أخلاقيات التكنولوجيا!
بقلم: د. أفنان نظير دروزه
عرفت المهن منذ قديم الزمان, وعرف معها مواصفاتها وقوانينها وأخلاقياتها. وهذه الأخلاقيات هي التي تلزم الإنسان أن يتصرف بالشكل اللائق ويتحرك ضمن الذوق والأخلاق سواء أكان مع زملائه في العمل, أو مع الناس الآخرين الذي لهم علاقة بالعمل. بل تعتبر أخلاقيات المهنة من القوانين والشرائع والمواصفات التي يضعها المختصون لكي يلتزم الشخص بها ويسير على نهجها وينظم علاقته بغيره من الناس وفقها.
فعلى سبيل المثال لا الحصر, من أخلاقيات مهنة الطب أن يكون الطبيب إنسانا لطيفا يلتزم بالصدق والأخلاق, فإذا لم يتعرف على داء أو لم يستطع أن يشخص مرضا, عليه يحول الحالة التي بين يديه إلى الطبيب المختص حتى لا يسبب للمريض المعاناة نتيجة جهله بالمرض. ومن أخلاقيات مهنة الهندسة أن يكون المهندس أمينا صادقا في تقديره لتكلفة البناء وما سيتقاضاه من أجر مقابل هندسته وتخطيطه وإشرافه لا أن يغرق المالك في بناء أكثر من طاقته وإمكانياته. ومن أخلاقيات مهنة التدريس أن يكون المعلم مخلصا في عمله يحترم زملاءه وعلى درجة عالية من الأدب والأخلاق, ويعتبر الطلبة أمانة في عنقه, همه أن يعطي أحسن ما عنده في تعليم النشء وتربيتهم ليكونوا أعضاء صالحين في المجتمع لا أن يكون مهملا كسولا غير مبال بنتائج إهماله وما يعكسه ذلك من ضرر على طلابه. وكذلك الحال مع العامل والصانع والصحفي والإداري إلى غير ذلك من المهنيين.
وبغض النظر عن تلك المهنة أو ذاك, فلكل مهنة أخلاقياتها, ولكل مهنة مواصفاتها وقوانينها, وعلى الشخص العامل بها أن يلتزم بمادئها وشرائعها, فلا يتعدى على حقوق الآخرين, ولا ينتهك حرماتهم, ولا يخرق حرياتهم, ولا يزعجهم, ولا يضرهم, ولا يتجسس عليهم من أجل مآرب شخصية أو منافع مادية, بل يجب أن يتعامل معهم باحترام وتقدير بما يخدم المهنة والصالح العام, وعليه ألا يكذب أن يسرق أو يتجسس أو يتملق أو ينافق الخ من السلوكات المرفوضة اجتماعيا وأخلاقيا.
وإذا ما اعتبرنا التكنولوجيا مهنة من المهن, فنجد أن لها أيضا أخلاقيات يجب أن يلتزم بها كل من يستخدمها أو يسوَقها أو يتعامل بها. فاستخدام التكنولوجيا بجميع أنواعها من تلفونات, وبلفونات, وحواسيب, وإنترنت, وتلفزيونات, وستالايت, وفيديوهات, وأشرطة, وكاميرات وغيرها من الأدوات, يجب أن يخضع لقوانين وضوابط وأخلاقيات. ولعل من أبسط أخلاقيات التكنولوجيا أن لا تستخدم في إزعاج الآخرين, أو إلحاق الضرر بهم, أو العمل على غوايتهم, أو إفسادهعم, أو سرقة أموالهم, أو انتهاك حرماتهم, أو الاعتداء على حرياتهم الشخصية والاجتماعية, إذ أن التكنولوجيا ما وجدت إلا لخدمة الإنسان ورفاهيته, وتسهيل حياته, والعمل على راحته وإسعاده وتطويره, ورفع جودة عمله وصناعاته, وتسريع عملية اتصاله وتواصله سواء مع أهله أو أقاربه أو أصدقائه أو العالم من حوله.
إلا أن بعض الناس ما زال يجهل الغرض الذي اخترعت من أجله التكنولوجيا, ولا يعرف كيف يستخدمها الاستخدام الأخلاقي الصحيح, بل وانحدر به الذوق وتدنت به القيم لدرجة أنه أخذ يوظفها في إزعاج الآخرين وانتهاك حرماتهم والتعدي على حقوقهم وحرياتهم, حيث نلاحظ أن هناك نفرا من الناس يستخدم التلفون أو البلفون لمعاكسة الآخرين بدل أن يستخدمه كخادم أمين, ومنهم من يستخدم البريد الإلكتروني في إرسال رسائل غير هادفة بدل أن يستخدمه في إرسال رسائل ضرورية ومهمة, ومنهم من يستخدم غرف المحادثة للمحادثات غير الضرورية بدل أن يستخدمها للتبادل الفكري والاستماع للرأي الآخر, ومنهم من يستخدم الستالايت لبث برامج إغوائية بدل أن يستخدمها لبث برامج علمية مفيدة, ومنهم من يستخدم الكاميرات والنواظير للتجسس على الآخرين بدل أن يستخدمها للأغرض العلمية والمناسبات الاجتماعية المفرحة, ومنهم من يستخدم المايكروفونات لإزعاج الآخرين وقطع عليهم حبل أفكارهم وقض مضاجعهم بدل أن يستخدمها للندوات والمؤتمرات والحالات الخاصة بها, ومنهم من يستخدم الإنترنت لسرقة الأموال, وانتحال البحوث العلمية, والمقالات الأدبية والمعلومات الدينية ونسبها لأنفسهم بدل أن يستخدمها للفائدة العلمية والأغراض التجارية بأمانة وصدق وتوثيق, إلى غير ذلك من الأمثلة التي تدلل على سوء استخدام التكنولوجيا عالميا وانحرافها عن الغرض الذي اخترعت من أجله.
صحيح أننا لا نستطيع أن نمنع الآخرين من أن يستخدموا التكنولوجيا بشكل خاطئ أو يزعجوا بها الآخرين, ولا نستطيع أيضا أن نبرمج تصرفاتهم وفق الأصول المرعية والذوق والأخلاق الحميدة, إلا أننا نستطيع أن نربي أولادنا على الذوق والأخلاق في استخدامها ومعاملة الآخرين. وصحيح أننا لا نستطيع أن نجبر الآخرين على استخدامها التكنولوجيا بالشكل الأخلاقي الصحيح, ولكننا نستطيع أن نتوجه إلى القضاء والشكوى ضدهم إذا ما انتهكت حرياتنا الشخصية والاجتماعية وتعرضت للخطر. وصحيح أننا لا نستطيع أن نمنع الشركات العالمية من أن توقف برامجها الإغوائية وأعمالها العدوانية التي تجني من ورائها أرباحا طائلة, ولكننا نستطيع أن نعلم أنفسنا الانضباط والتحكم الذاتي حتى نعرف ما الذي نريده وما الذي لا نريده, وما البرامج التي نرغب بمشاهدتها وما البرامج التي لا نرغب بمشاهدتها, ونستطيع أن نجعل من ضميرنا الرقيب علينا لا أن نجعل من الرقيب الخارجي والناس الآخرين الرقيبين علينا يتحكموا بأمرنا ويشكلوا تصرفاتنا.
وبالتالي لا بد أن نعرف أن تنمية الضمير والمراقبة الذاتية هما الأساس في التربية والتعليم وتشكيل السلوك, وأن الأخلاق يجب أن تنبع من الداخل لا أن تفرض على الآخرين من الخارج, ويجب أن يتحلى الإنسان بالأدب والأخلاق والذوق لصفاتها الجمالية وفوائدها الإنسانية ونواتجها الخيرة المريحة لا من أجل الحصول على المكافئات المادية والمعززات الخارجية التي سرعان ما تزول الأخلاق بزوالها. فالإنسان أولا وأخيرا هو المتحكم بأمر نفسه, وهو المشكل لسلوكه وتصرفاته, وهو الراسم لإطار شخصيته ومستقبله. أما أن ننتظر من الآخرين أن يعدلوا ويبدلوا في أخلاقهم وتصرفاتهم وإنتاجهم لكي نتصرف ضمن الأخلاق أو لكي نحافظ على الأخلاق, أو نمنعهم من بث برامجهم الإغوائية ووقف تصرفاتهم الجنونية لكي نكون مؤدبين ورعين تقيين, فهذا هو الجنون بعينه إن لم يكن ضربا من ضروب الوهم والخيال. فالتحكم الذاتي والانضباط الداخلي هما الأساس في أي تربية وتعليم وذوق وأخلاق, والضمير الداخلي هو الرقيب الحقيقي على الإنسان وليس الرقيب الخارجي.