ما إن تطرُق مفردة (الرقابة) أسماع الاعلاميين والمثقفين والمبدعين عموما، حتى تترك تأثيرها السلبي العميق في نفوسهم وأفكارهم.
ولا تنحصر الخطورة بالرقابة كمفردة أو مفهوم بل تتعداه إلى الحدود التي لا تتوقف عندها صلاحيات هذا (المفهوم الفضفاض المخيف) حتى تصل في نهاية المطاف الى كتم الانفاس وتكميم الافواه وتجفيف الاقلام التي تحاول أن تضع الحقائق في نصابها.
فكثير من الحكومات بدأت فرض رقابتها (ببذرة منع صغيرة) تكاد لا تبدو لمن يتفحصها بأنها ستشكل خطرا حقيقيا على حرية الاعلام والإبداع عموما، ثم ما تلبث أن تنمو تلك البذرة لتصبح شجرة كبيرة ومثمرة ينتج عنها مئات وربما آلاف القوانين والقرارات التي تمنع او تعيق العمل الاعلامي والابداعي وتحد من الخط المعارض للسلطة السياسية التي ستتحول مع مرور الوقت الى جهاز دكتاتوري قمعي لا يرى الحياة إلاّ بعين واحدة، وهي تلك العين التي ترى في الاقلام والاصوات (الحرة) عدوا مناهضا لها تريد الشر بها من خلال كشفها لأخطائها، او ترى فيهم مجموعة معارضة تهدف الى إسقاط الدكتاتور من كرسيه.
إذن فإننا نتفق اولاً على أن الرقابة هي سلاح السياسي التنفيذي او التشريعي ضد قنوات الاعلام وحقول الابداع المختلفة، ونتفق ثانيا على أن خطوة المنع الصغيرة الاولى ستقود الى سلسلة من خطوات المنع التي لا تتوقف عند حد، فتتحول الجهة الرقابية حينذاك الى حاكم مطلق ومنزّه ليصل الى تجريم كل من يعارض الحكومة ويضع الحقائق أمام الملأ، لكن سنتفق ثالثا (وبما لا يقبل الشك) بأن الحكومة (أية حكومة) ستدق المسمار الاول في نعشها عندما تتخذ خطوة المنع الاولى التي مثلناها بالبذرة الصغيرة في صدر هذا المقال، وبهذا فإن الخسائر التي تتسبب بها (الرقابة) لن تُلحق الضرر بالشعب وشرائحه المتعددة فقط بل وستقود الحكومة الشمولية الى حتفها قطعا، وهذا ما أثبتته لنا تجارب التأريخ المنظور والقديم على حد سواء.
لذلك لا يجوز للإعلامي العراقي (بل وكل من يهمه الأمر) أن يفرّط بفرصته التأريخية التي تتمثل بحرية الرصد والقول والعمل الذي يقود بالنتيجة الى تنوير الانسان من جهة والى رصد أنشطة الحكومة ووضعها تحت مجهر التدقيق والملاحظة والتأشير من جهة ثانية، ولعلنا نتفق على أن جوهر عمل الاعلام لا يتحقق بمدح الانشطة الحكومية وتلميعها أو الاشارة الى ما تقدمه من اعمال جيدة (فذلك واجبها كما هو متفق عليه) وأن جميع أجهزتها التشريعية والتنفيذية وغيرها، تتقاضى أجورا عن أعمالها بموجب الوظائف المناطة بها، ناهيك عن أن المفهوم الواسع للحرية لا ينحصر بالاعلام فحسب، بل ثمة حرية الفكر والرأي والتعبير وما شابه، ولعل إعاقة الاعلام من خلال الرقابة سيؤدي بالنتيجة الى القضاء على الحرية تماما وفي مختلف مجالات الحياة وهنا تكمن الخطورة القصوى للرقابة الحكومية.
إننا نعيش الآن في بحبوحة إعلامية لم يسبق لنا أن عشناها سابقا، لا سيما بعد أن تضاءلت تهديدات الميلشيات وغيرها، بيد أن البديل المخيف لاختفاء تلك التهديدات هو محاولة جهات حكومية منع الاعلاميين من اداء دورهم او الاعتداء عليهم في بعض الاحيان، وإصدار بعض القرارات التي تحاول ان تحد من حرية العمل الاعلامي وتضاعف عمليات الرقابة عليه، لذلك علينا جميعا أن نقف بوجه مثل هذه الاجراءات التي إن دلّت على شيء إنما تدل على خوف المسؤول من تسليط الضوء على أنشطته الخاطئة التي تلحق ضررا بالشعب، وبالتالي وضعه تحت المجهر ومحاسبته قضائيا او اقصائه (انتخابيا) في صناديق الاقتراع.
على أننا سنتفق وفي ضوء التجارب السابقة بأن منظومة الرقابة الرسمية المانعة لن تتوقف عند تعويق العمل الاعلامي فحسب بل انها ستنتشر كالسرطان المميت في جميع خلايا الانشطة الفردية والجمعية ذات الطابع العملي او الفكري إلاّ بما ينسجم مع اهدافها وتوجهاتها في الحفاظ على سطاتها حتى لو كانت لا تخدم الشعب.
من هنا يتوجّب علينا أن نرصد محاولات تفعيل الرقابة وأن نعي مدى الخطورة الفادحة التي سننتهي إليها جميعا (قادة ومقودين)، لأن المثل الصيني الشائع يقول (مسافة الألف الميل تبدأ بخطوة واحدة) وأن منظومة الرقابة الرسمية المتسلطة (تبدأ بقرار منع واحد) قد يبدو للمتفحص غير ذي أهمية لكنه سيكون بمثابة الخطوة الاولى التي تقودنا الى رقابة سلطوية شاملة ومميتة في آن، لذا يتوجب علينا ما يلي:
- أن نعلن بأعلى أصواتنا (إعلاميون ومثقفون ومصلحون ومبدعون وغيرهم) رفضنا القاطع لأي نوع من انواع الرقابة على قطاعات الاعلام كافة.
- أن نعلن رفضنا القاطع على تشكيل أجهزة رقابة على المطبوعات الصادرة داخل البلد أو خارجه.
- أن تتشكل لجنة من ذوي الشأن بدراسة الكتب المضادة وكيفية معالجتها بالكتابة المضادة وتوضيح الرأي، بمعنى استخدام لغة الحوار وليس المنع، وهي أجدى من غيرها لأن الممنوع مرغوب وأن معالجة الفكر المضاد لا تتحقق بمنعه بل بدراسته وتأشير مكامن الخطأ فيه.
- أن يؤمن السياسي التنفيذي والتشريعي وغيرهما، بأن لغة الرقابة والمنع ستطيح به عاجلا أم آجلا.
- أن يتدخل رجال الدين في رسم استراتيجة مكافحة الافكار المضادة وليس منعها.
- وأخيرا على الجميع (سائلا أو مسؤول) أن يعرف بأن السماح بأي نوع من انواع الرقابة سيقود الى رقابة سلطوية قمعية شاملة، لهذا ينبغي اعتماد التحاور ومقارعة الفكر المضاد بالفكر الذي نؤمن به.
ساحة النقاش