ذاك الباب الموشح بالحزن صُدَّ بإحكام, والستارة الهزيلة تراخت على شباكها الخشبي فحجبت نور الصباح المنحدر من علياء الشرق البعيد. أظلمت الغرفة الشمالية في هذا البيت القديم لإنعدام الكهرباء في بلد النور, وتسارعت رائحة الكلين إلى فضاء خشبي مُرتفع بعد انسكاب قطرات الماء على الأرض خلال نقل زير الماء إلى جانب السرير.
أربعة أرواح تحتضنها أربعة أجساد, ثلاثة متحركة وأخرى لا تقوى على الحراك. كان الصراع محتدما بين أعمدة شجر الحور التي تتعامد مع السقف وذكريات الرجل الهزيل الذي يحاول الإحتفاظ بها رغما عن شجر الحور الذي يسرق ذكريات البشر ويودعها سره الأزلي عله يبوح بها يوما إلى أنكيدو إن عاد إلى غابة الأرز يوما ما.
كانت العجوز تجلس على كرسي صغير عند زاوية السرير الذي يتمدد عليه جسدٌ رافقها ربيع العمر وأرذله في خريف عِشرة مستمر. جسد أذاقها من الحياة طعما لا يُنتسى... لا زالت تمضغ بقاياه المريرة بين حناياها. عيناها الصغيرتان تتقدان فضولا, تبرقان جزعا من خلال خصلات شعر بيضاء مبعثرة فوق حاجبيها. يداها القاسيتان ككل نساء الجبل تتشابكان بصلافة تنم عن حدث ما يثير مخاوفها. الإبنة منهمكة بتحضير الماء والصابون, أما الشاب فقد جاء من البعيد على عجل. كانت آخر أيام والده الذي أصبح أشلاء هامدة يبقيها على الحياة قلب صلب ورئتين باليتين. حضر من البعيد ليودع والده الذي لم يعرفه جيدا, كما لم يعرف الكثيرين. لقد هاجر باكرا في سبيل مستقبل أفضل كما يقول, لكن الحقيقة تكمن في هروبه من الحرب الأهليه التي فرقت أبناء البيت الواحد. عاد اليه, بِراً به علَّه يفعل شيئا قد ينصب في باب البر بالوالدين والعرفان بالجميل. قرر هو وأخته أن يغسلا والدهما غُسلا جيدا, حيث لم يحصل على حمام كامل مذ أصبح على حاله لشهر خلى.
حمل والده العاري متهيئا لحدث جلل قد لا يعاد تكراره... كان الجسد ثقيلا جدا بالكاد يستطيع أن يبقيه واقفا, بينما تقترب أخته قائلة: تمسك به جيدا ريثما أغسل جسده.
رد عليها قائلا: ألم يكن من الأفضل أن تمسحي جسده بالماء والصابون بينما هو مستلقي.
لا يا أخي فهو غائب عن هذا العالم منذ شهر ولم يغتسل جيدا لبعدك عنا وعدم وجود ابن غيرك. ها قد عدت, فلنتعاون على تقديم أفضل شيء له قبل رحيله... قالتها بعين تدمع واقتربت من والدها تسكب الماء عليه. بدأ التحام صامت بين راحل وباق... بين مسافر غصبا ومودع طوعا. تشبثت به روح والده كما تمسك هو بالجسد وامتزج الماء بينهما ليتساقط رذاذ الماء على أرض شهدت ولادتهما... فاحت رائحة الكلين مرة أخرى, امتزجت برائحة الرحيل التي نثرتها عربة المنايا فوق هذا البيت مذ أن ضاقت الروح بالجسد ذرعا.
إمتزجت رائحة المكان بحزن المشهد وتراصَّ شوق الوالد مع وفاء الولد. كان يحس بوزن والده العاجِز عن أي حركة.حاول جهده بألا يوحي لأباه على انه حمل ثقيل ولا يعطي مجالا لأخته وأمه أن ينقصا من رجولته شيئا. لذا رفع والده للأعلى بكل ما أوتي من قوى وسرح بنظره بعيدا ناحية أمه التي كانت تنظر باهتمام وتركيز رهيب إلى جسد زوجها.
بدأ جسد الرجل العاري ينزف تاريخ عمره مع انسياب الماء متخلصا من حمولة قد تكون ثقيلة خلال عبوره إلى البعد الآخر. كانت أحداث الماضي تنسل من وجدانه, تتسلق جدران البخار المتصاعد إلى أعمدة الحور العتيق, تتشابك مع فقاعات الصابون التي تفجرها نظرات العجوز وتحيلها إلى سياط تمسك زمامه. كان يدفع الذكريات الأليمة خارج كيانه عله يرحل بدونها. ذكريات تؤلمه بظلمها وقساوتها يوما كان قادرا على البطش. ليته كان تخلص منها قبل الإنهيار, قبل سكون حواسه... بل قبل فوات الأوان. كانت العجوز ترى شريط قساوته يرتسم على صفحة البخار المتصاعدة ببطء. كانت عيناها تتابع الماء الذي ينسكب من الكوب متدفقا على رأسه كأنما فارس من البعيد أتاها منقذا, يحملها على صهوة الهواء وينطلق بها الى بلاد الحرية.حدقاتها تتابع فقاقيع الصابون الذي يرغو ويرغو على جسده ويرسلها كرات تخيفها. ودت أن تعيدها اليه الى ثناياه لتبقيه هامدا خامدا. ها هي فقاعة تصوره يسحبها من شعرها..مرات ومرات. بدأ شعرها يحكها, رأسها يتذكر الألم في ندبات لا زالت تختبئ خجلى تحت منديلها, خجلى من ضعفها أمام سطوته... لا بل يدها المكسورة في الفقاعة الأخرى تصيح ومحجر عينها اليمنى يفتقد عينا كانت تسكنه في فقاعة ثالثة...ورابعة في سرير شهد عنف اللقاء, شراسة عش الزوجية. آلام وآلام تزداد مع لهيب سوطه, يداها ترتعش وأصوات جَلدها بحزامه تبعث في جسدها ألما ظنته في طيات النسيان... ها هو صوت السوط يجلجل, يفجر الفقاقيع فوق عمرها الطويل ... ها هي أكوام الإهانة تنهش بشرتها الصبية, وصفعات التحقير تنبش ماضي صباها الذي افترسه روحا وجسدا... الصور تملأ المكان, طغت على اللحظة بما فيها من قدسية الرحيل... عبثت في بحيرة ذكراها...لقد سرقها...سرقها هذا الراحل فيما سرق من براءة وسعادة وانوثة.
"أعيدوا ذكرياتي قبل أن يرحل... لا, لا فليأخذها معه, ليحمل وزرها يوم الدين...دعوني بلا ذكريات... دعوني أبدأ من جديد."
حمولة الإبن تزداد ثقلا وأنفاس الأب تخرج واهنة في وداع طال شغفه للقاء موعود مع رحمن رحيم... شغف الرحمة الذي يسكنه ما كان يعرف له طريقا إلى قلب زوج كما قالت في سرها... عضت على شفتها السفلى, أمسكت سوط ظلمها الأزلي, أخذته بقوة من يد المغادر, جلدته بقوة الوهم... بسوط النقمة, لسعت بقايا وجوده. جلجل وجدانه معمأعماقه أعماقهتناثرا مع رذاذ الفقاعات على جسده الواهي...بدأ الميت يتألم.شدت قبضتها على سوط الإنتقام مرة أخرى لتنقض عليه جالدة, بل لتنهش تمثال الظلم بأنياب نبتت للحظات خلت. إلتقت عيناها بعيني ولدها الذي أدرك بأنها قد خرجت من زنزانة عمرها ... رأى علامات النصر مكللة بالشماتة فوق محياها, رآها تستدرك حقيقة نصرها, تتهيأ لتقوم بالضربة القاضية... ابتسمت له
نظر اليها ولدها مرة أخرى, تأكد من بزوغ شمس الشماتة من محياها... شماتة لم يشهدها قبل. رأى بريق عجوز ينزع الظلم من وجناتها, رأى قُبح شماتة لم يدرك لذة طعمها, فهو ما كان أبدا في زنزانة عمرها. أخذه البر بوالديه في دوامة من الفوضى, أخذه الصراع بالوفاء لهما. ازادت حمولته بينما تسكب أخته الماء غاسلة فقاقيع الصابون عن جسد يطلب نقاء الروح دون جدوى. مسحت آخر سطور التاريخ من سجل أبيها. رأى الإبن تلك السطور تتلاشى بينما ترتشفها الأم بنهم. لم يتمالك نفسه من الصراخ بوجه أمه قائلا: ألا يكفيك ما فيه من هوان...أخرجي أخرجي.
قامت بهدوء..خرجت بكبرياء ... ولم تعد