يبدو أن حالة عدم إنصاف المبدعين من كتاب وشعراء وغيرهم خلال حياتهم سمة مشتركة بين الشرق والغرب فمبدعون كجين أوستن , ثيودور وينثروب , أملي ديكنز ,فان جوخ و فرانك كافكا لم تُقدر أعمالهم الأدبية والفنية في الغرب إلا بعد موتهم بل و أصبحت أعمالهم مجالاً خصبًا للدراسات الأدبية والفنية و مثالاً يحتذى ويتعلم منه.
و في وطننا العربي يزداد الحال سوءاً ، فكثير من الكتاب والشعراء يبقون في طي النسيان مغمورين , و ما أن يغادر أحدهم الحياة حتى يلتفت إليه الناس و إعلامهم ليرثـونه ويسبغون عليه من الألقاب و ينقبون أعماله! و إذا كان العلماء وهم المقياس العلمي والحضاري المادي يعانون من التهميش فكيف يطمع الأدباء أن ينزلوا منازلهم ؟
ظلت حياة أديب العربية الكبير الأستاذ علي أحمد باكثير مجهولة لم يعرف عنها شيء إلا بعد وفاته و إليه نُسبت ريادة الشعر الحر لترجمته العمل المسرحي "روميو وجوليت" إلى العربية و كذلك يُنسب إليه ريادة الإتجاه الإسلامي في الرواية التأريخية العربية بعد روايتيه (واإسلاماه) و (والثائر الأحمر ) في منتصف الأربعينيات. و شاعر مثل البردوني لم يمنعه العمى الذي أصيب به في مقتبل العمر أن ينمى الإبداع في نفسه رغم الظروف القاسية. فظلت الحياة تعتصره لتخرج شعراً ثائراً مغموسًا بتجارب حافلة لم تُعطََ حقها إلى اليوم من الإحتفاء والدراسة.
و تعود الأسباب وراء الجهل بهؤلاء و عدم تقديرهم كما ينبغي في حياتهم لأسباب عدة:
*أسباب تتعلق بالأديب نفسه:
1-كسوء تسويقه لأعماله.
2- الإنطواء على ذاته.
3_تصادم أفكاره مع قيم المجتمع و ثوابته.
4-عدم تناوله لقضايا مجتمعه وتحليقه خارج السرب . فكلما لا مس العمل الأدبي الواقع كان أدعى للبقاء والخلود .
*أسباب تتعلق بالمجتمع:
1- ضعف النوادي والمحافل الأدبية و اقتصارها على أسماء محددة تتوارث سجلاتهم و أعمالهم .
2- المحسوبيات و الولاءات في النوادي الأدبية و وسائل الإعلام التي لا تهتم بقيمة العمل الأدبي بقدر اهتمامها بتكريس مفاهيم تخدم مصلحتها.
3- تولية أشخاص ذوى توجهات تغريبية يفتقرون لأدنى الضوابط و المعايير الشرعية للأعمال الأدبية والفنية لكي يقيموا هذه الأعمال في وطننا العربي والإسلامي . ولا أدل على ذلك من فوز رواية ( ترمي بشرر كالقصر) بجائزة بوكر للرواية العربية وهي التي يفوح منها الشذوذ والكفر البواح. ولك أن تستعرض غالب الأعمال الفائزة حتى تعلم من يحظى بالتقدير والسمعة ومن يهمش وكيف تُكرم العربية.
4- قلة القراء الجيدين الذين يميزون بين الغث والسمين . فغالب القراء تستهويهم الأسماء والشكل دون المضمون .و متى قُدر أن يتم تشكيل شريحة واعية من القراء نهضت الأعمال الأدبية والفنية بأصحابها و عرفت بهم وكم قارئ جيد عرف بكاتب جيد وسوق له.
5- عدم إستشعار قيمة الأعمال الأدبية والفنية في تغيير واقع الأمة وكم غيرت كثير من الأعمال الأدبية الرائعة في أممها إلى الأفضل لما حوت من قيم ونقد بناء للمجتمع وجدت من يقرأها من المسؤولين و يتأثر بها. فروايات تشارلز ديكنز كانت من الأسباب التي غيرت واقع التعليم في إنجلترا و رواية "ذكريات من منزل الأموات" لدستوفسكي كانت سببًا لتغيير حال السجون في روسيا خصوصًا عقوبات الأعمال الشاقة.
يبدو أن الموت أفضل مُسوق للأعمال الأدبية والفنية والعلمية ويبقى قوله تعالى (..فأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ) نبراسًا لخلود عملٍ ما و لننظر إلى كُتاب و أدباء كالمنفلوطي , و الرافعي ,و المازني والطنطاوي وُوْرُوا التراب ، لكن بقيت أعمالهم خالدة بيننا نتناقلها و ننظر إليه بكثير من التقدير بل كأنهم يعيشون معنا .