إجتهادات الدكتور عصمت سيف الدولة فى قضية الديمقراطية
بقلم الكاتب و الدبلوماسى السودانى
الخضر هارون
فى ضوء المخاض العسير الذى يمر به أكثر من بلد عربى فى مسعاه للتخلص نهائياً من الأنظمة الأبوية التى ظلت ممسكة بخناقه كالأخطبوط على مدى عقود طويلة، أعدت قراءة كتاب الدكتور عصمت سيف الدولة "الإستبداد الديمقراطى" الذى ظل ضمن مقتنيات حصلت عليها من معارض كتب فى الجزائر أثناء عملى هناك. والناشر: دار البراق للنشر فى تونس وتاريخ النشر عام 1990. والكتاب مقسم إلى ثلاثة أبواب هى الإستبداد المتخلف والإستبداد المتحضر والإستبداد الديمقراطى جاءت جميعا فى 169 صفحة من القطع الصغير. ورأيت أن أشرك القارىء فى محاولات الدكتور الإتيان بوصفة للحكم تلبى طموحات وأشواق الناس فى البلدان العربية ولا تغفل الإرث الحضارى للأمة ولا تفوت فرصة الإفادة من التجربة الإنسانية الثرة خاصة فى الغرب.
والدكتور عصمت سيف الدولة مفكر مصرى ولد فى محافظة أسيوط فى صعيد مصر عام 1923 وتوفى عام 1996 وهو عروبى النزعة، ناصرى الهوى، بقدر من الإعتذارية أتاحت له إنتقاد العديد من الممارسات نسبها لبيروقراطيين وأصحاب مصالح فى النظام لا إلى الرئيس جمال عبد الناصر الذى دافع عنه والتمس له المعاذير فى كتاب كامل حمل عنوان: "هل كان عبد الناصر ديكتاتوراً؟". ومن حيث التأهيل العلمى، أو "التكوين" كما يحلوا ذلك لإخواننا فى المغرب العربى، فالرجل حاصل على درجة الدكتوراة فى القانون من جامعة السوربون الفرنسية فهو فرانكفونى الثقافة كالعديد من أبناء جيله. لكن على كل حال فإن رؤاه الإشتراكية للديمقراطية المعبر عنها فى دفاعه عن ثورة جمال عبد الناصر التى ترى فى تحرير الفلاحين والعمال من سيطرة الإقطاعيين عبر الإصلاح الزراعى وحماية العمال بالقوانين من الفصل التعسفى والأجور غير المجزية، ضرباً من ضروب الديمقراطية وهى أولى بالتحقيق من مجرد إطلاق الحريات التى لا تعالج الأمراض الإجتماعية. اقول رغم ذلك، فإن الرجل قد كتب كتاباً رائعاً فى تأريخ التجربة الديمقراطية جدير بالقراءة وان رؤاه الإشتراكية العروبية لم تنل من حيدته فى بسط أفكار الاخرين كأكاديمى متجرد. ولا تكاد تتبين تلك القناعات إلا فى براعته فى نقد الطبقة البرجوازية. هنا تكتسب عباراته قسوة حماسية لكنها لا تخرج عن دائرة المقبول. وفى معرض إستعراضه لمحاولات المجتمعات الإنسانية التحرر من قبضة الإستبداد استنكر إغفال المؤرخين الغربيين لإسهامات الشرق ممثلة فى قوانين حمورابى التى سبقت وضع الدساتير فى أوروبا المقيدة لصلاحيات الملوك وإلى إسهامات الهنود وإلى القرآن الكريم كأول وثيقة فى التاريخ ترد الأحقية فى التشريع لغير الملوك والحكام وتحد من صلاحياتهم. وهنا أورد الكاتب العديد من الآيات الرافضة للإستبداد.
إستعرض فى الفصل الأول المخصص لبحث الإستبداد المتخلف أنواع الإستبداد التى شملت الإستبداد المطلق الذى يلغى وحدة المجتمع ويشمل إستبداد الملوك والأباطرة ثم سيطرة البابوية الكاثوليكية باسم الحق الإلهى. وأشار إلى أن هزيمة المسلمين فى (باتيه) جنوب فرنسا فى القرن العاشر الميلادى ثم إلى سيطرة المسلمين على طرق التجارة إلى الشرق مما أدى إلى إغلاق منافذ التجارة الدولية على أوروبا ومما حملها على تقسيم العمل فى مجتمعاتها كوسيلة وحيدة لإستدامة الحياة هناك بحيث أضحت تلك المجتمعات مكونة من حكام ورجال دين وشغيلة. ثم ظهرت طبقة المعفرة اقدامهم أو "الباعة المتجولون" والتى تطورت إلى الطبقة البرجوازية. وقال إن الكلمة نفسها (برجوازية) مأخوذة من كلمة (برج) العربية حيث انتهى الأمر بأولئك إلى العيش فى أبراج ومحتشدات داخل المدن وعلى حوافيها. هذه الطبقة تطورت إلى طبقة لعبت دوراً كبيراً فى تطور الديمقراطية عبر نضالها التجارى للتخلص من قيود الحكام متحالفة تارة مع النبلاء والإقطاعيين ضد الملك أو مع الملك ضد أولئك حتى تمكنت في العصور الحديثة من إقامة الديمقراطية النيابية. وهذا هو موضوع الفصل الثانى الذى سماه الإستبداد المتحضر. اشتمل هذا الفصل على معلومات تأريخية هامة منذ صدور العهد الكبير أو (الماغنا كارتا) عام 1215 فى إنجلترا والذى حد لأول مرة من صلاحيات الملك ضد النبلاء الأمر الذى حدا بالملك إلى السماح للبرجوازيين بدخول المجلس الكبير كقوة ثالثة لمناصرة الملك فى وجه ممثلى النبلاء والكنيسة فى المجلس والذى إنقسم بدوره عام 1315 إلى مجلسي اللوردات والعموم، ثم تحليل الكنيسة للربا. تحدث هنا عن الإستبداد النيابى وكيف أن الطبقة البرجوازية قد استحدثت من الكوابح للحد من قدرة الشعب على الحكم وكيف ان شروط الترشح والإنتخاب كانت مكفولة فقط لمن يملكون قدراً معيناً من الثروات والأصول. ثم استعرض ما تم فى فرنسا من تطورات إلى قيام الثورة الفرنسية التى احتوتها فى نهاية المطاف الطبقة البرجوازية خدمة لمصالحها. وتحدث عن إستبداد البرجوازية المصرية مستشهدا بدستور عام 1923 الذى كانت نصوصه للترشح للبرلمان تجعل القدرة على ذلك وقفاً على الاثرياء.
وفى الفصل الثالث، الإستبداد الديمقراطى، اقترب الدكتور سيف الدولة من قناعاته الفكرية التى تربط بين الحرية من الفقر والبطالة وبين الحقوق السياسية مستشهدا بالفيلسوف السويسرى جان جاك روسو صاحب "العقد الإجتماعى" والذى إعتبره فيلسوف الحرية الحقة الذى سبق عصره. وأورد مقالة روسو فى المساواة فى الثروة: "أما فيما يتعلق بالثروة فإن المساواة تعنى ألا يبلغ أى مواطن من الثراء ما يجعله قادراً على شراء مواطن آخر وألا يبلغ مواطن من الفقر ما يدفعه إلى بيع نفسه". ويقول روسو أيضاً: "إذا أردت أن تضفى على الدولة ثباتاً قرّب بين الحدود القصوى بقدر الإمكان فلا يبقى فيها غنى فاحش ولا فقر مدقع." ويعتبر الدكتور عصمت النظام النيابى إستبداداً لأن النواب يأخذون بمجرد إنتخابهم شيكاً على بياض حيث لا يرجعون لأخذ راى ناخبيهم. ويشير إلى أن الأمر فى بداياته كان افضل منه الآن حيث كان الناخبون يرسلون من يمثلهم إلى البرلمان وفى حوزته كراسة تحوى مطالب محددة لا يجوز للمثل تجاوزها ثم ينفقون على تكاليف سفره وإقامته حيث يوجد البرلمان ثم يحاسبونه عند عودته بما أنجز. وهو يتفق مع روسو في أن سيادة الناخب على أمر نفسه لا تلغيها نيابة، فهى حق اصيل لأن الحرية ليست إرادة متحررة من القهر وحسب، كما تقول الفلسفات الليبرالية التى تستند إليها البرجوازية، بل هى أيضاً مقدرة فعلية على تحقيق تلك الإرادة. فكأن النيابة عن الناخب تسلب الناخب حق الفعل وتمنحه لمن يمثله فى البرلمان وهو ما لايجوز بل هو ما يجعل الديمقراطية النيابية إستبداداً وفق هذا المنظور. ويرى الدكتور عصمت أن نظام "الإستفتاء" أقرب إلى الديمقراطية الحقيقية المباشرة، لكنه فى الوقت نفسه يسوق العديد من الشواهد التى افسدت هذا النظام وجعلته "تدميراً" لأسس الديمقراطية فى مصر تحديداً. ويشير بين السطور إلى معالجة خلل النظم النيابية بإحالة القضايا المصيرية إلى الإستفتاء للحصول على رأى الشعب فيها كما يشير إلى أن الرأى العام المتمثل فى وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدنى يمكن أن تعمل ككوابح لطغيان النواب فى البرلمان.
إفتقدت فى الكتاب أى إشارة إلى تجربة الدول الإسكندنافية حيث تتناقم الحريات الأساسية فى التعبير والعبادة وإختيار الحكام مع ضمان العيش الكريم للمواطنين متمثلاً فى مجانية التعليم والصحة. مثل هذا الحوار ضرورى لإصلاح المسار وإزالة التشوهات.