جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
- انتهاك حرمة اللّغة في النّص المعاصر / قراءة في (براءة مِنكَ إليك) د: سجال الرّكابي .
- شاهين دواجي
- الحقيقة أنّ هذا الموضوع شغفني حبّا منذ مدّة لكنّني لم أجدْ المثال الشّعريّ الذي أقدّم الذي يكون محلّ التطبيق كعادتي أقدّم الجماليّة نظريّا ثمّ أعطي تمظهراتها في نصٍّ ما إلى أن وقع بين يدي نص "(براءة مِنكَ إليك) للعراقية سجال الركابي فوجدته فيه خير مثالٍ .
- يقول كولوريج في معرض حديثه عن الشّعر : "أجود الالفاظ في أجود نسق، وإنه تخير لمداليل بعينها" .
- من قول كولوريج نستشفّ أن التمايز بين الشعراء إنّما يكون بقدر طواعية اللغة لأناملهم ، لأنّ مهمّة الشاعر أن يخرج بالخطاب من الوظيفة البلاغية الى الوظيفة الجماليّة ولا مانع أن يحافظ على الاولى من باب أن الشعر فكرة أساسًا ...
- أنّ الحداثة الشعرية تؤمن أن كل لفظة صالحة لأن تكون ضمن التشكيلات الشعرية شرط أن يتمكن الشّاعر - من خلال قدرته ومهارته – من أن يستعمل الكلمة ويبعث فيها قدرته الروحية لكي تصبح أكثر قوة واوضح معنى من غيرها فالكلمة بهذا المعنى هي "ابنة " بيولوجية للشّاعر لأنها تتضمن جزءٍ من روحه . يعجبني هنا تشبيه أورده نزار قباني - في معرض حديثه عن التشكيل الشعري – حيث يرى أنّ اللغة هي الحجارة التي تبني بها افكارنا اما الشعر فهو ذلك الفن الهندسي الذي يحول الحجارة الى قصور كقصور ألف ليلة و ليلة .
- ماقلته عن اللغة الشعريّة قبل قليل يمسّ الجانب التّجاوري التركيبي للغة والذي نعبر عنه باللّقطات النحوية والبلاغية في النقد فكان تمهيدًا ادخل من خلاله لفحوى موضوعي .لأنّ ما أريد بيانه الآن هو اللغة الشعريةالحداثوية من حيث بنية الكلمة نفسها وتمظهراتها الوظيفيّة .
- لنتأمّل هذا النصّ:
(براءة مِنكَ إليك) / د سجال الركابي
أتنفّسكَ أعطشكَ...
... أسقيك
أُغادِرك غيرىٰ
أهجوكَ غزلاً ...
أُراضيك
أأرقكَ ... أنعسكَ
أغرَقُ
أعومُ فيك
أهرب منكَ... !
لَهفىٰ أُلاقيك ...
شِعراً شعراً
ليس سواه يشِمُكَ فيًّ
يزرعني بعينيك.. !!!
يشِمُكَ : من الوشم
- النصّ كما نرى تشكيل عاطفي هامس ورقيق يفيض من أنثى عاشقة متطرفة في عشقها ، حيث يتكون هذا التشكيل من معجم غزليّ بامتاز لا يحتاج منّا الى تدليل . لكن الملاحظ للوظيفة النّحوية لبعض الالخبرات اللّفظيّة يصاب بدهشة من مردها انتهاك صارخ لأعراف اللغة ووظائفها لنتأمل العلامات التالية :( أعطشك / أأرقك / أنعسك ) هي كلّها أفعال لازمة لا تطلب مفعولًا غير أنها هنا " استحوذت "على "مفعول ضال"؟
- الشاعرة هنا انتهكت قاعدة التعدي في الفعل فأعطت هذه الافعال ما ليس لها ؟ خارقة بذلك إجماع أهل اللغة ؟
- لتكتمل صورة هذا الإنتهاك لابد ان نعرف من هو المفعول الضّال : "الحبيب " ؟
- يستحيل هنا أن نجد المعادل الموضوعي لـ : الحبيب "المفعول " لسببين أن الشاعرة تقصد المعنى الحرفي وثانيّا لأن الفعل باقٍ على "لزومه" من حيث أنّه لم يتعرض لأي زيادة في مبناه تزيد في معناه كما يقرره أهل اللغة .
- ولننظر ألى زمن هذه الافعال لنجدها مضارعةً تدل على الإستمراريّة ؟
- السؤال الآن كيف السبيل ألى جمع شتات الدّلالة تحت وطأة هذا الإنتهاك اللغوي ؟
- الشاعرة هنا تنحو منحى الصوفيّة بطريقة ما حين تعبر عن "الإتحاد والحلول " فالعطش والارق و النعاس هي عوارض ملازمة للذات تحسها الذات داخلها أي أن الشاعرة تبحث عن هذا المحبوب داخلها من حيث هو " بُضْعَةٌ" منها وهنا قمّة العشق .
- أحسّت الشاعرة أنّ تشويهًا ما أحدثته فعلتها ( انتهاك حرمة اللّغة ) فاستبقت التّبرير بعنوان يحمل سيميائيّة ذكيّة لأنّه يحيل على معنى ديني طالما تكرّر في النّص المقدّس يلخّص انقياد العبد لخالقه : (نفرّ منك إليك / لاملجأ منك إلّا إليْك / أعوذ بك منك ) فهذه الأحاديث الشريفة تحيلنا على المساحة التي يتحرك داخلها العبد والتي تمتدّ من الله وإلى الله الذي يملك رقبته ، وهذه إحالة ذكيّة من الشاعرة شكلا ودلالة . فهي تتبرأ من هذا الحبيب إليه لأنه المالك لها .
- في خضمّ الفعل الشعري تنوّع الشّاعرة الأنتهاكات لئلّا يشعر المتلقّي بالرّتابة لكنه انتهاك من نوع آخر مهمّته خدمة الأنتهاك الأول ويمكن أن نحصر هذا في المتجاورات العكسية كما يلي :
* أهجوك / غزلًا
* اغادرك / غيرى
- هذه المتضادّات كما قلت تكريس للأنتهاك الاول لأنها انتهاك بلاغي تجاوري ، فكيف يكون الغزل الرّقيق هجاءًا ؟ وكيف نهجر والغيرة تسكننا ؟ لانجد تصريفًا مقنعًا لهذه المتضادّات إلّا الحب بتطرّف .
- بقي أن ألفت النّظر ألى لطيفة دقيقة ربّما يوافقني الحذاق عليها في قول الشاعرة :
*لَهفىٰ أُلاقيك ...
*شِعراً شعراً
*ليس سواه يشِمُكَ فيًّ
*يزرعني بعينيك.. !!!
- اذا تأولنا هذا المقطع على أنّ الحبيب أصبح الملهم وأن اللغة الشعريّة نتيجة انفعال للآخر فالشاعرة هنا تشير الى نظرية كولوريدج التي بدأنا منها و التي مفادها أن اللغة الشعريّة ألفاظ وتراكيب خارقة .