هذا مقال الهدف منه فتح نقاش بشأن مستقبل الحياة السياسية فى مصر بعد أن استعاد المصريون ملكية وطنهم، وعليهم الآن أن يحددوا طريقة إدارته. وكى نجيب عن هذا السؤال، فلنبدأ بالتعرف على المثالين التقليديين للنظامين الرئاسى والبرلمانى مع توضيح أهم خصائصهما وكيف أن الدول الديمقراطية المختلفة سعت إلى «هندسة مؤسسية» للمزج بينهما وتجنب عيوبهما.
ولنبدأ بالشكل التقليدى للنظام الرئاسى (على النمط الأمريكى): فى هذه الحالة سيذهب المواطن المصرى للانتخابات مرتين (بالإضافة للمحليات وغيرها)، مرة لانتخاب رئيس الجمهورية ومرة لمجلس الشعب. علاقة الرئيس بمجلس الشعب هى علاقة تكامل وانفصال تشريعى. رئيس الجمهورية هو رئيس السلطة التنفيدية ومجلس الشعب هو السلطة التشريعية. رئيس الجمهورية سيجمع بين صفتين:
رأس الدولة ورئيس الحكومة (مثل أوباما)، ولن يكون هناك رئيس وزراء. وستكون له سلطات وصلاحيات واسعة ولكنها ستكون مشروطة بموافقة مجلس الشعب الذى يملك صلاحية منع تمرير القوانين ومنع توفير الموارد المالية لقرارات الرئيس (وهذا هو ما يعرف بالسيطرة على المحفظة). ومن أهم صلاحيات رئيس الجمهورية هو حقه فى اختيار وزرائه الذين يعملون بصفتهم مساعدين للرئيس. وكى يكون هناك انفصال حقيقى بين السلطة التنفيذية (الحكومة) والتشريعية (مجلس الشعب) فإن الوزراء لا يمكن أن يكونوا أعضاء فى مجلس الشعب، بل هم لا يمكن أن يُعزلوا من مناصبهم بقرارات من مجلس الشعب (أى لا يوجد فى النظام الرئاسى تقليديا فكرة طرح الثقة بالحكومة)، وإنما هم يعلنون أنهم لن يتعاونوا مع الحكومة طالما أن هناك وزيرا معينا لا يحظى بثقتهم، وإن كان هذا لا ينفى حق المجلس فى طرح أسئلة عليهم.
ماذا عن شكل مصر فى ظل النظام البرلمانى الجمهورى؟
هنا ستكون مصر أقرب إلى نمط تركيا والهند وباكستان وإسرائيل. فى هذا النموذج، وكما يبدو من اسمه، البرلمان هو مطبخ الحياة السياسية. هنا المواطنون ينتخبون البرلمان (ولا ينتخبون الرئيس بشكل مباشر عادة) ثم يترك للبرلمان أن يدير جميع الأمور السياسية فى البلاد. ولهذا يطلق على هذا النمط، نمط تركيز السلطة ودمجها، عكس النظام الرئاسى الذى يقوم على انفصال السلطة والتكامل بينها.
الحزب أو مجموعة الأحزاب التى تشكل الائتلاف الفائز فى الانتخابات هى التى تشكل الحكومة. ويكون أعضاء الحكومة من أعضاء مجلس الشعب المنتخب.
أى هنا سنكون أمام نمط «الوزير النائب» حيث كل وزير فى الحكومة هو أصلا أحد أعضاء البرلمان. ورئيس الوزراء هو رئيس الحزب الفائز فى البرلمان (مثلما كان النحاس باشا قبل عام 1952). وهنا ينتخب البرلمان رئيسا شرفيا ليس له سلطات حقيقية فى حالة وجود رئيس وزراء يحظى بأغلبية الأصوات فى مجلس الشعب. ولو فقد رئيس الوزراء أو الحكومة ١ فى مجلس الشعب، يبرز الدور السياسى للرئيس الشرفى حيث يكلف عضوا آخر فى مجلس الشعب (أو ربما يعطى فرصة أخرى لرئيس الوزراء السابق) لتشكيل الحكومة الجديدة. ولو نجحت الحكومة الجديدة فى الحصول على أغلبية الأصوات، يعود الرئيس إلى موقعه الشرفى. وإن لم يكن هناك من أعضاء البرلمان من يستطيع تشكيل حكومة تحظى بالأغلبية، فيدعو الرئيس إلى انتخابات جديدة.
ما هى أهم خصائص النظامين؟
يتصف النظام الرئاسى بخاصيتين: الاستقرار، واحتمال الشلل السياسى.
الاستقرار بمعنى أن رئيس الجمهورية لا يستطيع حل مجلس الشعب ولا مجلس الشعب يستطيع عزل رئيس الجمهورية الا بتهمة الخيانة العظمى وبأغلبية خاصة جدا (عادة الثلثين). ولكن يبقى العيب الأساسى لهذا النظام هو احتمال وصول النظام إلى حالة من الشلل السياسى لو أن الرئيس وأغلبية مجلس الشعب يأتيان من حزبين متعارضين تماما فى برامجهما السياسية. ولكن هذا ليس حتما مقضيا، فهنا ستتوقف المسألة على المهارة والمرونة السياسية للوصول إلى حلول وسط.
النظام البرلمانى يتصف كذلك بخاصيتين: الأولى أن رئيس الجمهورية من حيث المبدأ لا يمكن أن يكون فرعونا جديدا لأنه لا يملك صلاحيات تمكنه من ذلك إلا كمدير انتقالى لمهام الدولة بعد طرح الثقة بالحكومة والدعوة لانتخابات جديدة. ولكن ثانيا هناك عيب عدم الاستقرار. فإذا كنا نعرف على وجه الدقة متى ستكون انتخابات الرئيس الأمريكى والكونجرس (لأنه نظام رئاسى)، فنحن لا نعرف تحديدا متى الانتخابات القادمة فى الهند مثلا. لأن الحكومة يمكن أن تفقد أغلبيتها البرلمانية نتيجة أى تصويت بطرح الثقة عنها. وهذا خطر محتمل فى الدول التى يوجد فيها تشرذم حزبى.
هل من الممكن الجمع بين بعض خصائص النظامين؟
هذا هو ما قامت به معظم دول العالم حديثة التحول الديمقراطى.
فمثلا، يمكن لمصر أن تتجنب بعض عيوب النظام البرلمانى من خلال الضمانات الدستورية التى أخذت بها دول أخرى على النحو التالى:
آلية النصاب التصويتى التى تعنى ألا يستطيع حزب أن يمثل فى مجلس الشعب إلا إذا حصل على حد أدنى من الأصوات على مستوى الجمهورية. وهى آلية عرفتها مصر فى الثمانينيات كأن يشترط فى أى حزب يمثل فى البرلمان أن يحصل على نسبة 5 % من أصوات الناخبين على مستوى الجمهورية. والهدف قطعا هو ألا نجد داخل البرلمان 50 حزبا سياسيا لمجرد أن هناك 50 حزبا فى الشارع السياسى. لقد حصل حزب العدالة والتنمية فى آخر انتخابات فى تركيا على 47 % من الاصوات لكنه انتهى إلى 62 % من المقاعد لأن العديد من الأحزاب الصغيرة فشلت فى دخول البرلمان لأنها لم تحصل على 10 % كنصاب تصويتى.
خوفا من أن يؤدى طرح الثقة بالحكومة لتعطيل دولاب العمل الحكومى فجأة (مثلما يحدث بشكل متكرر فى الكويت ولبنان)، تضع دولة مثل اليابان قيدا
على إجراء طرح الثقة بألا يتم إلا فى نهاية الدورة البرلمانية.
وتقدم ألمانيا خبرة «الطرح بالاستبدال» بمعنى ألا يتم قبول طرح الثقة من الحكومة القائمة إلا إذا كان مقدمو طلب طرح الثقة قد أعدوا بالفعل قائمة بأسماء الوزارة الجديدة والتى تأكد أنها قد حصلت على أصوات الأغلبية؛ أى لا مجال لأن تظل البلاد بلا حكومة ذات أغلبية برلمانية.
والأمر كذلك يسرى على النظام الرئاسى الذى يمكن الحد من صلاحيات السلطة التنفيذية فيه من خلال:
1- أن يتم تفتيت سلطة رئيس الجمهورية بينه وبين رئيس وزراء يحظى بثقة البرلمان (النظام شبه الرئاسى)، فنترك لرئيس الجمهورية صلاحيات أكبر فى مجال الشئون الخارجية والدفاع، مثل النموذجين الروسى والفرنسى.
2- أن يُحاسب الوزراء أمام مجلس الشعب ويستطيع أن يعزلهم حتى لو كان من عينهم الرئيس (مثل النظام السياسى البولندى).
3- أن تكون قدرة البرلمان على عزل الرئيس ليست بأغلبية خاصة (مثل أغلبية الثلثين)، ولكن بأغلبية أقل (وهو ما أدى إلى موجة عزل الرؤساء فى أمريكا اللاتينية فى التسعينيات ومطلع هذه الألفية).
4- أن يكون البرلمان قادرا على تمرير القانون حتى لو رفضه الرئيس بأغلبية بسيطة (50 % +1) مثل البرازيل، وليس بأغلبية الثلثين.
مما سبق، أزعم أن الأفضل لمصر أن تتجنب الحالتين الخالصتين للنظامين الرئاسى والبرلمانى، وإنما أن تأخذ أحدهما مع الضمانات والتعديلات التى يمكن أن يقترحها أساتذة النظم السياسية المقارنة والقانون الدستورى. وهو ما سيتطلب فهم أسباب إخفاق بعض النظم السياسية رغما عن أن دساتيرها تبدو جيدة على الورق. فلا نريد لمصر أن تحظى بمصير نظام برلمانى على النمط الباكستانى أو العراقى، ولا بمصير نظام رئاسى على النمط الفينزويلى أو المكسيكى.
ساحة النقاش