نستهل هذا المقال بهذه الآية الهيغلية:" إن القضية يجب أن تعرب عما الحق إياه, و لكن الحق في جوهره ذات, و من حيث هو كذالك فإن هو إلا الحركة الجدلية أو هذا السير الخالق لمساره, الراجع على نفسه."و شأن الذات هو نفيها لنفسها إثر اغترابها عن ذاتها في الموضوع و ضياعها عن نفسها لتعود إلى ذاتها في ثوبها الجديد بعدما تكون قد استوعبت الآخر في جوفها و تقدمت عن نفسها و الآخر في صيرورتها. إننا الآن على أعتاب ذات عربية جديدة.
إن اللحظة الجوهرية لتجلي الذات العربية كحق في ذاته و لذاته كانت عند انبثاق الإسلام التأسيسي في حياة الرسول محمد صلى الله عليه و سلم. كانت لحظة تجلي الكل و مباشرة إثر وفاته الواقعية أو الدنيوية بدأ العقل الإسلامي يتفسح خارج نفسه محققا الضياع في انتشاره منذ اجتماع سقيفة بني ساعدة و إرساء عمر ابن الخطاب لمبدأ خلافة رسول الله في الحكم الذي تحول إلى خلافة الله في العهد الأموي فالخليفة هنا هو ضل الله في الأرض و بالتالي فهو معصوم عن الخطأ و هو الذي يَسأل و لا يُسأل بينما كان المبدأ السياسي الحقيقي الواقعي البعيد كل البعد عن منطق تلك الإيديولوجية المموهة هو مبدأ العصبية القبلية كما بينه العلامة ابن خلدون الذي لم يُكفر إلى غاية اليوم من صانعي آتيكات التكفير و للاه الحمد.
إن جدلية الحاكم و المحكوم, الحاكم المنزه و الرعية الخاضعة تجري على أساس من توافق على مبادئ الحق كما جرى تأسيسها و تأويلها حسب الحاجات. هنا, الذات الحرة التي أسس لها الإسلام على مبدأ مقدس حي خالد يكسر الأصنام الحجرية و غيرها هو العبودية للاه الواحد الأحد دون شرك به - أي دون سواه - تمت صياغتها سياسيا بمبدأ إطاعة ولي الأمر فيما هو حق و الخروج عن الطاعة فيما هو معصية للاه أما التغييرات الهرمية فإنها كانت تجري بسفك الدماء على أساس الصراع القبلي المندرج تحت مصطلح العصبية القبلية الخلدوني. فالحق يضيع و يؤوب إلى نفسه في حركة صيرورته بأشكال الحكم الملكية الخلائفية الأميرية و التأويلات للإسلام أي الوعي السياسي المتلبس بالإسلام التي جرت عملية تمهيتها بالإسلام و هذا ما يسمى بالإستبداد القائم على السيف و القلم.
كانت حملة بونابرت على مصر ضربة مدوخة لمطرقة الحداثة على العقل العربي الذي تكلس و جمد و ملأت دهاليزه مساكن العناكب و مغاوير الأفاعي و الطحالب الناتجة عن الرطوبة. تراكمت فيه العفونة نتيجة الترك إلى أن هددته جحافل الفرنسيين بالهدم. فرنسا الأنوار و الحرية في تقابلية مع شرق القرون الوسطى المظلم. اللحظة الفارقة التي أنتجت الحقبة الاستعمارية الأوربية التقسيمية في الجغرافية السياسية العربية التي انتهت بعودة الوطن-الأوطان إلى شبه أصحابه فدخلت المنطقة إلى ما يمكن تسميته بالعصبية الحزبية و العصبية العسكرية التي انتهت إلى العصبية الفردانية المجسدة في الزعيم المؤسس على مقولة التضحية المسيحية في سبيل الشعب المنتهية إلى الاستبداد بمصير الشعب البعيدة عن محبة المسيح و إرهاب الزعيم البعيد عن تسامح الرسول محمد و رحمته...
الفراغ, الهوة و الإمتلاء الناقص. الذات مغتربة تحاول الرجوع إلى ذاتها على أساس الحق و قد تصادف نفسها و لكن ما أن تقترب منها حتى تهرب مولية الأدبار. تشنج عربي و توتر و ضياع سياسي اجتماعي ثقافي و كأنه إنسان معصوب العينين في أوقات السٌحر يتفسح. إنسان منهك بعقل طارت كل مقاييسه و لكنه متحفز لنهار جديد. خطاب سياسي متأرجح بين الحداثة و ما قبل الحداثة قائم على مقولات التقدم و التنمية و اللحاق بركب الغرب و لكنه في الوقت نفسه واحدية سياسية وتملك لما لا يمكن أبدا أن يمتلك و هو المطلق و الحقيقة المطلقة . أصنموا أنفسهم و ألهوها مهددين مصائر الشعوب التي شرعوا لأنفسهم التحكم فيها بالإرهاب بل منتهكين حرمة اللحظة الإسلامية التأسيسية القائمة على كسر الأصنام و كل القيود في عبودية مضمونها عشق الذات الإلهية. فإما أن تعبد الله فتكون حرا شريفا طاهرا أو تعبد الطاغوت فتكون عبدا ذليلا دنيئا مدنسا. تلك كانت التقابلية الإسلامية و قد تماهى الحاكم العربي مع صورة الطاغوت في الوقت الذي خيل إليه انه إلاه أو شبه إلاه يحكم دون محاسبة مشرعا لنفسه حريته الكاملة مقابل الإستعباد الكلي لأبناء الوطن فتحولت الأوطان إلى مزارع للسلطان و المواطنون إلى أبقار للإستحلاب و خراف معدة للذبح و كلاب معدة للحراسة...