ستقسم ورقتي إلى المحاور الآتية مع الاقتضاب: 1- الإعلام كثورة، وصولا إلى ما نسميه اليوم "مجتمع الإعلام"مرورا بالعولمة وثورة المعلومات وقوفا عند الثورة الرقمية. 2- الصورة ليس بمعناها المجرد، التي تلتقطها الكاميرا وتبصرها العين، الصورة التي نعني، ما تصل إلى البصيرة. 3- كيف يلعب أو يتلاعب الإعلام في إيصال المعلومة عبر جميع منصاته، وقدرة المسرح على الاستفادة واللعب المضاد في تقنين الانهزامي منها والرامي إلى تحطيم الإنسانية، بمدلولات أخرى ترمي إلى بناء هيكلية جديدة للزمن المعاصر؟ ثورة المعلومات والكيفية التي يُقتَحم بها الإنسان المعاصر بقي اصطلاح "نظام إعلام عالمي"مبهما ولم يأخذ مكانته على مستوى الجدل والتداول إلا بعد قمة الجزائر لبلدان عدم الانحياز عام 1973، حيث نوقشت ظاهرة انعدام التوازن في ميدان الاتصالات، حتى مجيء الملتقى الذي نظم بتونس على صعيد خبراء دول عدم الانحياز والمتعلق بالاتصال بين الدول النامية وكان هذا عام 1976. وما أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها حتى علق العلماء آمالهم على الاستعمالات المدنية من الاختراعات حيت قال: نوربرت Norbert Wiener :إن تكنولوجيا الاتصال هي السبيل لتفادي سقوط الإنسانية مجددا في عالم هيروشيما. ولكن ليس كلما يتمناه المرء يدركه كما يقال إذ سارت العجلة بغير الاتجاه لان راس المال هو الحاكم الأوحد وصاحب اليد الطولى في التغير والتحولات، فالرأسمالية صار منطقها السائد والمعلن هو التحكم والاندماج أو بقراءة أدق, الابتلاع، الهدف الذي يرمي إليه كل فرد من أسياد العالم هو: - أن يصبح المُخاطب الوحيد للمواطن - أن يكون وبشكل دائم المُوصل للمواطن المنزوع الإرادة المعلومات والخدمات المهنية وبكافة الوسائل والطرق الممكنة، هاتف ثابت كان أو نقال، فاكس، تلفزيون، بريد الكتروني، وحاسوب. وكيف يتم هذا كله إن لم تقم الرأسمالية في البدء بهدم كل الحواجز أمام سيولة المعلومات والاتصالات عبر الكون، سابقا كانت تحكمنا الجغرافيا باعتبار الحدود هي المعيار لثقافات الشعوب وطبيعة سلوكهم، أما الآن اختلفت الحكاية لأننا نعيش في الفضاء المفتوح وتمت إزالة كل الحواجز وبالتالي تم التركيز على كسب اكبر عدد من المستقبلين، وبهذا يزداد الربح، واكبر الأهداف لأصحاب راس المال هو: - الوصول إلى العدد الكافي - تنويع الأنشطة في مختلف الاتصالات. ومن هذا الاستطراد نصل إلى أن الإعلام وظف"بكسر الضاد" بغير ما يجب أن يكون كمنقذ للإنسانية والدم البشري الذي تنشره الحروب على الأرصفة والطرقات. أدخلنا في عصر انهارت فيه كل الثوابت والمعتقدات والآمال المعلقة على المخلص، نحن لا نعرف إلى أين يقودنا صاحب راس المال المتنفذ بالقرارات السياسية وبالتالي المتدخل في تغير البنية الاجتماعية. صور تصل، عبر الريح بعدد حبات الرمل. لو أننا سرنا في شارع ما، أو تجولنا في أزقة المدن، لشاهدنا الهوائيات على اغلب الأسطح، ولا يدل هذا إلا على الاستسلام العام في القرن الحادي والعشرين لهذه الأمطار من الصور والقنوات الفضائية، وكل يوم يدعمه الإنسان بالمزيد من الرغبات بالبحث عن قمر آخر يوفر له استزادة بالمرسلين والمستحوذين عليه، وفي نهاية الأمر يدخل المتلقي عالم اللذة التي والإبهار والإيهام وفلسفة الومضة التي سادت اغلب قنوات الإرسال والعزل وما علينا إلا أن نتحدث عن هذه المقاصد بالتفصيل أو بشيء من الإيضاح، ولنقف عند آخر هذه الاصطلاحات ألا وهو الومضة. الومضة: استطاعت القنوات الإعلامية شد المتفرج إليها وربطه إلى مقعده لساعات طوال مستسلما لما يرسل إليه من ومضات بحيث لا يُسمح له التفكير بما أرسل إليه قبل ثواني لأنه مشغول بما يرسل اليه الآن وحال مرور الثواني يصبح أل "الآن" ماضيا وهذا يعني ليس للمتلقي حاضرا يعيشه وبهذه الآلية يقضي على المستقبل وفي آخر الإحصائيات تقول:يتلقى المشاهد أكثر من 40 ألف ومضة في السنة وعلينا أن نتخيل الزمن الذي تستغرقه هذه الومضات الإعلامية بالنسبة إلى المرسل إليه وما هي الفسحة التي يمكن أن يتحرك خلالها. العزل: بالكاد يعرف المتابع للقنوات الإعلامية مكانه الذي يجلس عليه وأحيانا كثيرة ويحدث هذا للأطفال مثلا يخلطون في الأمكنة، مما يؤدي بعزل المشاهد عن محيطه قد يناديه الآخرون أو يرن جرس الهاتف أو الباب الخارجي لكنه لم يتنبه إلى ذلك، انه مغيب عن عالمه وليس لديه أي خيار في اتخاذ المواقف بل ليس لديه الوقت اللذة: نوقش مفهوم اللذة منذ أقدم العصور وبأطر مختلفة وهذا ليس محل مناقشة هذه الاطاريح ويمكننا ذكرها فقط وعلى سبيل المثال فقد تناولها الفيلسوف اليوناني أبيقور اليوناني 343 – 270 ق.م فصولا كثيرة وكذلك الفيلسوف الإنكليزي جيرمي بنتام 1748 – 1823 ونوقشت عبر المفاهيم الإسلامية أيضا وصولا بفرويد الذي افرد لها كتابا حمل العنوان نفسه، ولان أساطين الإعلام الجدد مبحرين في كيفية الاستحواذ على المتلقي لذا اطلعوا على كل هذه الدراسات بل وأوسع من ذلك بغية اتساع راس المال بطريقة لا يستوعبها عقل. البناء والهدم يفصلهما الإبداع وأنا جالس قبالة التلفاز وحالي كحال الملايين إلا أني أحاول أن أكون المستقبل الواعي كما فرضته الآلية الحديثة التي غيرت قواعد ونظم اللعبة، بعد أن كانت هناك حدود وجغرافية كما أسلفنا وبائع ومشتري. ولان الفضاء فتح على مصراعيه تغيرت المعادلة إلى مزود ومستلمون، وأنا واحد من المستلمين، وجل محاولاتي أن أكون مستلما متيقظا، إذ لفت انتباهي عنوان على أحدى القنوات الفضائية يقول: - وراء كل صورة حدث. وأعادني بالحال إلى أرسطو الذي اطلعت عليه يوم كنت يافعا حيث قال: إن الصورة عند الأديب علامة عبقرية. ونحن نقول من ينتج عشرين كتابا في اللغة والشعر وما شابه ذلك وبينهما عشر صور يقينا يكون الخلود للصور العشر، ولكن عن أي صورة نتحدث، ففي مطلع هذا المحور نفينا أن تكون الصورة المنتجة من الكاميرا اليابانية الصنع والتي بات من السهل أن يصنعها أي كان بمجرد الضغط على الزر. والمقصود إذا هي الصورة التي تكونها البصيرة بدفع وتحريك من المبدع الذي أعطاه أرسطو مكانة العبقرية. فقول هملت في مطلع مشهد الكينونة - أكون أو لا أكون تلك يا نفسي هي المشكلة إنها وبحق مشكلة واستفزاز للنفس والذهنية البشرية، والحوارات البسيطة الخالية من الفصاحة في مسرحية "في انتظار كودة" لبكيت حين يقول: - لاشيء. لاشيء.لا شيء يحدث. إنها اللاشيئية التي تحيلك وبسرعة إلى الفراغ الذي تركته الحرب العالمية الثانية في النفس البشرية بعد أن حطمت في داخلها كل المقدس وأزاحت عنه آمال الخلاص. وإذا حاولنا إيجاد الربط بين حديثنا الأول عن مجتمع الإعلام وفلسفة الومضة وتوظيف هذا وذاك في عالم المسرح نجد، أن وظيفة الإعلام هي دفع الوقائع الحاضرة في الماضي وبأسرع ما يمكن، لكن الفن والمسرح بالخصوص يحاول أن يدفع بالحاضر إلى المستقبل عبر الإبداع، وكلما تشتد الرياح بمحاولة إزاحة المسرح عن الوجود, تتكيف ستائره مع العصر لما له من مرونة وقاعدة لاستيعاب القادم والجديد من الفضاءات المفتوحة لأنه يجمع تقريبا ثلاثة عشر صنفا كما يقول تاديوزكوزان في معرض حديثه عن العرض المسرحي: هو عبارة عن التقاء محتمل للنظم الثلاثة عشر للعلامات المسرحية البصرية. السمعية، الكلمة، الإيمائية، الإشارة، الحركة، الماكياج، التمشيط، الملابس، الإكسسوارات، الديكور، الإضاءة، الموسيقى والصوت. وإذا أمعنا الوقوف عن كل صنف مما ذكر يمكننا بالوقت نفسه التعرف على القدرة العالية لاستيعاب المسرح وهضم كل ما هو جديد من مجريات ملتيميديا الإعلام سينما كان أو تلفاز. إلا أن الفارق هو إن الصورة في الإعلام مجردة غير خالدة تنتهي بانتهاء اللحظة لكن الصورة في المسرح خالدة أو يجب أن تكون هكذا. بقي أن أقف قليلا عند الدور الإعلامي بمجمل وسائله السمعية والمرئية والمقروءة، ومحاولة تحطيم وقمع شعوب ورفع أخرى، وطمس ثقافات وتلميع بعضها، وقد أتضح لي هذا جليا بعد أن عشت ولسنوات طوال في أوربا وبالتحديد هولندا، وعن قرب عرفت كيف يتعاملون مع منطقتنا العربية، ومحاولة ترسيخ الفعل الانهزامي في نفوس الأجيال، ويا للأسف تبنى هذه الأفكار الكثير من كتابنا العرب بدعم فكرة كوننا بعيدين عن الثقافة ولسنا مستعدين لصراع الحضارات وبالتالي ليس لدينا مسرح. بل منهم من يقول ليس لدينا تراث أو حضارة، ولكنهم أدرى منا في تراثنا وعمق حضارتنا التي يعيشون على فتاتها حتى الساعة. وما أقوله ليس عدوانية للثقافية الغربية والتي هي وبحق راسخة وسائدة ولا امتدح حضارتي ومسرحي العربي من باب التبجح أو التمني، وإنما أصواتنا واضحة ولها مكانتها في هذا الوجود إلا أن اللعبة الإعلامية تحاول طمس ما هو إبداعي. ولان الإعلام وكما أسلفت في السابق يسيره التجار الجدد اللذين يحطمون كل شيء إزاء الربح، وهنا يأتي دور المسرح الذي ننشد والمهرجانات التي ندعو بإقامتها في وطننا العربي والعروض السنوية المدعومة من المؤسسات أو الخاصة بان تتبنى السؤال الحضاري الصارخ والباحث عن الوجود الحق، بالوقوف ضد هذه الهجمات عبر الطرح الإبداعي الجديد. وعلينا التنبه جيدا، إلى مسالة غاية بالأهمية، سيبقى ملتصقا بنا كل ما يقال عن همجيتنا ووحشيتنا وبربريتنا إن لم نقف عند ناصية الإبداع بخلق عوالم جديدة من الإبصار والإدهاش وطرح اطر فكرية تستطيع العيش وفق هذا العصر ومحاولة مغايرة الواقع والإتيان بما هو لم يكن موجود سابقا. وكل هذا عليه أن يأتي من بوابة المسرح لأنه خطاب حي بين المتلقي والمرسل والمسافة بينهما بودقة لخلق الإبداع, والأمة التي ليس فيها مبدعين أو إبداع امة ميتة.
عدد زيارات الموقع
160,668
ساحة النقاش