abdelaliem

موقع مخصص (بالتكنولوجيا الحديثة بوجة عام وبالاعلام بوجة خاص)

كلمة المسرحي الكبير ريتشارد شيكنر في افتتاح مهرجان المسرح التجريبي بالقاهرة:

 

ما هو المسرح التجريبي؟

 

  

اننا نحيا في زمن الأزمات والصراعات العنيفة والحاجات الانسانية التي لا تجد من يلبيها. ففي جنوب القاهرة هناك دارفور، والى شمالها الشرقي هناك غزة والأراضي المحتلة. واذا نظرت أبعد في الاتجاه نفسه، فسترى العراق وايران وباكستان وأفغانستان. ونحن ـ معشر البشر ـ ندمّر الهواء من حولنا، وكذلك المحيطات والتربة الزراعية والغابات.
يعاني آلاف الملايين من البشر، الجوع والفقر والمرض والبطالة الجزئية أو الكلية، ويرزحون تحت وطأة حكام مستبدين، ويتعرضون للاستغلال، ومن ثم يشعرون ـ عن حق ـ بالغضب، بل بلغ بعضهم حد الشعور باليأس.

ازاء هذا كله، ما دور المسرح التجريبي؟. هل له أهمية؟ هل يستطيع ـ بطريقة ما ـ أن يتصدى لاحتياجات عالم اليوم؟
لقد تطورت الحركة الطليعية خلال المئة عام الماضية بصورة معقدة، بحيث بات من الصعب انتظامها تحت عنوان واحد. فهناك الطليعية التاريخية، والطليعية التي تنظر الى الامام وتستشرف المستقبل، وهناك الطليعية الباحثة عن التقاليد، وأخرى تنشد التداخل بين ثقافات مختلفة، هذا الى جانب الطليعية الحالية التي لا تفتأ تتغير من يوم الى يوم. وقد ينتمي العمل الفني الواحد الى عدد من هذه المسارات.

لقد برزت هذه الاتجاهات الطليعية الخمسة كاتجاهات منفصلة؛ لأن كلمة الطليعة، بمعنى ما يشغل موقع المقدمة بالنسبة الى شيء ما ـ أي بمعنى الرياة أو التبشير، أو وضع نموذج تجريبي أول، أو الوقوف على الحافة القاطعة بين مسارين، تلك الكلمة لم تعد وحدها صالحة لوصف الأنشطة المتعددة التي يقوم بها المؤدون والمؤلفون والمخرجون والمصممون المسرحيون والممثلون والدارسون في ظل ثقافات مختلفة، وظروف تتباين تبايناً شديداً.

لقد بدأت الطليعية التاريخية في أوروبا خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وسرعان ما امتدت الى مناطق أخرى من العالم. وتمثلت هذه الحركة الطليعية الأولى في المذهب الواقعي الذي سرعان ما استدعى نقائضه، مفجراً اتجاهات معارضة، فظهرت الرمزية والمستقبلية والتكعيبية والتعبيرية والدادية والسريالية والتركيبية، وغيرها، فتوالت الأسماء على الساحة، ومعها المانيفستوهات والأعمال الفنية التي كانت ما ان تظهر حتى تختفي، معبرة في سرعة تلاحقها عن هدفها الحقيقي؛ ألا وهو الترويج للاختلاف الفني، وتقويض أي تيار يبدو وكأنه يدّعي لنفسه الثبات والخلود.

المستقبل لنا منذ خمسينيات القرن الماضي، ظهر في أوروبا وأميركا الشمالية ـ جنباً الى جنب ـ فنانون يتطلعون الى المستقبل، وآخرون ينشدون التقاليد. أما المتطلعون الى المستقبل فيوظفون الوسائط المتعددة (مالتي ميديا)، وشبكة المعلومات الدولية (الانترنت)، والاضاءة الكلية المجسدة (الهولوغرام)، والروبوتات، والتراكيب الحاسوبية (السايبورج)، والذكاء الاصطناعي، وما الى ذلك من وسائل التكنولوجيا الحديثة.

بعض هؤلاء ـ مثل ستيلارك واورلان ـ يحذون حذو العلماء الذين يجرون التجارب في مجالات التعديلات الجينية وزراعة الأعضاء، فيؤمنون أنهم يشكلون نوعاً جديداً من البشر.
وهناك آخرون يسعون مثل مجموعة (اميريكان بيلدرز اسوسييشن) الى تكرار نموذج شبكة الاتصالات العالمية، فيمزجون الأداء الحي بوسائط الاتصال والانترنت، ويجسد هؤلاء المتطلعون الى الامام في أعمالهم صورتين مختلفتين تماماً للمستقبل؛ احداهما طوباوية. والأخرى كابوسية.
ويقف الباحثون عن التقاليد، مثل اتباع جيرزي جروتوفسكي في كل بقاع العالم، او الممارسون لتقاليد الـ "بوتو" اليابانية، على طرف النقيض من المتطلعين الى المستقبل.
ينهض هذا النوع من المسرح التجريبي الباحث عن التقاليد على فكرة امكانية اكتشاف أو اعادة اكتشاف الأنشطة "القديمة" أو المنبثقة من النماذج الفطرية عن طريق اسلوب في "البحث عبر الأداء" يتسم بالانضباط الشديد والصرامة. وهذا النوع من البحث يتم على المستويين الشخصي والثقافي. وهو عموماً يتم دون الاستعانة بالتكنولوجيا الرقمية التي تميز التوجه الطليعي المستقبلي.

تتصل الطليعية القائمة على التداخل بين ثقافات مختلفة اتصالا وثيقاً وبالطليعية الباحثة عن التقاليد. ولكن بينما يسعى الباحثون عن التقاليد الى انجاز أعمال فنية تتمتع بالاتساق والوحدة، يركز بعض العاملين في مجال التداخل الثقافي على استكشاف التناقضات والتمزقات التي قد تنتج من الاتصال والاختلاط الثقافي، وفي هذا يكمن الفرق بينهما.

بين ثقافتين

ولقد عبر جويللرمو جوميز بينا عن هذا حين كتب يقول: "إنني أحيا جسدياً بين ثقافتين وفترتين زمنيتين مختلفتين. فحين أكون في الولايات المتحدة أستطيع الحصول بسهولة على التكنولوجيا المتقدمة والمعلومات المتخصصة. وحين أعبر الحدود عائداً الى المكسيك، فإنني أنغمس تماماً في ثقافة سياسية شديدة الثراء. انني اسير على خيوط الانتقال بين هذين العالمين في حياتي اليومية، وأخلق فناً يدور حولها".

ان الفن القلق الذي ينتجه جوميز بينا، يجسد حقيقة تقول انه في كل أمة هناك بشر يشعرون بعدم الانتماء، ويحيون حيوات ثقافية متعددة، فالأمة بوصفها كياناً ينتمي اليه الانسان، آخذة في الذوبان. ومع ذلك، فإننا نجد في مقابل ذلك بعضا من صناع المسرح المتداخل الثقافات يحتفون بهذا التنوع الثقافي.

ومن هؤلاء أونج كنج سن، مؤسس مشروع "فلاينج سيركاس"، الذي يضم فنانين من ثقافات آسيوية مختلفة، ويوظف أنواعاً واساليب مسرحية مستقاة من هذه الثقافات. وقد كتب اونج واصفاً مشروعه بأنه: "معمل طموح، وعلى نطاق عريض، يضم مجموعة منوعة من الفنانين الآسيويين، فبينهم متخصصون في الأفلام الوثائقية والفنون البصرية، ومؤدون برعوا في تقليد النساء، ومؤلفون لموسيقى الـ "روك"، وموسيقيون يصنعون موسيقاهم باستخدام الكومبيوتر (الحاسوب)، و "دسك جوكيز" (مقدمو برامج موسيقية)، وراقصون من مدرسة الرقص الحديث، وممثلون الى جانب متخصصين في اقامة الطقوس وتأديتها، وأنواع أخرى من المؤدين التقليديين".
أما التيار الطليعي الخامس، والأخير، اي الطليعية الحالية، فإنها ـ تعريفاً ـ ما يحدث الآن، و"الآن" بالطبع يتغير دائماً من حيث الزمان والمكان.

إنني لا أدري ما الذي سأشاهده في القاهرة، لكنني اعلم انه سيكون شيئاً فريداً بالنسبة الى ظروف هذا المهرجان، ونيات القائمين عليه، وصورة عالم المسرح التجريبي كما تتبدى من منظور مصري.
ان الطليعية الحالية تتضمن أعمالاً تتوجه الى المستقبل، وأخرى تبحث عن التقاليد، أو تشتغل على التداخل الثقافي. وما سوف نشاهده خلال الأيام العشرة القادمة سوف يوفر لنا قاعدة تمكننا من قياس المسافة بين الطليعية الحالية والطليعية التاريخية. هل ستتسم الأعمال التي سنراها بالتجديد؟ هل ستطرح أفكاراً جديدة حول بعض المشكلات العالمية التي ذكرتها في بداية حديثي؟

إنني أؤمن ان الفنانين ـ وبخاصة التجريبين منهم ـ يتحملون مسؤوليات فريدة. ان الأصل الاشتقاقي لكلمة "تجريبي" يعني الذهاب خارج، او بعد الحدود. والحدود ليست مادية فقط؛ بل هي مادية وفكرية في الوقت نفسه، وهي تفصل بين الأمم والشعوب والأفكار. ومع ان الحدود قد تكون في الغالب ضرورية، فإن ثمة أمكنة وأزمنة يتعين فيها علينا ان نعبر هذه الحدود، ان نفكر في ما قد لا يخطر على بال، أو ما قد لا يصدقه عقل، وان نمثل في عوالم الخيال ليس فقط ما يحدث الآن؛ بل ايضاً ما سوف يحدث مستقبلاً.

ان العلم التجريبي يعتمد أساساً على طرح الفرضيات واختيارها ثم مراجعتها. اما التجريب في الفن فشيء آخر. فالتجريب الفني يتأسس على التجسيد، وتوظيف الرمز والاستعارة، واللعب على كل أوتار الخيال البشري.
ولكن، لأي هدف؟ بهدف دفع الحدود مسافة أبعد، وتوسيع الآفاق، ومساءلة العقائد القائمة وتحديها، وخلق مجتمعات من الفنانين والجماهير، قد تكون مؤقتة لكنها قوية، ولإظهار كيف يمكن للناس العبور مراراً وتكراراً، جيئة وذهاباً، بين الفعلي والمتخيل الى ما لا نهاية.

ان الفنان التجريبي حين يحيا هذا العبور الدائم، ويظل دوماً يخترق الحدود ذهاباً وعودة، يستطيع حينئذ ان يسهم في خير الانسانية وسعادتها
.

المصدر: http://www.moheet.com/show_files.aspx?fid=312805 ** منشور بصحيفة "المستقبل" اللبنانية بتاريخ 26 أكتوبر 2009
abdelaliem

الاعلام بداية تطور جميـع المجالات

  • Currently 105/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
35 تصويتات / 611 مشاهدة
نشرت فى 23 إبريل 2010 بواسطة abdelaliem

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

160,664