جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
غداً سأفعل ما نويته من مهام وأنشطة.. ثم يأتي الغد.. وبعد غد.. وتتوالى الأيام وتزال المهام التي انويت فعلها معلقة في الخاطر، ولم يكتب لها أن تنفذ في الحاضر.. وتظل أيامنا تمر مثل بكرة خيط تكر.. وهكذا في معظم الأحيان غالباً ما تكون خططي المستقبلية لبكرة مؤجلة وأيامي مهدرة.. شعور يراودني في بعض الأيام ويصيبني بخيبة الأمل وأظل اتهم ذاتي بالتقصير في الهمة في العمل.. والفشل في تحقيق معظم طموحاتنا ومشاريعنا في الحياة.. حيث تمر أوقات نعاني خلالها من سقوط الهمة للقيام بأية مهمة.. فاقدين للعزم والحماس حتى في الاستمرار لما خططنا له وحلمنا بأداءه بشاط وهمة.. ويتحول مع الوقت شدة الهمام إلى استرخاء تام، كسل كان سببه، أو فقد الحافز لاستكمال مشاريع الحياة إلى حد التمام.
وأتساءل.. اتعجب.. لماذا نصاب بهذه الحالة من سقوط الهمة، وفقد العزم وضعف الحماس للاستمرار في أداء المهمة.. فمشكلة الخطط المؤجلة إلى أجلً غير مسمى، وانخفاض قوة العزم والإصرار على استكمال المشاريع والمهام على المستوى الشخصي أو على المستوى الأداء الجماعي أو الحكومي، تعتبر من المشاكل الجادة والمؤثرة سلبياً على وتيرة التنمية البشرية وتقدمنا للأمام.
ربما يرجع سبب هذه الحالة في عدم اخلاص وصدق النية في أداء المهام وتنفيذ الخطط.. وربما يرجع سببها إلى فقد المهارة في تنظيم واستغلال الوقت، وعدم الالتزام بجدول زمني في أداء الأعمال.. فمثلاً على المستوى الشخصي عندما نعقد العزم على قراءة كتاب أو الاستذكار استعداداً للأمتحان، أو الالتزام باتباع نظام غذائي أو ممارسة نشاط رياضي.. قد يكون نصح به طبيب لعلاج مشكلة صحية لدينا.. عادة ما نبدء هذه الأعمال أو الأنشطة بحماس شديد، ثم مع الأيام يتراخى عزمنا ويسيطر علينا الكسل للاستمرار على ما شرعنا ببدءه، سواء كان أعمال أو أنشطة أو الإلتزام بنمط حياتي جديد يحتاج إلى جهد لترويض الذات..
فمثلاً خلال العملية الدراسية.. نجد معظم الطلاب يتكاسلون في القيام بمهمة الاستذكار ومراجعة ما عليهم من دروس.. وأحياناً تستمر عملية التكاسل والتأجيل إلى الأوقات الأخيرة السابقة للموعد المحدد لأداء الاختبار.. وحينها يضطر الطالب إلى تكثيف جهوده حتى يتمكن من تحصيل القدر الذي يمكنه من اجتياز الاختبار.. ويبدوا أن ثقافة الفعل الاضطراري والإنجاز تحت الضغوط هي ثقافة سائدة وسارية في كثير من عادتنا الحياتية.. فالأشياء لا تنجز إلا في آخر وقت من الزمن المحدد لها.. والقوانين عادةً لا يتم الإلتزام بتطبيقها إلا في حالة فرض عقوبة قاسية أو غرامة كبيرة.. والأعمال لا تنفذ إلا في وجود شخص ذو سلطة فوقية عليا يأمر بسرعة إنجاز الأعمال.. وكأننا اعتدنا عدم إنجاز الأشياء إلا في ظل وجود رقابة أو وصاية أعلى.. "شخص يجرى وراءنا بالعصا".. شخص يشرف أو يتابع أفعالنا وما قمنا بإنجازه من أعمال..
ولعل الأمر يرجع إلى عملية التنشئة الاجتماعية لكثير منا، حيث لم نربى على الاستقلالية في أداء الأعمال وتحمل مسئولية إنجاز الأشياء بمفردنا.. فمنذ دخول الطفل مرحلة رياض الأطفال والتعليم الابتدائي نجد والدته تظل تلاحقه ليقوم بأداء واجباته المدرسية التي تمثل حملاً ثقيلاً على نفسية الطفل نظراً لأنه لا يعي لماذا يتم تعذيبه والصراخ في وجهه لإداء واجبات فرضت عليه بدخوله سنواته الأولى في الروضة أو المدرسة.. وكان قبل ذلك يمرح ويلعب كيفما يشاء..
وتستمر علمية تنشئتنا ومعاملتنا على أننا مازلنا أطفال نحتاج للوصاية والرقابة في أداء الأعمال حتى عندما نكبر.. فعندما كنا أطفالاً كان يتم إقناعنا بأننا لا يمكننا الاعتماد على ذاتنا للقيام بأي عمل مهما بلغت بساطته إلا بمساعدة الأب أو الأم وتحت إشرافهما ورقابتهما.. وحتى بعد تخطينا سنوات عديدة من العمر لا نمنح الآهلية والثقة بالنفس لأداء الأعمال وتحديد أسلوب تنفيذها بمفردنا. لا أنكر هنا أهمية دور الوالديين في الرقابة والتوجيهه من أجل حماية الأطفال وتربيتهم.. ولكني أسلط الضوء على أسلوب الوصاية الذي يمحو شخصية الطفل ويجعله فاقد الثقة في ذاته، يتملكه خوف دائم من القيام بأي لفتة أو هفوة إلا في ظل وجود الحماية والوصاية التى اعتاد عليها.. ونكبر ويكبر بداخلنا هذا الخوف والرهبة من الإقدام على أي جديد.. وهكذا ينغرس بداخلنا شعور الوصاية العليا وفي حالة غيابها يغيب الدافع أو الاهتمام بأداء الأعمال بحماسية ملتهبة..
عيب آخر يتم تنشئتنا اجتماعياً عليه يمكن اعتباره من احد الأسباب لسقوط الهمة عند القيام بأي مهمة.. هو عدم الاهتمام بقيمة الوقت ومسئولية الإلتزام بالمواعيد واحترامها.. فدائماً لدينا أحساس بأن هناك متسع من الوقت لأداء الأشياء.. دائماً نتصور أنه "لسة بدري".. وفجأة ندرك أن الوقت قد أزف ويجب الإسراع في إنجاز ما علينا من واجبات ومهام قبل الموعد المحدد.. أما في حالة عدم وجود موعد زمني محدد فسيظل الفعل ضمن خطط التأجيل ولا يصل لدرجة التفعيل..
والغريب أن عادتنا ومفهومنا لاحترام قيمة الوقت تتغير عند الذهاب للإقامة بالخارج أو العمل في القطاع الخاص أو أحد الشركات التي تعتمد في علملها على سياسة أجنبية في تنظيم العمل واستثمار الوقت بشكل جيد وناجح.. ويتأثر بعضنا بالثقافة الأجنبية في الحفاظ على الوقت وكيفية استغلاله حتى بعد عودته لوطنه.. ولا أقصد هنا أن المتأثر بالثقافة الأجنبية يكون عالي الهمة في القيام بالمهام.. ولكن النظام الحياتي الذي يعيش ضمنه هو الذي يمنحه فرصة جيدة للحفاظ على الوقت وكيفية استغلاله..
وهنا نأتي لإشكالية النظام والأداء الحكومي.. حيث حدث ولا حرج عن سياسة القوى العاملة في توظيف الشباب.. والانتظار طويل المدة إلى أجل غير محدد.. فالشباب (أو البعض منهم) ينهي تعليمه ويتخرج وهو يعلم تمام العلم أنه سينضم إلى صفوف العاطلين لمدة غير معلومة.. وربما كان هذا سبباً أساسياً من أسباب سقوط الهمة لدى بعض الشباب.. حيث يؤمن البعض بأنه مهما بذل من جهد ومحاولات فستكون المحصلة واحدة.. ولذا يصاب بسقوط الهمة ووهن العزم لمهمة تطوير ذاته والخروج من الصندوق النمطي للحياة.. أقول بعض الشباب وليس الكل.. فبالتأكيد هناك نماذج تتمتع بحماس كافي لتطوير ذاتها..
ومازلنا ضمن إشكالية الأداء الحكومي.. حيث المشاريع التي تظل مؤجلة وفرص الاستثمار الضائعة.. كمشروع توشكى ومشاريع أخرى كانت ستعود بكثير من الفائدة على توفير فرص عمل وتحسين الدخل القومي.. ففي مجال الاسثتمار الزراعي، نلاحظ سقوط الهمة لدى المزارع لاستصلاح الأرض وزراعتها، وتوجهه للمدينة للعمل بأي مهنة تتراءى له بأنها أسهل وأيسر من العمل بالزراعة ومشقة جلب السماد وبيع المحصول.. وجاء هذا نتيجة تخاذل الحكومة في الاهتمام بدعم المزارع حتى يمكنه التغلب على المشاكل التي تواجهه في العملية الزراعية.. حيث كان من الممكن أن نكون دولة مصدرة للقطن والقمح ومحاصيل أخرى كنا نشتهر بزراعتها..
وجه أخر من وجوه سقوط الهمة في المشاريع الصناعية يتمثل في عدم النجاح في الاستمرار بإنتاج السلع بنفس الدرجة من الجودة عند بدء إنتاجها.. حيث نجد كثير من السلع تنتج في بداية صدورها بجودة عالية تجذب المستهلك، ثم تدريجياً ينخفض مستوى جودتها بعد فترة.. ومن المؤكد أن هذا يرجع إلى اتباع سياسة تحقيق أعلى ربح بتكلفة أقل.. ولكنه يعبر أيضاً عن شكل من أشكال سقوط الهمة ووهن العزم للصعود للقمة من خلال إنتاج سلعة "وطنية" تغزو الأسواق العالمية..
ومثلما ألتهبت المشاعر الحماسية خلال أحداث 25 يناير 2011 ثار على إثرها جماهير غفيرة مطالبة بالتغيير.. وتغييرت كثير من السلوكيات و التوجهات إلتزم بها العديد من فئات المجتمع لفترة من الوقت ثم تراجعت في حماسها الملتهب.. انخفض الحماس ووهن العزم ربما لدى البعض.. ومن ثم تراجعت السلوكيات الإيجابية للروح التغيير الجديدة التي أنبتتها الثورة..
ويعتبر كل ما سبق مجرد رؤية للعوامل والأسباب التي تؤدي لسقوط الهمم ووهن العزم لصعود القمم.. رؤية قد تحمل جانباً من الصواب أو الخطأ لموضوع حيوي وهام كهذا، لما له من أثر عميق ومتشعب على التنمية البشرية بكافة مستوياتها.. نعم جميعنا قد نصاب بحالة من الإكتئاب والتكاسل في أداء المهام.. ولكن وهن العزم وأنطفاء الحماس بات ينمو ويزداد لدى كثير منا.. حيث يضيع الأمل في إمكانية في تحقيق التغير والتقدم من خلال العمل.
المصدر: د. نهلة أحمد درويش
دكتوراة في الآداب - علم الاجتماع
صحيفة " الوطن العربى الأسبوعية " المستقلة الشاملة - لندن ، المملكة المتحدة ..
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير :
د. علاء الدين سعيد