جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
كان الزحام على أشده في شوارع المدينة التي لا أعرف, والصراع للوصول إلى مكان آمن كان مرعبا. ربما وصلت في يوم حشر وعقاب لأهل هذه العاصمة المزدحمة بأكداس بشرية تصرخ وتصدح بهتافات جامحة, رافعة يافطات وأعلام زاهية طافية فوق أمواج البشر... هذا علم بلدي, شد قلبي فطرت إليه فرحا أستشعر ريح الأرض الطيبة التي جئت منها إلى المدينة. لكن ما تلك الأعلام الأخرى ؟ هل هي لدول صديقة أم معادية؟ ومن هو ذاك الرجل المحمول على الأكتاف كأنه منارة, يصرخ ويهتف بأقوال لا أعرف رموزها. ياه هناك "منارة" أخرى في الجهة المقابلة تهتف بما يغيظه فيرد الكيل كيلين بينما يقترب الجمعان المتماوجان إلى صدام محتم.
لا أدري ما أفعل فأنا طريد الفقر, ربيب القهر تكبلني أقدار تصفعني نهارا وتذلني ليلا. لقد هاجرت من الريف أرصد خبايا القدر علني أفوز بما يستر الحال ويسد الرمق. جئت هنا ساعيا للرزق, وقد تركت خريفا يلتهم بقايا الصيف بشراهة. وعِشة لا سقف لها تسكنها أم عجوز تبحث عن دواء وغطاء. تشاركها سكناها زوجة حائرة صابرة تلهي الأولاد عن جوعهم بحكايات "علي بابا والربيع العربي" وأحيانا تخيفهم بحقيقة "الحلم عربي".
بينما أعاني من هذا الهذيان التحم الجمعان وأمطرتني السماء بصراخات وهتافات لم تتسبب في إيقاع خسائر أو تحريك الضمائر لكنها أوقعت آمالي في إيجاد مكان يأويني أو خبزة تغنيني موقع مذلة. تسللت بين هذا وذاك تاركا هذي الجموع مصليا صلاة رجل مفجوع حتى خرجت من المعمعة برفقة رجل منهار كان صوته مصراخا في الزحام.
أسندته برفق حتى وصلناحافة رصيف خلف الجمهرة, فجلسنا كي نرتاح. لكنه بادرني دون تمهل بسؤال غريب: هل أنت معنا أو ضدنا؟
قلت: هل أنت من دولة أخرى كي أتخذك عدوا؟
قال: لا .. أعني هل أنت مع قضية الحق.
قلت وهل هناك مواطن ضد الحق؟
قال: أعني قضية الحرية... حرية الوطن
قلت: وهل يمكن للعبيد أن يحرروا وطنا؟
قال: أنا حر... هؤلاء "مشيرا إلى جماعته" الذين أسقطوا الطاغية سيقررون مستقبل الوطن.
قلت: كيف لجماعة تتخذ تقرير مصير الوطن بمفردها. بما اننا عانينا سويا, سُجنا سويا وجُعنا سويا لا بد من السير في طريق الحرية والديمقراطية سويا...
قال: بل يحق لنا أن نقيم العدل كما نؤمن به.
قلت: وما أدراك بأن عدلك هو الحق؟ كما أن العدالة والحرية لا تعطينا الحق في تجاهل الآخرين.
قال: الوطن لا يتسع إلا للشرفاء.
قلت : من العار أن يدعي أحدنا الشرف دون غيره على أرض الوطن... هذا الوطن الذي كان يتسع للجميع أيام الظلم والطغيان من الأجدر أن يسعهم جميعا في عهد الحرية.
قال: أنت لا تفهم هم يريدون قتل الشرعية والتفرد بالسلطة.
قلت: الكل يريد التفرد بالسلطة.. الكل لا يعترف بالآخر.
لم أعد أفهم يا هذا منطقكم, ففي عهد الطاغية كنت أعلم بأن هناك سجن وقيد وعصا. أما الآن فأنا أرى طوفانا من الطغاة مع الشرعية وضدها. بين هنا وهناك يا هذا أرى خيوط العنكبوت تصطاد المواطن في دهاليز الفوضى. بدأت أشعر بالقيود تحفر اسما جديدا على ندبات الماضي فتنكأ آلاما مستبدة... لقد بدأ الجوع ينخر عظام أولادي ويودي أمي وزوجتي درب الهلاك... يا هذا كان السجن جزء من وطن فلما تريده أكبر من الوطن؟
قال: عليك أن تتحمل وزر الحرية يا هذا. ألا ترانا في خضم الثورة وعلينا أن نكون حازمين مع العملاء حتى نستطيع إيجاد أرض صالحة للحرية...نحن ما زلنا نصنع الخريف العربي.
قلت: لماذا تتهم من لا يوافقك الرأي من أبناء وطنك بالعمالة؟
قال: أنت لا تفهم... دعني أشرح
قلت:لا داعي فأنا مواطن عادي, تركت أرضي عطشى, وأولادي جياع... لا ماء ولا كهرباء... بصراحة جئت باحثاً عن "الرغيف العربي" في زواريب "الخريف العربي".
المصدر: الأديب اللبنانى : محمد إقبال حرب
صحيفة " الوطن العربى الأسبوعية " المستقلة الشاملة - لندن ، المملكة المتحدة ..
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير :
د. علاء الدين سعيد