عندي حكايات يشيب لها شعر الرأس عن استهتار بعض كبار الأطباء وابتزازهم واستغلالهم للمرضى، الأمر الذي يشكل جريمة مضاعفة.
ذلك أن وقوع تلك الممارسات يعد عدوانا جسيما على حق المهنة وجريمة بحق المجتمع.
أما السكوت عليها فهو جريمة أخرى أقرب إلى التواطؤ والتستر.
وأرجو ألا يساء فهم هذا الكلام أو تأويله. لأنني أتحدث عن بعض وليس كل كبار الأطباء.
وأعتبر ممارسات أولئك البعض من قبيل البقع السوداء في الثوب الأبيض.
لكنني صرت أخشى من تزايد تلك البقع في الأجواء التي سادت فيها قيم الجشع والترف المبتذل والثراء السريع والفاحش، الذي ما عاد يميز بين المشروع وغير المشروع.
وإذ أشدد على أن لدينا أطباء يتمتعون بدرجة عالية من النزاهة والورع. حتى تحسب أنهم أقرب إلى أولياء الله الصالحين، إلا أنني صرت أخشى عليهم وعلى من دونهم من تغول قيم الطالحين.
أحدث قصص الطالحين كان ضحيتها أحد أبناء العائلة.
شاب انتابته نوبة قيء أثناء أدائه الامتحان فنقل إلى مستشفى كبير وشهير في مصر الجديدة.
وأشرف على علاجه أستاذ له اسم رنان، يتقاضى 300 جنيه مقابل الكشف الذي يتم بعد ثلاثة أشهر،
وفي الحالات المستعجلة يطالب المريض بدفع 500 جنيه إذا ما رغب في أن يراه الطبيب في موعد أقرب، عادة ما يتراوح ما بين عشرة أو 15 يوما،
في المستشفى خضع الشاب لكل ما يمكن تخيله من تحاليل وأشعات لم تسفر عن شيء.
وخلال ستة أيام رآه الطبيب الكبير مرة واحدة، ثم تركه لمساعديه وذهب ليستجم في أحد المنتجعات،
وحين ساءت حالته وعوتب الطبيب لأنه ترك مريضه بحالة متدهورة، فإنه استكثر العتاب وقرر مقاطعة المريض.
في اليوم السادس استقرت حالة الشاب فغادر المستشفى بعد دفع مبلغ 11 ألف جنيه دون أن يعرف أهله شيئا عما حل به.
وأثناء حيرتهم تلك دلَّهم بعض أولاد الحلال على طبيبة في حي المعادى تعمل أستاذة بكلية طب قصر العيني.
دفعوا مائة جنيه قيمة الكشف، وما إن سمعت القصة حتى قالت إن الشاب مصاب بفيروس معروف ينشط في المعدة لمدة خمسة أيام.
وكتبت لهم الدواء اللازم الذي لم يكلف سوى نحو أربعين جنيها (المستشفى تقاضى 2000 جنيه قيمة الأدوية).
لي قريب آخر تعرض لأزمة قلبية وقيل له إنه يحتاج إلى دعامة في مكان دقيق بشريان الأورطى، وهذه الدعامة لا تتوافر في مصر، ولكن طبيبا تركيا متخصصا يأتي بها من بلده ويقوم بتركيبها مع الطبيب المصري المعالج.
آخرون من الأطباء المصريين قالوا إن الحالة متأخرة للغاية وأنه لا جدوى من العملية. لكن الطبيب المعالج نصح بإجرائها رغم علمه بأن الأمل في نجاحها منعدم.
قبل إجراء العملية تم دفع نحو 150 ألف جنيه للطبيب التركي ونظيره المصري، وتقاضى المستشفى الدولي الكبير 50 ألفا أخرى، وسلم المبلغ بكامله باليد دون أي إيصالات، وبعد العملية اختفى الطبيب المصري ونظيره التركي، وخلال 24 ساعة مات المريض.
كل من سمع هذه القصة أو تلك أضاف إليها قصصا أخرى مماثلة تتحدث عن المدى الذي بلغه جشع واستهتار بعض كبار الأطباء.
فحدثني أحدهم عن السيدة التي أودعت مستشفى استثماريا كبيرا بعد أن تمكن المرض اللعين من جسمها، لكنها فوجئت بطبيب طلب قبل منتصف الليل نقلها إلى غرفة العمليات لإجراء عملية قلب مفتوح لها. وهو ما فاجأ من كان معها،
وحين تم الاتصال بطبيبها المعالج في ذلك الوقت المتأخر، فإنه طلب وقف أي إجراء معها على الفور.
وتبين فيما بعد أن الطبيب أراد إجراء العملية التي لا حاجة للمريضة بها، لكي يتقاضى أجرها.
وعندما افتضح أمره فإنه ظل يمارس عمله العادي في المستشفى وكأن شيئا لم يكن.
قصص الجشع هذه لا تنافسها في العدد سوى قصص الإهمال والاستهتار الذي يتسم به أداء بعض الكبار، حين يتقاضون عشرات الألوف جراء عملياتهم، ثم ينقلون الدم الملوث إلى مرضاهم. فيخلصونهم من أزمة ليدخلوهم في أزمة أكبر.
ولأحد صحفيينا المخضرمين تجربة مريرة ومثيرة في هذا الصدد تصلح لأن تكون فيلما دراميا يفضح مدى التدهور الذي بلغته المهنة على أيدي أولئك البعض من الكبار.
شركات الأدوية ضالعة في المشهد البائس. وكذلك بعض وسائل الإعلام أيضا.
فالشركات تتواطأ مع بعض الأطباء للترويج لأدويتها، وأحيانا تدفع لأصحاب بعض الفضائيات لاستضافتهم والحديث عن تلك الأدوية، إضافة إلى تسويق الأطباء في الوقت نفسه بعد الإعلان عن هواتفهم النقالة على شاشات التلفزيون.
وقد قيل لي إن إحدى شركات الأدوية دفعت مليون جنيه لصاحب إحدى القنوات الخاصة لذلك الغرض.
ما يدهشنا حقا أن يحدث ذلك وتتواتر أخبار الفضائح ــ وما ذكرته نقطة في بحر ــ دون أن نجد مساءلة أو محاسبة لأحد.
بل نجد أحيانا تحيزا ومجاملة من جانب وزارة الصحة ونقابة الأطباء للمتورطين في تلك الجرائم.
حتى إن نقيب الأطباء السابق طرد صحفية من مكتبه ذات يوم لمجرد أنها أرادت أن تفتح معه الموضوع.
وإزاء سكوت الوزارة والنقابة لم يكن هناك مفر من تقديم الشكوى إلى الرأي العام لفضح الجريمة طالما أن هناك من يحاول تجاهلها أو التستر عليها.
أحد الأسئلة المهمة التي يثيرها المشهد ما يلي:
هل هذا الجشع والفساد مقصور على الأطباء وحدهم أم أن هناك انهيارا مماثلا في تقاليد وأعراف المهن الأخرى؟
سأترك لك الإجابة لأنني لا أريد أن أصدمك برأيي في الموضوع.