جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
منذ فترة بعيدة وانا أحذر من مأساة الانقسام بين القوي السياسية في مصر بعد الثورة.. فإذا كانت الثورة قد وحدتنا فإنها وبنفس الأشخاص والتيارات والشعارات قد فرقتنا.. لقد تفرقنا في المواقف والأفكار وبدلا من ان تتوحد كلمتنا لبناء وطن جديد توحدت أهدافنا لتخريب ما بقي فيه بعد كل ما تعرض له من ألوان النهب والاستبداد.. ايام حزينة عشناها أخيرا والقوى السياسية تتصارع وتوشك ان تلتحم ببعضها لتبدأ المأساة ولم يخل الأمر من سقوط الشهداء وتبادل الإتهامات وتخريب المنشآت..
سوف أبدأ حديثي مع الإخوان المسلمين الفصيل, الذي وصل إلي السلطة من خلال انتخابات حرة جاءت بالرئيس الدكتور محمد مرسي علي قمة السلطة في مصر.. في أول لقاء مع الرئيس مرسي قلت له: ياسيادة الرئيس أفكارك حق لك وانتماؤك الفكري لن يحاسبك أحد عليه ولكنك الآن رئيس لكل المصريين المسلمين والمسيحيين والعلمانيين والمتدينين والملحدين.. انت امام الله مسئول عنهم جميعا وانت امام الشعب تتحمل المسئولية عن90 مليون مواطن.
< هناك اشياء كثيرة تغيرت في الأداء السياسي للاخوان المسلمين وقد شعرت بذلك بحكم صلة قديمة وحوار طويل دار بيني وبين بعض رموزهم وكنت ومازلت أري انهم يمثلون تيارا سياسيا وفكريا علي درجة كبيرة من الأهمية ويكفي ما تحملوه من عذابات في العهود الماضية بين السجون والمعتقلات.. كنت اشعر بعد ان وصلوا إلي السلطة بحالة من النشوة اصابت الكثيرين من رموزهم وتطورت لتأخذ صورة من صور الزهو والتعالي بما يتعارض مع التدين الحقيقي وقد انعكس ذلك بصورة واضحة في انفرادهم بسلطة القرار في مواقع كثيرة ومحاولاتهم المستميتة للسيطرة علي كل شئ.. ولأنهم امام تجربة وليدة في الحكم خلطوا الكثير من الأوراق ما بين حدود الدين بشفافيته وحدود السياسة بطموحاتها.. لقد حاولوا السيطرة علي كل شئ تحت دعوي تفكيك الدولة العميقة رغم ان اجزاء كثيرة من هذه الدولة تعاطفت معهم ووقفت بجانبهم امام حشود الاستبداد في العهد الماضي..
لقد حاول الإخوان السيطرة علي كل شئ وتصوروا أن لديهم الكفاءات البشرية والخبرات القادرة علي إدارة كل جزء في ربوع المحروسة وكانت هذه هي الخطيئة الكبري فلا يوجد تيار سياسي واحد قادر علي تحمل مسئوليات هذا الوطن.. لا الإخوان ولا غيرهم من القوي الأخري.
وفي تقديري ان هذه الأطماع في السلطة انعكست في صورة ضغوط شديدة علي صاحب القرار في مطالبات دائمة بالحصول علي المناصب أو المكاسب رغم ان الغنيمة ليس فيها ما يغري.. وانفردت جهات كثيرة من الحواريين في الإخوان بملفات غاية في الأهمية وهي غير مؤهلة لها وكان منها ان يسيطر مجلس الشوري علي ملف الصحافة والإعلام ومعظم المسئولين فيه ليس لهم خبرات في هذا المجال.. وفي نفس هذا السياق كان إغلاق القنوات الفضائية في توقيت غريب وقد تحمل الرئيس مرسي نتائج هذه الملفات رغم انه لم يكن شريكا فيها.. وكانت معركة الجمعية التأسيسية لإعداد الدستور من المعارك التي خسرت فيها جماعة الإخوان الكثير خاصة حين ألقت المسئولية علي رئيس الدولة في مواجهة المعارضين للجمعية.. وهناك ظهرت حساسيات وانقسامات حين انسحبت الكنيسة من الجمعية ولم يشارك الرئيس مرسي في حفل تنصيب البابا الجديد وكان ينبغي ان تكون احتفالية مصرية وليست قبطية.
كان انقسام الشارع المصري أكبر خسائر الإخوان منذ صعدوا إلي السلطة وكانت البداية هي الرغبة في الاستحواذ علي السلطة بالكامل وتهميش كل القوي السياسية الأخري ثم كانت معركة الانقسام حول الجمعية التأسيسية واشتعل الموقف بالكامل مع الإعلان الدستوري الذي حصن قرارات رئيس الدولة واطاح بسلطة القضاء في سابقة لم تشهدها مصر من قبل.. حدث ذلك دون مشاركة من القوي السياسية الأخري أو حتي التمهيد امام القوي الشعبية وكان هذا يمثل تجاوزا في الإحساس بالثقة والقدرة علي السيطرة الكاملة علي الشارع المصري حتي في ظل قرارات أو مواقف خاطئة.
في تقديري ان الإعلان الدستوري اعاد للمصريين صورة العهد البائد في الإصرار علي الأخطاء وعدم تبرير القرارات أو التراجع عنها أو الصمت القاتل الذي يصل عادة بالناس إلي درجة الانفجار ولعل هذا ما حدث يوم الثلاثاء الماضي حين عاد ميدان التحرير ومحافظات مصر إلي روح ثورة يناير بزخمها وروعتها.. هذه العودة لميدان التحرير كانت تأكيدا ان الشعب المصري لن يقبل مرة أخري صور الاستبداد القديمة وعلي الجانب الآخر أدركت الدولة بسلطاتها ان المصريين لم يعودوا هم نفس الشعب الذي استكان واستسلم للطواغيت زمنا طويلا.
في تقديري ان الإخوان المسلمون قد استوعبوا الدرس اخيرا وادركوا ان القضية ليست استحواذا علي السلطة أو السيطرة علي مفاصل الدولة ولكن لابد ان يرجع الجميع إلي روح المشاركة الحقيقية ولهذا كان قرارهم تأجيل مظاهراتهم امام جامعة القاهرة قرارا حكيما وعاقلا, خاصة ان البعض منهم كان يري ان تقام المظاهرة في عابدين, أي علي بعد امتار من ميدان التحرير وقد ادركوا بشاعة هذا الاختيار.
نحن الأن امام مفترق جديد لابد ان تتغير فيه الحسابات والمواقف..
لابد ان تدرك جماعة الاخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة ان الدكتور محمد مرسي لم يعد عضوا في الجماعة أو رئيسا للحزب ولكنه رئيس مصر وسوف يحاسب علي هذا الأساس امام المصريين جميعا.. وقد كان من الخطأ ان يخطب امام قصر الرئاسة وامامه جموع الإخوان والسلفيين وان يسمح بتقسيم الشارع المصري إلي فئات وتجمعات وطوائف مع الإعلان الدستوري المشئوم.. و ينبغي ألا يصر التيار الإسلامي علي انتزاع رئيس الدولة من منصبه بأي وسيلة من الوسائل أو حصاره وان يتركوا الرجل يمارس اختصاصاته بكامل حريته كرئيس للمصريين ولهذا كان الرفض الشعبي الجارف للإعلان الدستوري رسالة إلي رئيس منتخب انك مسئول امام شعبك وليس امام جماعتك.
ان الحصار الذي تفرضه جماعة الاخوان المسلمين علي الرئيس مرسي يمثل أكبر تهديد لنجاحهم في إدارة شئون هذا الوطن.
< يجب الا تلقي الجماعة علي صاحب القرار اطماعها في السلطة, فنجد عشرات المتحدثين من حزب الحرية والعدالة باسم الدولة وكأن الحزب هو الدولة المصرية ان ذلك الخلط في الأدوار تترتب عليه اثارا مدمرة خاصة ما يتعلق بالسياسة الخارجية أو العلاقات مع دول العالم المختلفة
< ان اخطر الشواهد في حالة الانقسام في الشارع المصري هو تبادل الاتهامات التي وصلت إلي درجة التكفير وإذا كان هذا أمرا عاديا مع تيارات إسلامية متشددة فهو امر لا يتناسب مع وسطية فكر الإخوان.. لقد سمعت بنفسي من يقول ان ثوار الاتحادية هم المسلمون وان كفار التحرير غير مسلمين.. بل ان أحد مشايخ السلفية اعلن صراحة ان من اهان السلطان اهانه الله مدعيا ان هذا حديث شريف عن الرسول عليه الصلاة والسلام.. والأخطر من ذلك ان بعض مشايخنا ربط بين الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين عند دخول مكة ثم تحدث عن كفار قريش في ميدان التحرير مستندا إلي آيات قرآنية,فهل هذا يليق.. ؟ ان هذا التقسيم بين ابناء الشعب الواحد يمثل جريمة كبري يمكن ان ندفع جميعا ثمنها ولا يعقل ان تتداخل حسابات السياسة بكل تناقضاتها في قضايا الدين والإيمان والتكفير خاصة حين نخاطب شعبا نصفه لا يقرأ ولا يكتب.
< لقد استطاعت القوي المدنية ان تقدم نموذجا فريدا ولأول مرة لوحدتها ورغم خطورة هذا الإنقسام في الشارع المصري فإن الظروف هي التي فرضت ذلك علي الجميع.. في وقت ما تصور التيار الإسلامي بكل فصائله انه استطاع السيطرة الكاملة علي الشارع المصري وطالب جميع القوي الأخري بأن تسلم بذلك وان تقبل دكتاتورية الأغلبية المسلمة ونسي هذا التيار ان الثورة حين قامت قد جمعت كل التيارات ولم تفرق بين مسلم ومسيحي وديني ومدني واننا جميعا ابناء وطن واحد..
كان خروج القوي المدنية بهذا الحضور الطاغي يوم الثلاثاء الماضي أول محاولة ناجحة لإعادة التوازن المفقود للشارع السياسي المصري وعلي كل القوي ان تدرك ان هذا الشارع لن يكون ابدا لفصيل واحد تحت أي شعار.. انه تأكيد علي ان مصر لنا جميعا بكل تناقضات الفكر واختلاف المواقف وان مصر المتدينة التي آمنت بكل الأديان ووحدت بكل الرسالات سوف تظل لنا جميعا بإختلاف افكارنا وعقائدنا
ان ما حدث في الأسبوع الماضي رغم آثاره المخيفة كان لتأكيد مجموعة نقاط يجب ان ندركها ونتوقف عندها:
أولا: ان علي الإخوان المسلمين ان يعودوا إلي اساليبهم القديمة في الحوار قبل الوصول إلي السلطة ويدركوا انهم لا يمثلون كل المصريين وانهم فصيل سياسي له تاريخه الذي نقدره ولكن من الصعب عليهم بل من المستحيل ان يتصوروا انهم قادرون علي قيادة السفينة وحدهم ولابد ان يؤمنوا بمبدأ الخلاف والحوار والتناقض مع افكار الآخرين وان الإسلام ديننا جميعا وقد نكون أكثر حرصا عليه من الآخرين
ثانيا: ان تدرك التيارات المدنية ان الساحة تستوعب الجميع وان التيارات الإسلامية حقيقة لا ينبغي إطلاقا انكارها أو التقليل من دورها وقبل هذا ينبغي ان ندرك ان التاريخ لن يعيد نفسه بحيث يسيطر إتجاه واحد أو حزب واحد أو رئيس واحد علي مقادير هذا الشعب وإذا كانت كل القوي قد استعرضت إمكاناتها فعلينا ان نعود جميعا الآن إلي مائدة الحوار ونحن واثقون من ان هذا الشعب لن يقبل استبدادا جديدا تحت أي شعار سواء كان شعارا دينيا أو مدنيا وعلينا ان نؤكد ان مصر تحتاجنا جميعا وان المواطنة هي السياج الذي يحمينا ويجعلنا شركاء في تحمل المسئولية وبناء مستقبل هذا الوطن.
< هذا الكلام قلته للرئيس د. محمد مرسي في آخر اجتماع للمجموعة الاستشارية يوم السبت21 نوفمبر قبل أن أقدم استقالتي.
المصدر: الشاعر فاروق جزيدة - الاهرام
صحيفة " الوطن العربى الأسبوعية " المستقلة الشاملة - لندن ، المملكة المتحدة ..
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير :
د. علاء الدين سعيد