صنعت كباراً..
وغيرت التاريخ
إعداد: علي الطاهر عبد السلام
إلى من زرع فيَّ بذرة الحرف ، فجنى من ثماره هذا الكتاب
أخي محمد
تقديم
قال صلى الله عليه وسلم :
الحكمة ضالة المؤمن
مقدمة
الحمد لله حمداً كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه ، والصلاة والسلام على من خصه بفضله وبيانه ، محمد المصطفى الأمين جوهر الحق وريحانه ، وعلى آله وصحبه وسلم .
أما بعد :
فيجدر بنا أن نستقصي الحكمة أينما وجدت ، كما قال عليه السلام ، الحكمة ضالة المؤمن ، وعملاً بهذا الحديث كان الرأي أن أجمع ما وقعت عليه عيني وما قرت به أذي من حكم وأمثال وكلمات مأثورة ، عربيةً وغير عربية ، وصولاً إلى ما نصبو إليه ، لم أزد عن الكتب المعدة في هذا الشأن شيئاً إلا أنني نظرت في طائفة منها فكانت تتناول جميع الحكم في المجالات كافة ، وربما كان في بعضها ما إن نظرنا إليه بعين الناقد لوجدنا أنه ربما يتعارض من القيم الرفيعة ، فلا شك أن الحكم والأمثال دُسَّ فيها كما يدس السم في الدسم ؛ فرأيت أن أجعل هذا الكتاب في الأقوال التي من شأنها أن ترفع الهمم وتعلي النفوس ، والتي تغير بالانسان إذا ما سعى لتغيير نفسه ، قال تعالى : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ، وترتقي بالمجتمع إذا ما كان الهدف هو الرقي بالمجتمع ؛ إذ إنها نتاج خبرات الشعوب وتجارب عظماء التاريخ ، ورواد الحضارات ، لو نظرنا إلى ما بين دفتي هذا الكتاب من أقوال لوجدنا أن بعضها كانت الشرارة لتغير حياة بعض العلماء ، أو كانت البذرة لإبداعٍ نما يوماً بيومٍ حتى صارإنجازاً أو اختراعاً أو منهجاً أو نظرية ، أو تفوقاً ونبوغاً ، أو صلاحاً ورشاداً ، فكم من العباقرة أو العلماء كان السبب في تغييرهم حكمة أو قول مأثور ، أو بيت شعر يحمل معناً ذا بعد وأفق . وكم من مخترعٍ حمله على التجريب والاختراع كلمة ، أو حكمة . وليس المعنى أن هذا الكلمة أو تلك أو هذا القول والمثل أو ذاك إنما يحدث التغيير للوهلة الأولى ، فلربما يجني المرء ثمار هذه الكلمات بعد أعوام ، غير أن المنطلق من تلك الحكمة أو هذا القول أو المثل .
قسم هذا الكتاب إلى مساحات ، فبعد تجميع الحكم والأقوال رأيت أن أبسط لها بتقديم ، أو توجيه " إن صح التعبير " ، وما هذا ببعيد عما قدمه شهاب الدين الأبشيهي في المستطرف ، وأوردت بعد ذلك الأقوال دون توجيه ، ليطلق معها القارئ قلبه وعقله
بالبسمة تستطيع أن تتعدى حدود القلب ، إلى أيِّ قلب ، ولربما حققت بالبسمة ما عجزتَ عن تحقيقه بغيرها ابتسم فإن اليوم خير من الأمس والغد خير من اليوم ، والله جميل يحب الجمال ، ولا يعني هذا أن لا نفي من لم يحظ من الجمال بقدرٍ يؤهله لأن يكون جميلا، فما عليك إلا أن تقدم البسمة ؛ ابتسامك لقبيح أدل لمروءتك من إعجابك بجميل ، وليكن إعجابك بعام الأمور بين بين ، وليدم قلبكَ ملازماً للصواب ، وإن جانبه قليلاً فلا يكن منه على بعدٍ وتجانبٍ بيِّنينِ ؛ فأجهل الناس من قل صوابه وكثر إعجابه ، وإياك أن تثنيك الشدائد أو أن يوهنك الإخفاق ، وليكن إخفاقك الخطوة الأولى لنجاحك ، فلا خجل من أن تخفق في شيء ؛ذلك أن الإخفاق أساس النجاح والشدائد تخلق الرجال ، وليكن اعتيادك الشدائد ديدنك ، فقد قيل :
إِذا اِعتادَ الفَتى خَوضَ المَنايا
فَأَهوَنُ ما يَمُرُّ بِهِ الوُحولُ
وتحرى الوسط في أمرك كله ، وإذا طلبت من غيرك أمراً فليكن أمرك وسطاً ؛ فالمطاع يأمر بما يستطاع ، وإذا أردت أن تطاع فسل ما يستطاع ، أما التعاون فما اختلف عليه اثنان ؛وقد أمرنا ربنا عز وجل بالتعاون قائلاً : ( وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى ) المائدة 2
وقد قيل :
إذا العِبْءُ الثقيلُ توزَّعَتْهُ
رقابُ القومِ خفَّ على الرِّقابِ
واعلم أن من شيم الكرام الاعتراف بالإكرام وعلى الإنسان ألا يجحد معروفاً قدم له ، وأن يجعل لموضع الإحسان في قلبه إكباراً لفاعله ، ولتكن نفسه أرض خصبة ينبت فيها الفضل ويثمر ،
إِذا أَنتَ أَكرَمتَ الكَريمَ مَلَكتَهُ
وَإِن أَنتَ أَكرَمتَ اللَئيمَ تَمَرَّدا
،والعقل إذا ما اكتمل وتم فإن ذلك يعود بالنقص على الكلام إذا تم العقل نقص الكلام ، ويقصد بنقص الكلام أن القائل الكيِّسَ العاقل يعرف موطن الكلمة فلا يتكلم قبلها ، ويعرف عدد كلماته فلا يتجاوزه ، إذ إن كل كلمة لم تفد المعنى وضوحاً ولم تعطه إجادة كانت زائدة ، وكل كلمة إذا ما حذفت من الكلام وظل الكلام مفهوماً والمعنى المراد واضحاً كانت تلك الكلمة زائدة وعبئاً على الجملة والكلام ، وإذا أردت السلامة والصيت الحسن فعليك بأربعة أشياء : احفظ لسانك ، وصن عينك عن تتبع غيرك ، وعاشر بما يحمد ، ودافع بالتي أحسن يكن لك الفوز ؛ فقد قيل :
إِذا رُمتَ أَن تَحيا سَليماً مِنَ الرَدى
وَدينُكَ مَوفورٌ وَعِرضُكَ صَيِّنُ
فَلا يَنطِقَن مِنكَ اللِسانُ بِسَوأَةٍ
فَكُلُّكَ سَوءاتٌ وَلِلناسِ أَلسُنُ
وَعَيناكَ إِن أَبدَت إِلَيكَ مَعائِباً
فَدَعها وَقُل يا عَينُ لِلناسِ أَعيُنُ
وَعاشِر بِمَعروفٍ وَسامِح مَنِ اِعتَدى
وَدافِع وَلَكِن بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ
وإياك أخي القارئ وسوء الظن فإنه دليل على سوء فعالك ونيتك ، وما حملك على مثل هذا الظن إلا أنه بنفسك ما يوافق هذا الظن ، ثم إنك به تفقد صحابك ومن تخالطهم فقد قيل :
إِذا ساءَ فِعلُ المَرءِ ساءَت ظُنونُهُ
وَصَدَّقَ ما يَعتادُهُ مِن تَوَهُّمِ
وَعادى مُحِبّيهِ بِقَولِ عُداتِهِ
وَأَصبَحَ في لَيلٍ مِنَ الشَكِّ مُظلِمِ
،وانظر أخي إلى الأمور والشدائد بعين المترقب الذي ينظر تبدلاً وتغيراً ، فلا الشدائد تدوم ولا النعيم يبقى ، ولا يستمر أمر بحال ،
إِذا تَمَّ أَمرٌ بَدا نَقصُهُ
تَوَقَّ زَوالاً اِذا قيلَ تَمّ
وقيل :
اشتدي أزمَةُ تَنفَرِجي قَد آذَنَ لَيلُكِ بِالبَلَجِ
فلما التجهم ، ولما انقشاع البسمة عن الوجوه ، دع البسمة ملازمة لك ولكل أمورك ، يقول أهل الصين : إذا كنت لا تستطيع الابتسام فلا تفتح دكاناً .
أخي القارئ الدنيا مسرح ، و لكلٍ منا دور فيه ، فإذا لم يكن لك دور به كنت زائداً عليه ، فاختر لنفسك دورك ووجودك ، إذا لم تزد شيئاً على الدنيا كنت أنت زائداً على الدنيا ، وانظر إلى الماء وخذ حكمتها في مسيرتها ، فإذا ما اعترضها سد أو عائق ، غيرت اتجاهها لغيره ، وإذا لم تستطع إلى غيره سبيلاً اعتلته .
إِذا لم تستطع شيئاً فَدَعهُ وَجاوِزهُ إِلى ما تستطيعُ
ولا تحجبك العراقيل عن نيل مبتغاك ، فأنت بطموحك تسمو
إِذا مَا طَمحْتُ إلى غايةٍ رَكِبتُ المنى ونَسيتُ الحَذرْ
وربما يتساوى الناس في العلم والمعرفة والقوة ، ولا يتساوون في الأسلوب ، فاحرص على أن يكون أسلوبك راقياً في كل موضع ، فالأسلوب هو الدال على علمك ومعرفتك وقوتك ، والأسلوب لباس الفكر ، والجهل مصيبة ،ما في ذاك موضع جدال وخلاف بين الناس ، غير أنها ـ أي مصيبة الجهل ـ تتفاوت تبعاً لصاحبها ، فأسوأ مصائب الجهل أن يجهل الجاهل أنه جاهل .
والكيس من عرف لنفس صديقه طريقاً قبل أن يتصادقا حتى لا تأتي المعرفة متأخرة فيصدم هذا أو يفتتن ذاك
أُصادِقُ نَفسَ المَرءِ مِن قَبلِ جِسمِهِ
وَأَعرِفُها في فِعلِهِ وَالتَكَلُّمِ
وحبب إلى نفسك المعروف ؛ فاصطناع المَعروف يَقي مَصارع السُّوء وكن على يقين بانفراج الكرب وبالوصول إلى البغية :
أعلِّلُ النفس بالآمالِ أرقُبُها
ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأمَلِ
ولكل منا في دنيانا مسلك ، نحاول غيره فلا نتوفق ، فنتذكر" اعملوا فكل ميسر لما خلق له " ، واجعل الديمومة في أعمالك طريقا إلى وصولك مرامك ، فأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ، واختر لنفسك أحد أمرين : أن تعيش مبغوضاً ، أو تموت محبوباً ، وإن اخترت الأولى فليست تلك بحياة ، وإن طالت ، أموت محبوباً خير لي من أن أعيش مكروهاً ، وليحرص أحدنا على أن يأكل من كسبه فإن أطيب ما أكلتم من كسبكم ، ولا يكون الكسب من السهولة بمكانٍ دائما ، فعلى الإنسان أن يتعب ويجد في كسبه ، وعليه أن يركب المشاق ،ويخاطر بما يملك ؛ لنيل ما يصبو إليه ، وإلا فلا كسب ولا امتلاك ، إن لم تخاطر بشيء فلن تملك شيء ا، وإذا لم تبلغ ما تصبو إليه فليس ذلك نهاية العالم ، ونهاية الطموح والحلم ، فلربما كان قصورك عن الوصول هو الخير كله ، أنت تشاء وأنا أشاء والله يفعل ما يشاء ، فإذا لم يكن ما تشاء فارض بما هو كائن ، فعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ، وثمة مطية أخرى للإنسان وهو اللسان مطية المرء ، أنت سالم ما سكتت . فإن تكلمت فلك أو عليك .
أخي القارئ هناك نوعان من المتعلمين : أنصاف متعلمين ومتعلمين ، وأنصاف المتعلمين أخطر من الجهلاء ، أما التصميم والإرادة فهما المعول الذي تستطيع به أن تخرق جبلا ، وإنك بالإبرة تستطيع أن تحفر بئراً ؛ ذلك بإرادتك ومثابرتك .
ليس في علاقاتنا التي نحياها أفضل من معاشرة جميلة فبحسن المعاشرة تدوم المحبة ، وتعاونك مع أخيك على التخلص من عيوبه إنما هو عين العقل ، ولب الصداقة ، وما نفع المرء لأخيه إذا لم يرشده لزلـله ومعايبه ؛ لأجل تفاديها لا لأجل إثباتها ، إنما أحدكم مرآة أخيه فإذا رأى عليه أذى فليمطه عنه ، والتجمل بالصبر من شيم الرجال ، لكن متى الصبر ، الصبر عند الشدائد ، لا سيما الصدمة الأولى ، إنما الصبر عند الصدمة الأولى ، ومهما كان حجم الشدائد فلا تفوق الصابرين عندها ،
إنما تصغُر الخُطوب لدى القو م إذا كانت النفوس كبارا
وقيل :
إني رأيت وفي الأيام تجربة
للصبر تجربة محمودة الأثر
وقل من جد في أمر يطالبه
فاستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
والصبر من فضليات الشيم ومحاسن الأمور، وليس من السهل التحلي به ، بذور الصبر مرة ولكن ثماره حلوة ، فاحرص على بذرها كي تجني ما رمت من ثمار ، لتكون ذا رأي سديد
وما كل ذلك إلا بعقل المرء ورأيه وحزمه وخوضه التجارب ، ولا دليل على رجحان عقل المرء إلا من خلال ما شهده الناس منه في المواقف والشدائد ، إنما يستدل على عقل المرء وخلقه بعمله ، ولو أردنا تعريف ذلك لم نجد غير الفضيلة اسماً ، وأول عناوين الفضيلة التضحية بالنفس .
أخي تحر الأمل واطرد التشاؤم ، واحرص على أن تكون نفسك جميلة ، وأن ترى من زاوية كلها بشرى وظنون خيِّرة ، فلن تجد غير هذا ؛ فقد قيل :
أيهذا الشاكي وما بك داء كيف تغدو إذا غدوت عليلا
إن شر النفوس في الأرض نفس تتوقى قبل الرحيل الرحيلا
وترى الشوك في الورود وتعمى أن ترى فوقها الندى إكليلا
والذي نفسه بغير جمالٍ لا يرى في الكون شيئاً جميلا
أيهذا الشاكي وما بك داء كن جميلا ترى الوجود جميلا
يتحلى المرء بحس الظن ، ويتجمل بالتفاؤل ، غير أنه لا يركب مطية الأمل دون أن يَجِدَّ في سعيه ، أو أن يثابرَ في نيل مبتغاه ، فلا تدرك الأمور إلا بالإصرار وكثرة المحاولة والتصبر والجد والتخطيط الجيد ، والسهر على بلوغ الغايات ، فإذا نسيت كل هذا فتذكر قول الشاعر :
بقدر الجد تكتسب المعالي ومن طلب العلا سهر الليالي
ومن طلب العلا من غير كدٍ أضاع العمر في طلب المحال
وإذا تساوى كلامك وصمتك فقدم الصمت ، فبكثرة الصمت تكون الهيبة ، وحاذر أن يأخذك الجزع في مصابك أياً كان ؛ فكل ذلك من قضاءٍ كتبه الله عليك ، وبه الخير الكثير ، ولربما رأيت مكروهاً وأعقبه خيرٌ كثير .
تَجري الأَمور عَلى حُكم القَضاء وَفي
طيّ الحَوادِث مَحبوبٌ وَمَكروهُ
فَرُبّما سَرَّني ما بِتّ أَحذَرهُ
وَرُبَّما ساءَني ما بتُّ أَرجوهُ
والحكمة ضالة المؤمن ، ولكن متى تكون الحكمة ، تسعة أعشار الحكمة أن يكون الإنسان حكيماً في الوقت المناسب ، ولكل شيء آفة وآفة العلم الغرور ، وبغالب الأمور سوس ، التشاؤم سوس الذكاء ، وإذا أردت أن تنتصر فانتصر على نفسك أولاً بعدم ظلمك غيرك ؛ فقد قيل : تعلمت كيف أكون مظلوماً فانتصرت ، فإذا انتصرت لا تتكبر، بل اجعل التواضع مسلكك في أمورك كلها ، التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة ، لا أعظم من قلب نزيه متواضع ، ولا يأتي الكبر والترفع على الناس إلا من جهل ، فالجهل مصيبة ، فإياك أن يصفك الناس بالجهل و الصغر ، والجهل مطية ، من ركبها ذل ومن صحبها ضل ، والجهل موت الأحياء .
كن جواداً تغنم بمحبة الناس ، وإياك والبخل فإنه منقصة للرجل ،
فالجُود محبَّة والبُخْل مَبْغضة ، واعمل بكل جوارحك ، وتحرى الدقة والإتقان ، إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ، فلا يكفي عمل اليد بغير العقل ، ولا يكفي عمل العقل بغير القلب ؛ فالحرفي يعمل بيده ، والمهني يعمل بعقله ، والفنان يعمل بقلبه وعقله ويده ، وما العمل إلا طريقاً نتخذه وصولاً إلى السعادة ، فالحكمة اكتشاف مفاتيح السعادة ، واعلم أنه الحياة هي السعادة ، ولكن أي حياة ، وما هي الحياة التي بمعنى السعادة ، تذكر أنه إذا كان للحياة معنى فإن للسعادة وجود ،
عزيزي خير ركاب المرء حكمته ونيته ، فالحكمة ضالة المؤمن يأخذها ممن سمعها ولا يبالي من أي وعاء خرجت ، ومن الحكمة أن تحافظ على نفسك باحترامها كي يحترمها الآخرين ؛ حين تفقد احترامك لنفسك يكون من الصعب على الآخرين أن يحترموك ، وتحري الصدق أمر مطلوب في كل الشؤون ، فابتعد عن الكذب ، ولو كنت تاجراً فاعلم بأنه قد خاب وخسر المنفق سلعته بالحلف الكاذب ، والنجاح يأتي خطوة بخطوة ، غير أن الخطوة الأولى لتحقيق النجاح هي الاستيقاظ من الأحلام ، وكن ثابت الخطى وتيقن أن ثمة خطوة واحدة بين النصر والخذلان ، واعلم أن الكيس لا يخطو خطوة إلا أن تكون على نهجٍ لا يخالطه ريب ، خير الرجال من تقيد بأحكام النبوة ،واستمع لناصحك بتأنٍ وروية ، فالدين النصيحة ، والتريث مطلوب ؛إذ خير للمرء أن يقال عنه جبانا من أن يكون متهوراَ ، على أن المرء يجب أن يكون شجاعاً ، فالشجاعة تاج تتزين به هامات الرجال وتتشرف به قلوبهم ، الشجاعة عزيزة يضعها الله فيمن شاء من عباده ، إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية ، فالزمها دائماً يقف الحق بجانب الشجعان ؛ لأن الشجاع لا يحتاج لأن يفعل ما يثبت به شجاعته من ظلمٍ أو نحوه ، والرجل الذي توفرت فيه الشجاعة بلا استقامة لا يعدو أن يكون قاطع طريق
وإذا امتطيت الشجاعة فعليك الحذر ؛ الشجاعة بلا حذر حصان أعمى ،
وأمامك أمران : إما أن تكون ذا عقل ولربما أعياك بالتفكر ونحوه ، أو أخو جهالة ووصب يصيبك بغياب العقل ، قيل :
ذو العَقلِ يَشقى في النَعيمِ بِعَقلِهِ وَأَخو الجَهالَةِ في الشَقاوَةِ يَنعَمُ
ومن مساوئ غياب العقل أو نقصه فساد الذوق ، والذوق السيئ يقود إلى المكاره ، وإياك والجزع إذا تأخر الرزق ، فما دمت حياً فسيرزقك الله من حيث تدري أو لا تدري .
الرِزقُ لا تَكمَد عَلَيهِ فَإِنَّهُ يَأتي وَلَم تَبعَث إِلَيهِ رَسولا
وليتأنى كلٌ في قضاء أموره بحيث لا يجعل العجلة تغلب عليه فيفسد عمله ، وليترفق في طلب أموره وشؤونه ومواقفه
الرِفقُ يُمنٌ وَالأَناةُ سَعادَةٌ فَتَأَنَّ في أَمرٍ تُلاقِ نَجاحا
وقيل :
الرفقُ يمنٌ وخير القول أصدقه وكثرة المزح مفتاح العداواتِ
وثمة فلسفة إذا ما عقلها المرء لم تغب عنه السعادة ولم يعجزه نأيها ونفورها ، فعلى المرء أن يطلب السعادة حيث البؤس ، وليحذر من البؤس في رحم البهجة ، فالسعادة تولد في البؤس ... والبؤس يختبئ في السعادة ، وعلى المرء أيضاً أن لا يسلم عقله لأفضل ظن ، ويترك ما يوقظ حدسه وتخمينه وفطنته ، عليه أن يشك ، الشك داء .. لكنه قد يعلم حكمة ، وتصبر فإن الصبر والمثابرة يولدان العجائب ، واعلم أن الصبر صبران .. صبر على ما تكره ، وصبر على ما تحب ،وقيل :
لا تَجزَعَنَّ إِذا نابَتكَ نائِبَةٌ واصبر ففي الصّبر عند الضّيقِ متَّسعُ
إن الكريمَ إذا نابتهُ نائبةٌ لَم يَبدُ مِنهُ عَلى عِلّاتِهِ الهَلَعُ
واحذر أخي من صحبة الجاهل ، فهو لا يقودك لأمر هو خير لك ، صحبة الجاهل شؤم ، واعمل على أن تصون نفسك وتقلب أمورها يميناً وشمالاً كي يكتنفها الحق والأمن ، وإذا لم تفعل فلا تلم غيرك فالنفس أنت مسؤول عنها وبيدك رقيها وانحطاطها وأينما تضع نفسك تجدها :
صُنِ النَفسَ وَاِحمِلها عَلى ما يزيِنُها تَعِش سالِماً وَالقَولُ فيكَ جَميلُ
وإن تملكتك عادات أو ورثتها فاعمل جاهداً على التخلص منها ، وما من أحدٍ إلا له عادات ، حسنها يعتز به ويعلي شانه ، وسيئها يعيبه ويدني مكانه ، فأعمل عقلك في عاداتك ؛ العادات قاهرة فمن اعتاد على شيء في السر فضحه في العلانية ، واطلب الحكمة دائماً ، وظن نفسك أنك مفتقدها ؛ العاقل يجاهد في طلب الحكمة .. والجاهل يظن أنه وجدها ، وعين الحكمة أن يحفظ الإنسان نفسه ويعزها ، عز الرجل استغناؤه عن الناس ، وهذا يتطلب منك الجهد الكبير ، غير أن الثمرة أكبر ، على قدر الحاجة يكون التعب ، ولا تتخيل أن التعب للجسد ، فتعب العقل أكبر ، عظمة الإنسان في فكره لا في جسمه ، فمرن عقلك على التبحر في خيالات الكون وعوالم الدنا وخفاياها ، وافتح له على العالم نافذة وافتح للعالم في عقلك نافذةً يتعشق نور الكون مع شذرات عقلك ، عقلك كالمظلة لا يعمل إلا إذا انفتح ، وحرر عقلك على قرطاس فيكتب لك من الحرف مدينة ، ومن الكلمة عالم ، ومن الجملة كون ، ومن الكتاب عقل ، عندها تكون قد ملكت زمام العقل ، عقول الناس مدونة في أطراف أقلامهم .
وإذا ما نظر الرائي منا إلى نفسه فلن تغفل عينه عن عيب بها ، غير أنه لا يظهر أحياناً لأعين الناس ، عيبك مستور .. ما أسعد حظك ، وما لك أخي القارئ من بدٍ في محك الحياة ، حلوها ومرها ، وبيدك الأمر ، فكيف تمهد لها تجدها . واعلم أنه ما أتت الدنيا طيعة لأحد ، فلابد من التضحية والفداء والمثابرة وقوة الإرادة .
غَلَتِ الحَيَاةُ فَإِنْ تُرِدْهَا حُرَّةً كُنْ مِنْ أُبَاةِ الضَّيْمِ وَالشُّجْعَانِ
وَاقْحَمْ وَزَاحِمْ وَاتَّخِذْ لَكَ حَيِّزاً تَحْمِيهِ يَوْمَ كَرِيهَةٍ وَطِعَانِ
ولا خيار ثالث للأنفس الأبية فإما حياة كما تريدها هي أو الموت فخو أكرم . فأما حياة ...... وأما الفناء أشرف للبشر
والسعي إلى العلم من أجل الفضائل ، ولا سيما التفقه في الدين ، فمن أراد الله به خيراً يفقهه في الدين ، وفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد ، وتخير أهل النصح ، فإن النصيحة فن يهبه الله لبعض عباده ، كما وهب لبعضهم العقل دون فضيلة النصح ، ولربما اجتمعا النصح والعقل عند واحدٍ فتجب طاعته ، إذ إن بعض الناصحين لا ينصحك بمعروف ، وبعض العاقلين لا يوفق في نصحك .
فَما كُلُّ ذي لُبٍّ بِمؤتيكَ نُصحَهُ وَما كُلُّ مؤتٍ نَصحَهُ بِلبيبِ
وَلَكِن إِذا ما استَجمَعا عِندَ واحِدٍ فَحقٌّ لَهُ مِن طاعَةٍ بِنَصيبِ
وليستجمع كل منا قوته وشدته ، ولكن ربما رجعت عليه هذه القوة بالتحطم ، فليست كل القوة شدة ؛ قوة الخيزران في مرونته ،وقيل لا تكن يابساً فتكسر ولا ليناً فتعصر ، والكرم خير ما يتصف به المرء ، فالكريم يحس نفسه غنياً دائماً ، ولا مكان للكسل مثل ضعاف الناس ؛ فهو ينمو ويترعرع ، تغذيه أوهام وأماني ، الكسل ملجأ العقول الضعيفة ، فاسع لطلب شأنك وتحرر كل دقيقة من الكسل ، واقحم باب الراحة من المشقة ، لا تدرك الراحة إلا بالمشقة ، وليكن الرفق واللين ممشاك ، واحرص على أن لا ينطق لسانك إلا حسن الكلام ؛ الكلام الحسن درع ، هوه يدل على لباقتك وذوقك الرفيع ، ولا يتأى هذا إلا بشيء لا يكلفك شيئاً ، وهو الإنصات لكلام غيرك ، كن مستمعاً جيداً لتكون متحدثاً لبقاً ، وثمة أمر يهد القلوب وهو القلق والجزع على ملمات الأمور ، فعلى الإنسان أن لا يذهب جهده وتفكيره في موقف طارئ أو غير طارئ ؛ لأنه لا يدوم هذا ولا ذاك .
لا تَلقَ دَهرَكَ إِلّا غَيرَ مُكتَرِثٍ مادامَ يَصحَبُ فيهِ روحَكَ البَدَنُ
فَما يَدومُ سُرورُ ما سُرِرتَ بِهِ وَلا يَرُدُّ عَلَيكَ الفائِتَ الحَزَنُ
وقيل :
لا تَيأَسَنَّ من اِنفِراجِ شَديدَة قَد تَنجَلي الغَمَراتِ وَهيَ شَدائِد
كَم كُربَة اِقسَمَت اِن لَن تَنقَضي زالَت وَفَرجُها الجَليلُ الواحِد
وكن عفاً في تعاملك أريحياً في مخالطتك ، لا شيء يرفع قدر المرء كالعفة ، واحذر من أن يجرك لسانٌ بإسلوبه وبراعته ، وليكن عقلك حاضراً ، لا شاكاً في غيرك بل متحفز العقل نافذ البصيرة ، فطن التأمل ، قيل :
لا خَيرَ في وُدِّ اِمرِئٍ مُتَمَلِّقٍ حُلوِ اللِسانِ وَقَلبُهُ يَتَلَّهَبُ
إن الإنسان الفطن لا يغيب عنه شيء ، وإن غاب يستدرك أمر ، وإن فاته الاستدراك فتسعفه الحكمة في تناول الأمور ومجابهة الملمات ، وإدراك السؤدد والعلا .
لا يُدرِكُ المَجدَ إِلّا سَيِّدٌ فَطِنٌ لِما يَشُقُّ عَلى الساداتِ فَعّالُ
غير هذا عليه التجمل بالصبر ، وتسهيل الصعب ، وبسط الأمور .
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى فما انقادت الآمال إلا لصابر
وليكن أملك أو ما تطمح إليه عالياً ، فإن التعب واحد ، والمشقة نفسها التي تجابهها في الأمر الصغير هي التي تجابهك في الأمر العظيم ، فليكن طموحك كبيراً .
إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ فَلا تَقنَع بِما دونَ النُجومِ
فَطَعمُ المَوتِ في أَمرٍ صَغيرٍ كَطَعمِ المَوتِ في أَمرٍ عَظيمِ
والإنسان يبلغ بإرادته الهدف الذي وضعه لنفسه مهما صعب ، فللإنسان قوة جبارة ومن الله التوفيق والسداد ، لو تعلقت همة أحدكم في الثريا لنالها ، ولكن يتفاوت الناس في بلوغ مآربهم وبغيتهم ، ذلك لما للمشقة من وقعٍ على النفس البشرية ، وعلى بعض الناس فقط الذين نحرص على أن لا نكون منهم ، أولئك الناس هم ضعاف النفوس وصغارها .
لَولا المَشَقَّةُ سادَ الناسُ كُلُّهُمُ الجودُ يُفقِرُ وَالإِقدامُ قَتّالُ
هذه هي الحياة ، فليس للحياة قيمة إلا إذا وجدنا فيها شيئاًً نناضل من أجله .
ومجمل القول أن كل ذلك يتركز في كلمة واحدة ، يضعها كل إنسان نصب عينيه ، وهي الهمة .
ما الجودُ عَن كَثرَةِ الأَموالِ وَالنَشَبِ&
ساحة النقاش