يساعده، أو فقيراً يعطيه، أو مجرماً يؤدّبه.

وبينا هو يمشي في ليلة من الليالي، إذ بامرأة في جوف دار لها، وحولها صبية يبكون، وإذا قدْرٌ على النار قد ملأته ماءً، فدنا عمر من الباب فقال: يا أمة الله، ما بكاء هؤلاء الصبيان؟ قالت: بكاؤهم من الجوع، قال: فما هذا القدر الذي على النار؟ قالت: قد جعلتُ فيه ماءً، هو ذا، أعلّلهم[4] به حتى يناموا، وأوهمهم أن فيه شيئاً.

فبكى عمر، ثم جاء إلى دار الصدقة، وأخذ غرارة، وجعل فيها شيئاً دقيقاً، وشحماً، وسمناً، وتمراً، وثياباً، ودراهم، حتى ملأ الغرارة، ثم قال لمولاه: يا أسلم، احمل علي، قال: يا أمير المؤمنين أنا أحمله عنك، فقال: لا أم لك يا أسلم، أنا أحمله، لأني أنا المسؤول عنهم في الآخرة، فحمله حتى أتى به منزل المرأة، فأخذ القدر، فجعل فيه دقيقاً وشيئاً من شحم وتمر، وجعل يحركه بيده، وينفخ تحت القدر، قال أسلم: فرأيت الدخان يخرج من خلال لحيته، حتى طبخ لهم، ثم جعل يغرف بيده، ويطعمهم حتى شبعوا[5].

كان عمرو بن العاص والياً على مصر في زمن عمر بن الخطاب  فجاء رجل من أهل مصر إلى عمر بن الخطاب  فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم، فقال عمر: عذت معاذاً[6]. قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين!!.

لماذا يضربه؟ أهذا هو نهج الإسلام؟ أهذه هي العدالة المنشودة التي نزلت من فوق سبع سموات؟ أهذا ميثاق إياك نعبد وإياك نستعين؟

فكتب عمر  إلى عمرو  يأمره بالقدوم، ويقدم بابنه معه، فقدم، فقال عمر: أين المصري؟

·        ثم قال: خذ السوط فاضرب، فجعل المصري يضرب ابن عمرو بالسوط، ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين.

·        قال أنس: فضرب والله، فما أقلع عنه حتى تمنينا أن يرفع عنه. ثم قال عمر لعمرو رضي الله عنهما: منذ كم تعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارً ؟! قال: يا أمير المؤمنين، لم أعلم، ولم يأتني؟

تلك هي عدالة عمر  وتلك مقولته الخالدة: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.

متى كانوا عبيداً؟ متى كان هذا الإرهاب والاضطهاد؟

إذا كان هذا هو الميزان فما فائدة الإسلام؟ وماذا نفعل بالكتاب والسنة؟

وتستمر مسيرة عمر  ويدخل عام الرمادة، سنة ثمانية عشر للهجرة، فيقضي على الأخضر واليابس، يموت الناس جوعاً، فحلف عمر لا يأكل سميناً حتى يرفع الله الضائقة عن المسلمين، وضرب لنفسه خيمة مع المسلمين حتى يباشر بنفسه توزيع الطعام على الناس، وكان  يبكي ويقول: آلله يا عمر، كم قتلت من نفس!!.

وهل قتل عمر أحداً ؟ لا والله ما قتل، وإنما أحيا الله به النفوس.

وقف على المنبر يوم الجمعة ببرده المرقّع، والله لو أراد أن يبني بيته من الذهب الخالص لاستطاع، ولو أراد أن يمشي من بيته إلى المسجد على الحرير والإستبرق لاستطاع، ولو أراد أن يجعل أسوار المدينة من الزبرجد لاستطاع، ولكنه يقف أثناء الخطبة، فيقرقر بطنه، أمعاؤه تلتهب من الجوع، فيقول لبطنه: قرقر، أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين.

أيها الناس:

هذا تاريخنا، فهل لنا تاريخ غير تاريخ عمر؟ بماذا نتكلم مع الأمم؟ بماذا نفتخر؟ بماذا نتصدى للهجوم البشع على الإسلام؟

يصلي بالناس صلاة الاستسقاء، فلا يدرون ماذا يقول من البكاء، ويسأل الله أن لا يجعل هلاك الأمة في عهده، فينهلّ الغيث كالجبال، وتعود الحياة إلى المدينة.

يأتي الهرمزان – مستشار كسرى – لابساً تاجاً من ذهب وزبرجد، وعليه الحرير، يدخل المدينة، فيقول: أين قصر الخليفة؟ قالوا: ليس له قصر، قال: أين بيته؟ فذهبوا فأروه بيتاً من طين وقالوا له: هذا بيت الخليفة!! قال: أين حرسه؟ قالوا: ليس له حرس!!

يقول شوقي:

وإذا العنايةُ لاحظتك عيونها          نم فالحوادث كلهن أمان

فطرق الهرمزان الباب، فخرج ابنه، فقال له: أين الخليفة؟ فقال: التمسوه في المسجد، أو في ضاحية من ضواحي المدينة، فذهبوا إلى المسجد فما وجدوه فبحثوا عنه، فوجدوه نائما تحت شجرة، وقد وضع درته بجانبه، وعليه ثوبه المرقع، وقد توسّد ذراعه، في أنعم نومة عرفها زعيم.

وكأني بالهرمزان يتساءل في نفسه، أهذا عمر؟ أهذا الذي فتح الدنيا؟ هذا الذي دوّخ الملوك؟ هذا الذي داس جماجم الخونة؟ ينام تحت شجرة؟

فانهدّ الهرمزان من الدهشة وقال: حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر.

قال حافظ إبراهيم:

وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً           بين الرعية عقلاً وهـو راعيها

فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً           ببردة كاد طـول العهـد يبليها

فقـال قولـة حق أصـبحت مثـلاً         وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها

أمنت لمـا أقمـت العـدل بينهـو         فنمت نوم قريـر العيـن هانيها

ولما كان آخر ولايته  قدم نفسه للمحاكمة، وجسمه للقصاص، وماله للمصادرة، وأعلن في الناس. إن كان خدع أحداً، أو ظلم أحداً، أو سفك دم أحدٍ، فهذا جسمه، فليقتص كل واحد منه، فلما فعل ذلك ارتج المسجد بالبكاء، وأحس المسلمون أنه يودعهم، ثم نزل من على المنبر، واستودع الله الأمة، وكانت هذه هي آخر جمعة يلتقي فيها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب  بأمة محمد ، لأن موعده كان مع المجرم أبي لؤلؤة المجوسي لعنه الله، وهذا ما سوف نعرض له في الخطبة الثانية إن شاء الله تعالى.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور

الرحيم.


 


[1] أخرجه البخاري (1/11), وأخرجه مسلم  (4/1859) ، رقم (2390) عن أبي سعيد الخدري .

[2] أخرجه البخاري (1/29) ، وأخرجه مسلم (4/1859- 1860) ، رقم (2391).

[3] أخرجه البخاري (4/85- 86) .

[4] أعللهم: أشغلهم وأطمعهم.

[5] قال الكاندهلوي : أخرجه الدينوري ، وابن شاذان ، وابن عساكر ، عن أسلم ، كذا في منتخب الكنز (4/415) ، وهو في البداية (7/136). أخرجه الطبري مع زيادات (5/20) . انظر : حياة الصحابة (2/368).

[6] عُذت معاذاً : أي لجأت إلى ملجأ يحميك.

 


 الخطبة الثانية

 

الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أيها الناس:

يقول نبيكم عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفس محمد بيده، لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل))[1].

هذا كلام القائد  فكيف يكون الجنود، هذا الأستاذ، فكيف يكون الطلاب، ينبغي أن يكونوا قمماً من العزّة والتضحية، وقذائف من البذل والعطاء.

وكان عمر  دائماً ما يسأل الله الشهادة في سبيل الله – تبارك وتعالى-.

حج عمر  بالمسلمين آخر حجة له، ووقف يوم عرفة، فخطب الناس خطبة عظيمة، ثم استدعى أمراء الأقاليم وحاسبهم جميعاً أمام الناس، واقتصّ للناس منهم، وبعد أن انتهى ذهب ليرمي الجمرات، فرماه أحد الحجاج بحصاة في رأسه، فسال دمه، فقال عمر: هذا قتلي، يعني أنني سوف أقتل.

نعم سوف يقتل، لا يموت كما يموت الذين أصابتهم التخمة، فكان موتهم بسبب كثرة ما أكلوا وشربوا، ولم يقدّموا شيئاً.

·        قال سعيد بن المسيب : لما صدر عمر بن الخطاب من منى، أناخ بالأبطح، ثم كوّم كومة بطحاء، ثم طرح عليها رداءه واستلقى، ثم مدّ يديه إلى السماء فقال: اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيّع ولا مفرّط، ثم قدم المدينة فخطب الناس، فقال: أيها الناس، قد سُنّت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتُركتم على الواضحة، إلا أن تضلّوا بالناس يميناً أو شمالاً، وضرب بإحدى يديه على الأخرى!![2].

·        قال سعيد بن المسيب: فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل عمر .

علوّ في الحياة وفي الممات             بحق أنت إحدى المعجزات

ومالك تربة فأقـول تسقـي             لأنك مثل هطـل الهاطلات

ولما ضاق بطن الأرض عن أن             يواروا فيـه تلك المركمات

أساروا الجوّ حولك واستعاضوا         عليك اليوم صوت النائحات

رجع إلى المدينة، وهو يتمنى الشهادة، قالت له حفصة ابنته: يا أبتاه: موت في سبيل الله، وقتل في مدينة رسول الله، !! إن من أراد أن يقتل، فليذهب إلى الثغور، فيجيب عمر: سألت ربي، وأرجو أن يلبي لي ربي ما سألت.

أكفانهم بدمـاء البـذل قـد صُبغت     الله أكبـر من سلسالهـا رشـفوا

في كفّك الشهم من حبل الهدى طرفٌ         على الصراط وفي أرواحنا طرف

وصل عمر إلى المدينة، ورأى في المنام؛ أن ديكاً ينقره نقرتين أو ثلاث، فعبروا له الرؤيا، فقالوا: يقتلك رجل من العجم، فقام وخطب الناس، وأبخرهم أنه سوف يغادر هذه الدنيا، وأن أجله قد اقترب.

تأخرت عن وعد الهوى يا حبيبنا     وما كنت عن وعد الهوى تتأخر

سهرنا وفكّرنا وشـابت دموعنـا    وشابت ليالينا ومـا كنت تحضر

أيا عمر الفاروق هـل لك عـودة    فإن جيوش الـروم تنهى وتأمر

رفاقك في الأغوار شدّوا سروجهم    وجيشك في حطين صلّوا فكبروا

نسـاءُ فلسـطين تكحّلن بالأسـى    وفي بيت لحم قاصرات وقُصّر

وليمون يافا يابسٌ فـي حقولـه        وهل شجرٌ في قبضة الظلم يثمـر

ودّع عمر الدنيا، ليس عنده شيء يورثه، عنده بيت من طين، وبغلته، وثوبه المرقع، ودرته، هذه دنيا عمر.

فأين الأموال؟ وأين القصور؟ وأين الصولة والصولجان؟ ولكن هناك عقيدة خالدة، ومبادئ رشيدة، تتعدى حدود الزمان والمكان، لأنها تنزيلٌ من الحكيم الحميد.

صلى عمر الفجر، وفي أثناء الصلاة، أتاه الفاجر أبو لؤلؤة المجوسي الذي ما سجد لله سجدة، فكانت نهاية هذا الطود الشامخ على يديه.

مولى المغيرة لا جادتك غادية           من رحمة الله ما جادت غواديها

مزّقت خير أديم حشـوه هممٌ            في ذمةِ الله عـاليهـا ودانيهـا

انتهى عمر من قراءة الفاتحة، وبدأ يقرأ في سورة يوسف، وكان يحب أن يقرأ بها، فلما وصل إلى قوله تعالى: وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم [يوسف: 84]. بكى، بكى، وبكى الناس جميعاً، حتى سمع النشيج من آخر الصفوف، ثم كبّر راكعاً، فتقدم الشقي إليه بخنجر مسموم، فطعنه بست طعنات، فوقع وهو يقول: حسبي الله لا إلا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم.

والغريب أن أكثر الناس ما شعروا، إلا بعد أن تقدم عبد الرحمن بن عوف، فأكمل بهم الصلاة، لأن هذه الأمة كانت تصلي والسيوف على رؤوسها في المعركة، كانت تصلي والجيوش ملتحمة في ساحة القتال.

نحن الذين إذا دُعـوا لصـلاتهم     والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا

جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبّروا     في مسمع الـروح الأميـن فكبـرا

تقدم ابن عوف فأكمل الصلاة بالمسلمين، وفزع الناس إلى عمر، أين صوت عمر؟ أين صوت الخليفة؟ أين الحبيب؟ أين العادل؟ أصبح في سكرات الموت، يسأل وهو في سكرات الموت: من قتلني؟ قالوا: قتلك أبو لؤلؤة المجوسي، قال: الحمد لله الذي جعل قتلي على يد رجل ما سجد لله سجدة.

كان يسأل وهو في سكرات الموت: هل صليت؟ هل أكملت الصلاة؟ قال: لا، قال: الله المستعان.

كل أمنياته أن يكمل الصلاة؛ ليلقى الله تعالى وقد صلى صلاة الفجر، لم يسأل عن ولاية ولا عن ولد، ولا عن بلد، ولا عن زوجة، ولا عن ميراث، وإنما سأل عن الصلاة، ولم يهدأ له بال حتى أتمّها.

·        قال أحد الصحابة: ظننا أن القيامة قد قامت يوم قتل عمر.

من لجسم شفّه طول النوى           ولعين شـفّها طول السهر

جسـدٌ لفف فـي أكفافـه         رحمة الله على ذاك الجسد

وضعوه في البيت، وأحضروا له وسادة، فنزعها وقال: ضعوا رأسي على التراب لعل الله أن يرحمني، وأخذ يبكي ويقول:

يا من لا يزول ملكه، ارحم من زال ملكه.

وسلاطينهم سلوا الطين عنهم           والرؤوس العظام صارت عظاما

ودعا عمر أطفال المسلمين، فدخلوا يبكون، فقبّلهم واحداً واحداً، ومسح على رؤوسهم.

قدموا له لبناً، فلما شربه، خرج من كبده، فقال: الله المستعان.

ثم دخل الشباب، فحياهم، ورأى شاباً في ثوبه طول، فقال له: يا ابن أخي تعالى، فدنا منه الشاب، فقال له عمر: ارفع إزارك!!.

·        يقول أحد الفضلاء: أمير المؤمنين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهو في سكرات الموت، دمه يخرج من فمه ومن بين أضلاعه، ويقول لهذا الشاب قصّر ثوبك!!.

فديننا كله لباب، ليس فيه قشور، قال: ارفع إزارك فإنه أتقى لربك، وأنقى لثوبك، فذهب الشاب وهو يبكي لموت عمر .

دخل عليه علي بن أبي طالب  ليلقي كلمات الوداع، التي ما رأيت أصدق منها، إذا ودع الحبيب حبيبه.

اتكأ علي ابن عباس رضي الله عنهما والدموع تفيض من عينيه، وأخذ يقول لعمر: يا أبا حفص، والله لطالما سمعت رسول الله  يقول: ((جئت أنا وأبو بكر وعمر، وذهب أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، فأسأل الله أن يحشرك مع صاحبيك)).

·        قال عمر: يا ليتني أنجو كفافاً، لا لي، ولا علي، ثم أخذ يقول: الله الله في الصلاة، وسألهم وهو في الموت أيضاً: أين أدفن؟ قالوا: ندفنك مع رسول الله ، قال: لا أزكي نفسي، فما أنا إلا رجل من المسلمين استأذنوا عائشة في ذلك. فلما مات  ذهبوا إلى عائشة رضي الله عنها واستأذنوها في أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: لقد هيأت هذا المكان لنفسي، لكن والله لأوثرنّ عمر به، ادفنوه مع صاحبيه.

فجزى الله عمر عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، إنا لله وإنا إليه راجعون.

أيها المسلمون:

هذه شخصية من شخصيات العالم الإسلامي، التي قدمها محمد عليه الصلاة والسلام، إلى البشرية.

هذا خليفة راشد، هذا إمام عادل.

يقول علي، وعمر يكفّن، قبل أن يصلّي عليه: والله ما أريد أن ألقى الله بعمل رجلٍ إلا بعمل رجلٍ مثلك.

·        فاللهم أرنا وجه عمر في الجنة، واحشرنا مع نبينا محمد  في مقعد صدق عند مليك مقتدر، واجمع بيننا وبينه كما آمنا به ولم نره، ولا تفرّق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله.

أيها الناس:

وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56].


[1] أخرجه البخاري (1/14) ، وأخرجه مسلم واللفظ له (3/1496) ، رقم (1876) عن أبي هريرة .

[2] أخرجه مالك في الموطأ (2/824) ، رقم (10).

المصدر: عائض القرني
abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 57 مشاهدة
نشرت فى 13 أكتوبر 2011 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

299,186