رسالة الصيام أنزلها علينا الملك العلام، وجعل فيها أحكام الصيام، وحِكَم الصيام، وأجر الصيام، وثواب الصائمين من هذه الأمة المرحومة لمن يتدبر كلام الله وخطابه. رسالة صغيرة من كلمات معدودة نسمعها في كل وقت وحين، ولكن تدبرها يحتاج إلى آلاف السنين، لأنها كلام رب العالمين سبحانه وتعالى. هذه الرسالة أنت أيها المؤمن مطالب أن تقرأها، وأن تفهمها، وأن تعرف أحكامها، وأن تعرف حدودها، وأن تعلم أوامرها ونواهيها، وأن تعلِّمها لأولادك وبناتك، وأن تعلِّمها لزوجتك، وأن تعلِّمها لإخوانك المؤمنين، ثم تعمل بعد ذلك بما فيها لتنال رضاء رب العالمين سبحانه وتعالى. وهذه الرسالة لأنها خاصة بنا جماعة المؤمنين، فإن القرآن فى حقيقته رسائل الله إلينا منه. رسائل إلى الخلق جميعاً وهي التي تبدأ بقول الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}
، أو تبدأ بقول الله: {يَا بَنِي آدَمَ}. ومنه رسائل خاصة للمؤمنين، وهي التي تبدأ بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}، وقد نطق القرآن بإثنين وثمانين رسالة وجَّهها لك المرسل سبحانه وتعالى، كل رسالة منها يحتاج المؤمن إلى تدبرها وفقهها، ومعرفة ما جاء بها من أحكام، ودراسة ما فيها من علوم، والعمل بما فيها من أومر، لينال رضاء الحي القيوم سبحانه وتعالى. ورسالة الصيام يبدأها الله بالنداء على أحبابه فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (183-البقرة)، ويكفينا مقدمة هذه الرسالة إذا تدبرناها في هذا الوقت القصير، واستمع معي إلى العليِّ الكبير وهو يعلمك الأدب مع رسالته فيقول فيما روي عنه عزَّ وجل: {يا عبدي أما تستحي مني يأتيك كتاب من بعض إخوانك وأنت في الطريق تمشي فتعدل عن الطريق، وتقعد لأجله وتقرؤه وتتدبره حرفاً حرفاً حتى لا يفوتك شيء منه، وهذا كتابـي أنزلته إليك، انظر كم فصَّلتُ لك فيه مِنْ القول، وكم كرَّرت عليك فيه لتتأمل طوله وعرضه، ثم أنت معرض عنه، أفكنتُ أهون عليك من بعض إخوانك؟، يا عبدي: يقعد إليك بعض إخوانك فتقبل عليه بكل وجهك، وتصغي إلى حديثه بكل قلبك، فإن تكلم متكلم أو شغلك شاغل عن حديثه أومأت إليه أن كُفَّ، وها أنا ذا مقبلٌ عليك، ومحدِّثٌ لك، وأنت معرضٌ بقلبك عني، أفجعلتني أهون عندك من بعض إخوانك؟}{2}. هل سمعتم أحنَّ وأجمل من هذا الخطاب، يا عبد الله: كن كما كان أصحاب رسول الله، فقد قال قائلهم :{إذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}، فأرعها سمعك، فإنه إما خيرٌ تُؤمر به، وإما شرٌّ تُنهى عنه}{3}. فاستمع بكلك، وقُلْ بلسانك: {لبيك اللهم ربَّنا وسعديك، لبيك لبيك ولا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم}. يعني سمعاً لك بعد سمع، وطاعة لك بعد طاعة. وأعلم أنه إذا قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}، إما أن يأمرك بخيرٍ فسارع إلى التنفيذ فتحصل عليه، وإما أن ينهاك عن شرٍّ فسارع إلى تجنبه لتسلم منه. ولذة ما في النداء تزيل عن المؤمن التعب والشقاء والعناء، من أنا يا أيها المؤمن، ومن أنت، حتى ينادي علينا الجليل؟ ويخاطبنا العلي الكبير؟ أيتوجه إلينا بالنداء الذي له الحكم في الأولى والآخرة وإليه المصير؟ ولكنه كرمٌ مِنْ الكريم، وإنعام من المنعم، ينادي على أحبابه فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}، يعني يا عبادي يا أحبابي يا أوليائي يا مَنْ آمنتم بكتابي يا مَنْ صدَّقتم برسلي يا مَنْ أسرعتم إلى طاعتي يا مَنْ بادرتم لرضائي ماذا يا رب؟ أناديكم لأقول لكم: يا أحبابى، هذا طريق سريع للتوبة، وهذا باب سريع للمغفرة، وهذا ميدان فسيح لتكثير الأجر والثواب، وهذا مكتب تنالون منه شهادة وتدخلون الجنة مع الأحباب، وهذا باب تدخلون منه الجنة بغير سؤال ولا حساب. ما هذا الباب يا رب؟ فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، لماذا كتب علينا الصيام؟ أللتعب والعناء؟ أم للشدة والشقاء؟ لا هذا ولا ذاك، لأن الله غنيٌّ عن طاعتنا أجمعين، فهو سبحانه وتعالى لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضيره معصية العاصين، وإنما الأمر كما قال سبـحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} (15-الجاثية).
فرض عليك الصيام ليعطيك المغفرة. وهل هناك شئ في الدنيا والآخرة أجمل من المغفرة؟ لو بحثنا يا أخي ما وجدنا في الوجود كله أجمل من مغفرة الله والحصول على رضاه، فإن الإنسان لو ملك الدنيا بأسرها، وخرج منها ولم يغفر الله له ذنوبه، ولم يستر عليه عيوبه، فهل ينفعه شئ مما ملكه في هذه الحياة؟، بل إن الإنسان لو ملأ الأرض عبادة لله، ولكن عبادته فيها علَّةٌ تمنعها من القبول فلم ينل يها مغفرة الغفار، ماذا يفعل يوم يلقى الواحد الغفار سبحانه وتعالى؟
إن الكريم تفضل علينا وفتح لنا أبواب كرمه وجوده، فجعل مَنْ يصوم هذا الشهر إيماناً لله واحتساباً، يأخذ في نهاية الشهر شهادة بأنه قد غفرت له ذنوبه. وإذا قام الشهر إيماناً واحتساباً ولو بصلاة ركعتين من سنة القيام - فقد قال الإمام مالك رضى الله عنه وأرضاه: أقلها ركعتان ولا حد لنهايتها- فإنه ينال في آخر الشهر شهادة بالمغفرة من الغفار سبحانه وتعالى. ومن فطَّر صائماً يَنَالُ شهادة بالمغفرة. هل سمعتم هذا؟، أعمال كثيرة يفتحها المولى للصائمين، كل عمل منها يستوجب المغفرة من رب العالمين سبحانه وتعالى. وكأن الله ما فرض علينا الصيام وما سنَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سنَّة القيام إلا ليغفر لنا ذنوبنا، ولذا يقول صلى الله عليه وسلم: {هذَا رَمَضَانُ قَدْ جَاءَ يُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَيُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ النَّارِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، بُعْدَاً لِمَنْ أَدْرَكَهُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، إِذَا لَمْ يُغْفَرْ لَهُ فِيهِ فَمَتىٰ ؟}{4} . فالذي لا ينال المغفرة في رمضان متى ينالها
وهو شهر المغفرة وشهر الجود والإحسان، وشهر الكرم والامتنان، من الحنان المنان سبحانه وتعالى؟ فما بالكم والعمل فيه يتضاعف؛ فالفريضة بسبعين فريضة فيما سواه من الشهور الأخرى، والسُنَّة فيه تعادل فريضة فيما سواه من الشهور. وإذا صامه الإنسان وأحسن صيامه أخذ تذكرة إلهية لدخول الجنة من باب الريَّان الذي لا يدخل منه إلا الصائمون فإذا دخلوا أغلق ولم يدخل منه أحد. فما بالكم وفي كل ليلة من لياليه يتفضل المولى سبحانه وتعالى فيمنُّ على مائة ألف من الصائمين ويطلق القرار الإلهي بعتق رقابهم من النار، وتكريمهم بالنجاة من دار البوار، وضمان دخولهم الجنة مع الأبرار. فإذا كانت ليلة الجمعة ويومها فإن مكتب القدرة الإلهي يُخرج في كل ساعة صحفاً فيها مائة ألف أعتقهم الله من النار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ليلة الجمعة أربع وعشرون ساعة، لله تعالى في كل ساعة منها ست مائة ألف عتيق من النار كلهم قد استوجبوا النار}{5}، فإذا كانت آخر ليلة من رمضان أعتق الله فيها مثل ما يعتق في سائر الشهر ومن عمل فيه عملاً كان أجره مضاعفاً، ومن سكت فيه عن العمل كان سكوته تسبيحاً لله، وإذا جاء غروب الشمس قالت له ملائكة الله: ادعُ فإن لك دعوة مستجابة عند الله، قال صلى الله عليه وسلم: {نَوْمُ الصَّائِمِ عِبَادَةٌ، وَصَمْتُهُ تَسْبِيحٌ، وَعَمَلُهُ مُضَاعَفٌ، وَدُعَاؤُهُ مُسْتَجَابٌ، وَذَنْبُهُ مَغْفُورٌ}{6}، فما بالكم وفيه ليلةٌ - وهى ليلة القدر المباركة - لو أحياها الإنسان، ولو بصلاة الفجر والعشاء في جماعة في العَشْرِ الأواخر لقول رسولكم الكريم صلى الله عليه وسلم: {مَنْ صَلَّىٰ الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ لَيْلِهِ، وَمَنْ صَلَّىٰ الْصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْل كُلَّهُ}{7}. وقوله صلى الله عليه وسلم: {فَالْتَمِسُوها فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ}{8}. فمن صلى العشاء في جماعة والصبح في جماعة في العشر الأواخر من رمضان كان له أجر ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر؟ يحرر له الكرام الكاتبون عملاً صالحاً، في صحف مكرمة، بأيدي سفرة، كرام بررة، بأعمال مقدارها ثلاثة وثمانون عاماً وأربعة أشهر. كأنه عَبَدَ الله عبادة - قيام ليلها، صيام نهارها - لمدة ثلاثة وثمانين عاماً وزيادة أربعة أشهر
فلو حافظ المؤمن على هذا الحال على صلاة العشاء والفجر في جماعة في العشر الأواخر من رمضان، لمدة أربعين أو خمسين عاماً – مثلاً، كان كأنه عاش أربعة آلاف سنة في عبادة متصلة، ليلها قيام ونهارها صيام للملك العلام سبحانه وتعالى. أجرٌ كثير وثوابٌ كبير لخصَّه البشير النذير فقال:{وَهُوَ شَهْرٌ: أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ، وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ، وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النَّارِ، فَاسْتَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ، خَصْلَتَينِ تُرْضُونَ بِهَا رَبَّكُمْ، وَخَصْلَتَينِ لاَ غِنَىً لَكُمْ عَنْهُمَا، فَأَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ: فَشَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَه إِلاَّ اللَّهُ وَتَسْتَغْفِرُونَهُ، وَأَمَّا الخصلتان اللَّتَانِ لاَ غِنىٰ بِكُمْ عَنْهُمَا: فَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَتَعُوذُونَ بِهِ مِنَ النَّار}{9
من اراد المزيد يمكنكم الدخول علىالموقع الرسمى لفضيلة الشيخ فوزى محمد ابوزيد