جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
فى بداية القرن العشرين ظهرت فى مصر حركات متعددة للإصلاح الاجتماعي، تصور بعضها أن الإصلاح لن يتم إلا بتحرير الوطن من مستعمريه، وتصور البعض الأخر أن الاستعمار لن ينتهي إلا بالخلاص من القلة المندسة من العملاء المواليين للاستعمار، وفريق أخر تزعمه الشيخ محمد عبده والذي أيقن أن ثمة نوعان للإصلاح أحدهما برانى يتحدد فى الخلاص من المستعمر والأخر جوانى يتمثل فى دولة القيم والأخلاق. فمصر لن تتحرر إلا إذا تحرر أبنائها من سلبيتهم، ولن يتخلصوا من الاستعمار إلا إذا تخلصوا من الأنانية المفرطة، التى كثيرا ماتقدم مصلحة الذات على صالح الوطن. وهنا حدد محمد عبده بذكاء دور رجال الدين فى السياسة من خلال خلق الايجابية فى نفوس الشعب، وبناء وتقوية الأنساق القيمية التى هدمها المستعمر فى ضمائر الشعوب..ولم يقحم محمد عبده دعاة الدين فى اللعبة القذرة التى كثيراً ما تلوث من يمارسها؛ قناعة منه بمقولة الشافعي،أن من ارتاد العمل العام فليتصدق ببعض من عرضه. وحرصاً من الإمام على أعراض مشايخنا -لكونهم القدوة والنموذج فى بناء الأمة- فقد نأى برجال الدين عن الدخول فى دهاليز السياسة. تلك اللعبة التى لم يختلف فى تعريفها فلاسفة الإسلام أمثال الإمامين الفارابي والغزالي عن فلاسفة الغرب أمثال مكيافيلى وجان جاك روسو وتوماس هوبز، الذين عرفوا السياسة بأنها اللعبة القذرة التى تقوم على المكر والدهاء والخديعة. فإذا كان مكيافيلى قد أخذت عليه مقولته المشهورة " الغاية تبرر الوسيلة" فقد أفرزت تجارب وضمائر الشعوب العربية المثل الشعبي "إللى تغلب به إلعب به" مما يؤكد خلو هذه اللعبة من الأخلاق التى يُعَد رجال الدين هم دعاتها. فكيف يدعون إلى الأخلاق ويمارسون الخديعة حسب مفهوم السياسة؟ وأن استخدم الدعاة الأخلاق فى ممارساتهم للسياسة؛ فربما يكون استخدامها معول هدم وهزيمة؛ فليس من الذكاء أن تستخدم أخلاق الفرسان على طاولة اللئام. وهل فى صالح الدعوة أن يكون للعامة نصيب فى أعراض الدعاة؟ وهل فى صالح الوطن أن تستباح أعراض رجال الدين فيه؟
فها نحن بعد الثورة يطل علينا دعاة للدين كان قد عَدَهم الشعب قدوة ونموذج، وهاهم قد دخلوا عالم السياسة وتاهوا فى دهاليزها وانشغلوا بألاعيبها ،واستغلوا قبولهم الدعوى فأسسوا أحزاباً ودشنوا قنواتاً قضائية، وانشغلوا عن بناء القيم وتجويد الأخلاق ببناء الأحزاب وإنجاح البرامج؛ فجعلوا المواطن حائراً بين دعاة الدين ورجال السياسة، فى ظرف تاريخي عصيب تشرذمت فيه قيم الشباب وأخلاق العامة. وبات الوطن أحوج إلى إعادة بناء منظومة القيم عن حاجته لبناء منظومة السياسة.
ولم يأت مقالي هذا دفاعاً عن الفنانة التى نال مشايخنا عبر الفضائيات كثيرا من عرضها، متناسين أنها امرأة وأنها مسلمة. وإنما جاء حسرة على ما وصل إليه رجال ديننا الحنيف، الذين تناسوا تعاليم الدين التى تشين تتبع عورات الناس وأن من تتبعها تتبع الله عورته. وأن من ستر مؤمنا ستره الله يوم القيامة، وأن الخوض فى ذمم الناس كالخوض فى أعراضهم.
فما أحوج مشايخنا اليوم إلى الأخذ بمنهج الإمام محمد عبده فى الإصلاح ، ذلك المنهج النموذج الذى تحاكت عنه أباطرة السياسة فى الغرب, نموذج أساسه القيم، فلن تنهض مصر إلا بأخلاق أبنائها، وكل ما تعانيه مصر من مجاعة وانفلات أمنى وفساد وأكوام قمامة؛ هى تعبير عن أزمة أخلاق ولن تصلحها السياسة وخدها؛ ولكن بأخلاق الشعب المنوط برجال الدين بنائها. فتحية لمن التزم بالمنهج من الدعاة، وحسرة على من اتبع السياسة وضل الطريق..
المصدر: الكاتب المصرى دكتور صلاح هاشم
صحيفة " الوطن العربى الأسبوعية " المستقلة الشاملة - لندن ، المملكة المتحدة ..
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير :
د. علاء الدين سعيد