حرية الثقافة وثقافة الحرية
من بداهة القول أن الاجواء المتحررة تحفز الانسان على الابداع كونها توفر له حرية الرأي والتفكير وتكفل له الوسائل المنتجة للثقافة الفاعلة، وهذا ما سيقود الى صناعة مجتمع متطور تنطوي أنشطته العملية والفكرية على منظومات قابلة للتنامي في ظل تعاضد متواصل بين حرية الثقافة وثقافة الحرية.
لهذا ستكون الحرية التي تؤسس لمنظومة ثقافية متطورة، عرضة للمصادرة والتدمير كونها المنتِج الأهم للمجتمع (المثقف) الواعي والقادر على انتزاع حقوقه في حالة تعرضها للتجاوز، وطالما أن الحرية هي المؤازر الأقوى لانتاج الثقافة المتعافية وهذه بدورها ستكون المغذي الدائم لشيوع الانماط المتحررة في الفكر والرأي والنشاط الحياتي عموما، فإن مثل هذه الحرية ستكون هدفا للمصادرة.
وهنا يُطرح التساؤل التالي: من هو الذي يستهدف الحرية ولماذا؟
إن الحرية كما هو متفق عليه حق من حقوق الانسان، ثبتته الاديان والسنن والقوانين الوضعية وغيرها كما نص على ذلك القانون العالمي المعروف لحقوق الانسان، بيد ان الحرية في الغالب لا تُعطى بل تُنتزع، حيث الغريزة البشرية تدفع الانسان للتسلط على الآخر بشتى السبل والوسائل، وأينما تضعف محددات هذه الغريزة المتسلطة يتضاءل دور الحرية، وبغياب الحرية او ضعفها تتراجع الثقافة الى مستويات أدني ما يؤدي الى نشوء مجتمع (غير مثقف) تسهل قيادته من لدن السياسي الفرد الذي ينطوي على نفس سلطوي شامل.
وبهذا سنصل الى أن الحرية غالبا ما تكون عرضة للمصادرة من لدن السياسيين (السلطويين) كونها تشكل عائقا أمام تحقيق اهدافهم المتمثلة بالاستحواذ على السلطة من خلال التجهيل المتعمَد للمجتمع وإضعافة لكي تسهل مهمة قيادته وفقا لمصالحهم ومنافعهم الفردية، وحين تكون الحرية هدفا للسياسيين فإن الثقافة بدورها ستكون الهدف المرادف، بمعنى أن جدلية العلاقة بين قطبيّ الثقافة والحرية ستملي على السياسي (المتسلط) إستهداف الحرية التي ستقود بدورها الى تهميش الثقافة واقصائها وتعطيل دورها جوهريا واللجوء الى تفعيل القشور الثقافية التي لا تعدو كونها شكل فارغ من المحتوى الأصيل الفاعل.
وهكذا نستطيع أن نفهم سبب استقتال السياسي (المريض) وبطانته من اجل الابقاء على المجتمع غائصا في اوحال الجهل والتخلف والمرض، واستماتة السياسي (المعقَّد) وحاشيته لمصادرة الحريات أيا كان نوعها فردية كانت او جماعية، فسلب الحريات تعني بالضروة إبعاد الثقافة وتحييد دورها وتجميد الوعي الجمعي ونشر المسار المستكين بين شرائح وافراد المجتمع ودفعه الى الانشغال بأمراضه والغوص في عوالم الخرافة وآفات الجهل كي يتسنى (للقادة المرضى) البقاء على قمم عروشهم من دون تهديد او ضغوط، في حين ستنعكس الحالة تماما مع المجتمع المتحرر الذي سيكون مثقفا بالضرورة وسيكون قويا واعيا بالنتيجة.
لهذا لن يكون من المستغرَب أن يؤدي تقويض الحرية الى نشر الجهالة التي ستُشكّل وتجوْهر الشعوب المتخلفة، ولهذا ايضا نرى ملامح الرعب التي يعيشها القادة الأحاديون حين تلوح بوادر الحرية في الأفق، فأينما وُجدت الحرية غاب الطغيان والعكس يصح تماما، وأينما توافرت الاجواء المتحررة نهضت الثقافة وتعاضدت مع الشعوب وفتحت لها آفاق الحياة على مصاريعها.
وهكذا تبدو جدلية الحرية والثقافة محركا دافعا لتطور المجتمعات وتشذيب السياسيين من اخطائهم، ولعلنا لا نأتي بجديد حين نطالب المعنيين (مفكرين ومصلحين ومثقفين وادباء وغيرهم) على الضرورة القصوى للمحافظة على الاجواء المتحررة التي نعيشها وابعادها عن خطر السياسيين السلطويين، وذلك من خلال دعم الثقافة وتطوير مساراتها بما يدفعها لتعضيد الاجواء المتحررة التي تتيح لنا طرح افكارنا ورؤانا وبرامجنا النظرية والتطبيقية وفقا للمصلحة العامة، وبعيدا عن الهيمنة الفردية للقائد او السياسي الذي لا يعدوا كونه موظفا تنفيذيا يتقاضى راتبا محددا عن اتعابه لا أكثر
ساحة النقاش