الاقتصاد السياسي للرئيس العربي!
****************************
جواد البشيتي
يحتاج عِلْم "الاقتصاد السياسي" إلى مزيدٍ من التطوير؛ أمَّا السبب فيكمن في تجربة الرؤساء العرب (الغنية الواسعة) في تحويل فقرهم القيادي (والفكري) المدقع إلى "ثراء مادي (ومالي) فاحش"؛ وهذا، على ما أحسب، سببٌ كافٍ لاستحداث فرع جديد لهذا العِلْم، يمكن تسميته "الاقتصاد السياسي للحكَّام العرب"؛ فأنتَ يكفي أنْ تضطَّر الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك إلى أنْ يجيب عن سؤال "من أين لكَ هذا؟" حتى تُدْرِك أهمية الوسائل والأساليب والطرائق التي بها استطاع جَمْع ما جَمَع هو ونجليه وزوجته من ثروات طائلة، استثمر معظمها، وعلى خير وجه، في خارج الوطن، أي "المزرعة"، و"البقرة الحلوب".
وإنَّه لَمِن الأهمية بمكان أنْ يحاكَم الرئيس المخلوع مبارك، وأمثاله من الحكَّام العرب، لتتأكَّد "الرَّعية" أنَّ "راعيها" لم يكن إلاَّ "لِصَّاً" بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ فإنَّ سؤال "من أين لكَ (أي له) هذا؟" لن يجيب عنه، أي لن يتمكَّن من الإجابة عنه، إلاَّ بما يؤكِّد أنَّ "اللصوصية"، يمارِسها "الراعي"، أو "ولي الأمر"، هي وحدها الطريق التي منها استجمع كل هذه الثروات القارونية.
رئيس مصر المخلوع، كان مغتَصِباً لحكم "أُمِّ الدنيا"، وشعبها العظيم، اغتصاباً، مُؤمِناً بـ "أبدية" الرئاسة، وبـ "توريثها" لنجله جمال، وكأنَّ "الدولة"، أو "الجمهورية"، جزء من ممتلكاته الشخصية، يَرِثها الابن عن أبيه؛ كان الشخص (والعائلة) الذي تركَّزت بين يُمْناه ويُسْراه "السلطة (المُغْتَصَبَة)" و"الثروة (المُغْتَصَبَة)"، فَعَمَّ الفساد واستشرى؛ ولقد وعد (أو توعَّد) شعب النيل، من قبل، أي قبل قيامة مصر، بأنْ يبقى على حُكْمِه له، جاثِماً على صدره، ما بقي فيه قلب ينبض، فالرئاسة أتته منقادةً، إليه تجرجر أذيالها، فلم تَكُ تَصْلُح إلاَّ له، ولم يَكُ يَصْلُح إلاَّ لها!
ما الذي فكَّر فيه "الرئيس"، في ولايته الرئاسية الأولى، وعندما أوشكت أنْ تنتهي؟
لقد سرق ونهب (بما يتمتَّع به من سلطة مطلقة، أو شبه مطلقة) مع عائلته وحاشيته وأركان حكمه، كثيراً من المال العام (والخاص).
وهذا الاستجماع للثروة من هذه الطريق هو بحدِّ ذاته إغراء كبير له بالاستمرار في الحكم، أي بـ "الفوز" بولاية ثانية (وثالثة ورابعة وخامسة..).
و"الإغراء" يَقْتَرِن بـ "الخوف"، الذي هو خوف على الثروة الطائلة، وخوف من المحاكمة والعقوبة، فهو يمكن أنْ يُسْجَن؛ وثروته (من مال وعقار) يمكن أنْ تعود إلى صاحبها الشرعي، أي الشعب.
كلَّما سرق ونهب اشتد لديه الميل إلى مزيدٍ من السلطة؛ وكلَّما نال مزيداً منها اشتد لديه الميل إلى مزيد من السرقة والنهب؛ وليس من أمْر يمكن أنْ يضمن له (ولعائلته وحاشيته) الاحتفاظ بالثروة الطائلة (المتأتية من طريق الفساد) واتِّقاء شرَّ المحاكمة إلاَّ "الرئاسة الأبدية" له، وتوريث ابنه الحكم.
برودون فَهِمَ "الْمِلْكِيَّة الخاصة" على أنَّها "سرقة"؛ وماركس فَهِمَها على أنَّها "أداة (وسيلة) للسرقة"؛ أمَّا مبارك (وزين العابدين، وغيرهما، وهُمْ كُثْر) ففَهِم السلطة (التي استأثر بحصَّة الأسد منها) على أنَّها "أداة للسرقة".
أمَّا هذا الثراء الفاحش فأتى بعضه من الضرائب التي تجبيها دولته من الشعب، وبعضه ممَّا تحصل عليه "الدولة" من قروض ومساعدات مالية أجنبية، وبعضه من بيع أملاك عامَّة، وبعضه من أموال المُسْتَثْمِرين المصريين والأجانب، فالمستثمِر لا يمكنه من الوجهة القانونية أنْ يَسْتَثْمِر إلاَّ إذا رشا أهل السلطة؛ وبعضه من رِشَاً أخرى؛ وإنَّ الجزء الأكبر من الثروات الطائلة المتأتية من طريق الفساد يُسْتَثْمَر في خارج مصر؛ ولولا ماهية وخواص نظام الحكم المصري لما استطاع مبارك أنْ يحوِّل، في استمرار، السلطة إلى ثروة، والثروة إلى مزيدٍ من السلطة.
ولقد انتهى هذا المسار إلى رئيس جمهورية نصفه ديكتاتور ونصفه لص؛ وهذا اللص (الذي عَرَف كيف يجعل الحكم أداة للسرقة) أصبح مع عائلته من أثرى أثرياء العالم.
ولا أفشي لكم سِرَّاً إنْ قُلْت إنَّ الحرص على الاحتفاظ إلى الأبد بالسبعين بليون دولار هو وحده ما يفسِّر اشتداد وتعاظم ميل مبارك إلى "الأبدية" في الرئاسة، وإلى توريث نجله جمال الحكم والدولة، فمبارك كان يخشى دائماً من هذه العاقبة لمغادرته الحكم؛ ولا ضمان يضمن له ولعائلته الاحتفاظ إلى الأبد بهذا المال الحرام إلاَّ أنْ يظل رئيساً لمصر (ما بقي فيه قلب ينبض) وأنْ يُنْقَل الحكم من بعده إلى نجله؛ ومع ذلك ظلَّ يشكو، أو ظلُّوا يشكون.
إنَّني لم أجِدْ رئيساً عربياً قضى عمره، وأجمل أيام شبابه، في الحُكم يُعْرِب عن سروره وسعادته وغبطته، فهو لا يتحدَّث، إنْ تحدَّث، عن تجربته في الحُكم إلا والأسى يُمَزِّقُ نياط قلبه، يشكو وكأنَّه الفضيلة التي أُسيء فهمها، فهو لم يأتِ إلى الحُكم، ولم يتشبَّث به ويستمسك، إلا تأدية لـ "رسالة" تنوء بحملها الجبال. ويكاد أنْ يُقْنِع مواطنيه بأنَّ "السلطة" لا يرتضيها ويتجشمها إلا مَنْ زَهِدَ في الدنيا فتَرَكَ حلالها وحرامها، وكأنَّ "إرادة عليا"، و"سرِّية"، هي التي أكْرهته، وتكرهه، عليها، حتى أنَّ كل مَنْ استمع إليه وأنصت مِنَ المواطنين حَمِدَ الله على جَعْلِه مواطناً عاديَّاً محكوماً زاهداً في الحُكم، الذي مَنْ دَخَلَهُ "مفقود"، ومَنْ خَرَجَ منه "مولود"!
قد يستفيض في شرح "معاناته الإنسانية"، التي نَعْرِفُ بعض أوجهها ولا نُنْكِرهُ، وقد تشفق عليه وترأف به، فتدعوه إلى تَرْكِ الحُكم والعودة إلى المنزل حيث زوجته وأبنائه وأحفاده وأبناء أحفاده، واستئناف الحياة الدنيا في ربع ساعتها الأخير، فيغْضَبُ عليكَ غَضبَ الطبيعة بزلازلها وبراكينها، فأنتَ لا تدعوه إلى ذلك إلا لأنَّكَ تضمر شرَّاً للأُمَّة، وتبتغي الرمي بها في "المجهول"!
الثري قديماً، وفي الولايات المتحدة، مثلاً، وبصفة كونها مركز النظام الرأسمالي العالمي، كان يسمَّى "مليونيراً"، أو يُوْصَف بأنَّه "مليونير"، فإنَّ قيمة ثروته الشخصية، أي أمواله الثابتة والمنقولة، ما كانت تتعدَّى ملايين من الدولارات، وإنْ كانت القوَّة الشرائية للدولار أكبر وأعظم؛ أمَّا الآن فالثري، أو الذي ينتمي إلى فئة كبار الأثرياء، هو "الملياردير"، أي الذي قيمة ثروته الشخصية (وثروة عائلته) تتجاوز قليلاً، أو كثيراً، أو كثيراً جداً، ألف مليون دولار؛ وإلى هذه الفئة من كبار الأثرياء ينتمي مؤسِّس شركة "مايكروسوفت" بيل جيتس، وقيمة ثروته الشخصية 53 مليار دولار، والمستثمِر وورين بافيت، و"عملاق الطاقة" تي. بون بيكينز، و"عملاق الإعلام" تيد تيرنر.
أكثر من عشرين ثريَّاً من هؤلاء (الأثرياء الكبار) تعهدوا بـ "التبرُّع" بخمسين في المئة (على الأقل) من ثرواتهم الطائلة لـ "الأعمال الخيرية"؛ وهُمْ يقودون حملة (بقيادة بافيت وجيتس) تسمَّى "التعهُّد بالعطاء" لإقناع المئات من أمثالهم (في الولايات المتحدة) بالتبرُّع بمعظم ثرواتهم وهُمْ على قيد الحياة، أو بعد وفاتهم؛ ويزعمون أنَّ حملتهم تلقى استجابة قوية وواسعة، وأنَّ بعض "المُقتنعين" قرَّروا أن "يتبرعوا" بأكثر كثيراً من خمسين في المئة من ثرواتهم (لأعمال الخير).
ولكم أنْ تقارنوا بين أثرياء الغرب هؤلاء وبين الرؤساء العرب الذين أثروا ثراءً فاحشاً من طريق سرقة ونهب المال العام؛ لقد جاءوا، أو جيء بهم، إلى حُكْمنا، فقراء في المال والجاه والفكر والوعي، لا يؤمنون إلاَّ بشيء واحد هو "السيف"، ولو رصَّعوا غمده بالمزوَّر من ذهب الديمقراطية، فإنَّ من جاء بالسيف يجب أن يبقى به، وإلاَّ ذهب به.
اغتصبوا السلطة أوَّلاً، مقيمين لهم، وضدَّ الشعب، "الدولة الأمنية (المفْرِطة في عشقها للأمن.. أمن السلطة، لا أمن الوطن والمواطِن)"، ثمَّ اغتصبوا الأموال، فأصبح هؤلاء الغنيُّون عن الفكر والوعي، وعن الانتماء إلى شعبهم وأُمَّتهم، أغنياء بالسلطة والمال، فعمَّ واستفحل الفساد إذ تركَّزت فيهم، فئةً وشخوصاً، السلطة والثروة.
وهذا "المُغْتَصَب الثمين"، والذي فيه وبه يتَّحدون وينقسمون، يتصالحون ويتصارعون، ألا يستحق "رئيساً أبدياً"، وانتقالاً له بـ "الوراثة"؟!
ألا يستحقُّ أنْ تُخْتَرَع له سياسة، تبيع لـ "الخارِج" ما يكفل لهم بقاء وتعزيز سلطانهم على "الداخل"؛ وأنْ تُحاكَ لهذه السياسة ثياب إيديولوجية، تُجمِّلُ لابسها، وتستر عوراته، فنرى منه ثيابه، ولا نراه هو من خلالها؟!
بكثير من الفساد تتوفَّر دولنا على جباية المال من مواطنيها ورعاياها؛ وبفساد أكثر تتولى انفاقه وتوزيعه وصرفه واستثماره، فالسرقة والنهب والتهريب.. هي جوهر صلة "النافذين"، وكبارهم، بهذا المال العام؛ وليس الاشتغال بالسياسة بالأمر الذي يمكن فهمه وتفسيره بمنأى عن هذه "الدونية"، فالثراء ينبغي له أن يُتَرْجَم بسلطة، ينبغي لها أن تُتَرْجَم بثراء!
في عالمنا العربي، ما عاد لدينا، والحمد لله، قيادات تطمع بالتاريخ، أي بدخوله، فتزهد عن "متاع الغرور"، وتسعى في أن تقود وتحكم بما يجعلها من ذوي المجد.
ويكفي أن تعاني القيادات العربية ما تعانيه من فقرٍ قيادي حتى يشتد لديها الميل إلى أن تقود وتحكم بما يجعلها من ذوي الثروات الطائلة، التي من الفساد تتَّخِذ لها طريقاً وسبيلاً.
إذا تطرَّفْنا في العقلانية والواقعية والموضوعية في النَّظَر إلى الأمور، وغَسَلْنا عقولنا من الأوهام الإيديولوجية والدستورية والقانونية والسياسية، وأرَدْنا، من ثمَّ، تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، ووصفها بأوصافها الحقيقية، فلا بدَّ لنا، عندئذٍ، من أنْ نَسْتَنْتِج من تجربة الصراع بين "الدولة" و"الثورة (الديمقراطية) الشعبية" في كثيرٍ من البلاد العربية، أنْ لا وجود لـ "الدولة"، بمفهومها (وبواقعها) العالمي، عندنا؛ فإنَّ عصابة من اللصوص هي التي تلبس لبوس الدولة؛ وهذه العصابة تَظْهَر على حقيقتها العارية من الأوهام في أوقات الضيق والشدة، أي في وقت الثورة الشعبية العارمة.
إنَّها "دولة" أقْتَرِحُ أنْ تتَّخِذ من "السيف المصنوع من الذهب" شعاراً لها، أو رمزاً، فرأسها رئيسٌ رأسه هي الخواء الفكري بعينه، بيده اليمنى يمسك سيفاً يقطر دماً، وباليسرى كيساً، يضع فيه كل ما يسرقه من المال العام، لِيُنْفِق بعضاً من هذا المال الحرام في شراء الولاء والتأييد.