تعود أن ينام على قصف المدافع ودوي المتفجرات منذ فترة وجيزة. منذ أن تبدلت وتيرة الحياة من حيث لا يدري. ها هو يلتحف بردعة حماره الذي مات في القصف المتبادل بين طرفين من أبناء الوطن. هو لا يعرف أكثر من ذلك. يعيش في بلدة نائية لا يتجاوز عدد أفرادها بضع وعشرون فردا. كان ذلك العدد منذ فترة وجيزة عندما كان يصحو في الصباح على أصوات العصافير وصياح الديكة التي تعج بها حواكير العشش البائسة. هم لا يعرفون شيئا عن بؤسها, لأنهم لا يعرفون أكثر. هكذا ولدوا بين أفيائها, ترعرعوا بين دروبها قلبا واحدا...تزاوجوا بين ربوعها ببساطة الحب وبراءة السلام. ولد هناك، لم يغادرها قط, فنبض قلبه تخفق به أشجار الزيتون ومساكب الخضار التي تزين الارض وتشبع النظر وتنتج غذاء للجسد . بيته عند أطراف القرية يعيش فيه وحيدا منذ أمد طويل يوم تركته رفيقة الدرب مستجيبة لدعوة الخالق.
بدأ التغيير منذ فترة، عندما لاحظ بأن أعداد الشباب تتناقص... يرى أطيافهم مغادرة مع عتمة الليل ولا تعود إلا معه في اليوم التالي. لم يكن هناك من يساله، بل لم يهتم كثيرا فهو رجل عجوز يهتم بأرضه كما يهتم بحماره. وعندما يتسنى له بعض الوقت يجلس على المصطبة ليمتع عينيه في سماء واسعة تحمل إليه أخبار السماء السارة. تلك الأخبار التي تنبئ عن اقتراب سقوط المطر حينا فيفرح لارتواء الأرض وأحيانا يتهادى إليه نسيم عليل يأخذه في نوم عميق.
وفي الفترة الأخيرة عندما يعود الشباب من حيث لا يدري تبدأ أصوات المدافع والمفرقعات تتساقط على القرية حيث يعيش فيها أبناء عشيرته.. مفرقعات تنهش النوم وتزيد الارق. لا يرى الكثير، لكن ما يسمعه يخيف لياليه فتصطك ركبه طيلة الليل وترتعب أوصاله طيلة النهار. حاول أن يسأل بعض المارة بالقرب من أرضه النائية عن أقاربه لكنه لم يفهم الكثير مما قالوا. قالوا بأنها ثورة... قالوا بأنها انتفاضة ... قالوا وقالوا ولم يستوعب
لكن يوم أمس حين رأى الشباب قادما من البعيد في وسط النهار متراكضا بين ثنايا الخوف تكلله قسمات رعب لا يعرف كنهها بعدما توجس شرا... أخذته الحيرة عندما رآهم قريبا من أرضه. هب ليستجدي خبرا فأمسك عصاه وسار ببطء... يعتبره عَدْوَا. سمع هديرا من السماء، رأى شهبا تُساقط كتلا من نار اتبعتها أصوات مدوية زلزلت الأرض من تحته, أوقعته أرضا على ظهره .. لم يكن هنالك وقت ليصرخ فالاشلاء تتطاير، تتساقط. كان الصراخ قد انقطع فجاة أتبعه صمت مطبق... اختفت طيور السماء القاتلة مقتلعة معها أرواحا لأجساد كان يعرفها.
قام مسرعا، مهرولا بين هنا وهناك... لم يعد هنا كما كان... ولم يعد هناك موجودا
أشلاء، جثثث... بيوت مهدمة... صمتت العصافير عندما احترق شجر الزيتون فوق ريش الديكة التي احتمت بأجداث محترقة. أحس برغبة الإنخلاع من الواقع... أمسك بردعة الحمار كأنما يحتمي بحنينها ورحل مغشيا عليه في كوابيس لا تنتهي.
صحى من نوم لم يكن.. جال بنظره صوب عشته التي تلاشت...فوق صديقه الحمار الذي تناثر. تحرك قليلا أملا في النهوض. فاجأه سلاح مصوب إليه من جندي متجهم الوجه. لم يهتم كثيرا وتابع النهوض. صرخ فيه الجندي لا تتحرك..
- من أنت
أنا جندي افتش الخونة =
- أي خونة
= ألا تعرف يا كلب...قريتكم هذه التي تتآمر مع العدو لتنفذ مخططاته
- يا بني
= اسكت فأنا لست ابنك...أبي ما كان خائنا
- يا بني نحن أبناء الارض, أرض الوطن...نحن هنا منذ الأزل. وأنا لم أبرح مكاني قط عشقا بهذه الارض.
= هذه هي صفة الخونة الذين يحتمون بالغريب لتطبيق المؤامرة
- لا أعرف عن ماذا تتكلم
= ستعرف عندما أجد بقية الخونة.
- لا يوجد بقية ... لقد قتل الجميع
- إذا أنت الخائن الناجي الذي سيخبر العدو عما جرى.
أطلق عليه رصاصة ... رصاصات... ركله برجله وقال : يعيش النظام