كان في ريعان شبابه ولكن كان يعرف همسات الطريق على ركب المنايا وكانت بعض الاحيان احلامه لا تخونه وعند الصباح أفاق فرحاً وعلامات الفرح بانت على وجهه وهي كانت سبب انتباه للآخرين حيث قال الذين معه واخيراً تبسمت ؟ بعدما رفع رأسه وادار انظاره على الجميع رد قائلاً كيف لا ابتسم وقد كنت عطشان على رؤيتها وها هي البارحة اتت في منامي ثم اكمل حديثه ممتزجا بالابتسامة التي كانت تروي لهيب اشواقه لرؤيتها وكأنما بشروه بخبر الافراج وقال ما اطيبك يا اماه، ورفع اياديه الى السماء قائلا يا رب هل تحقق رؤياي؟ وهل تأتي أمي للقائي ؟ وهل اكحل ناظري برؤيتها؟ فاستتب السكوت على واحات الذكريات كي تكون تذكرة للعبور لتذهب بإفكارهم من خلف القضبان والى خارج السجن حيث عالم الحرية والى رؤية وجوه امهاتهم وفي عالم الخيال اللام يتناهي لانهم كانوا في ربيع اعمارهم ولكن هذا النوع من العبور والخوض في الهواء الطلق المؤقت لا يدوم وان طال، نادى صوت من اقصى العنبر واسرد اشرطة افكارهم والكل انتبه لهذا المنادي وهو ينادي »ريسان سواري« لديك زيارة فتراكضت الانظار عليه وقالوا صدقت يا »ريسان« كأن لم يكن له قرار ولا استقرار وبدأ خطواته على هرولة الاشتياق الظمآن الى الماء ولكن بعد الوصول والاقتراب من الحاجز الزجاجي خانته احلامه هذه المرة لانها لم تكن امه انما كان عمه وبعد السلام قال اين امي؟ لماذا لم تأت معك؟ هل حدث لها مكروه لا سمح الله؟ فرد عليه عمه قائلاً وهو يمسح دمعة تساقطت خلسة من طرف عينيه لا يابن اخي انها بخير ولكن لا تتحمل رؤياك وانت في هذه الحالة المزرية ألا تعرف قلب الوالدين؟ قال عماه لما لا ترتدي زيك العربي وانت آت إلى مقابلتي اني لم ارك سابقا في هذه الملابس فقال عمه يا »ريسان« انهم لا يسمحون لي بزيارتك وانا ارتدي الزي العربي فقال حسبنا الله ونعم الوكيل وألحق بكلامه يا عماه لا تكلف نفسك بالمجيء إلى هنا ثانية وترك الصالة راجعاً على مجمر من الآهات والحسرات من عدم رؤية امه الغالية، فكلكل الليل وافرش خيمته على ساحات الوجود وبدأت أغاريد طيور الظلام ورقد الحنين على زفرات انفاسه وابتدأ سفر الليل الى ثورة العشاق وحكايا الشموع في هذيان مدينة الشمس ورحيل النوارس من ضفاف نهر كارون وشط العرب وعلى عزوفة الثمانين وقطرات العرق التي سكنت على جبينه كانت تحكي عن آخر اشراقة في غده المحزن وفي هذه الاثناء افاقته يد لا تعرف الرحمة ابدا نعم كانت هي اليد نفسها التي افاقت »آلاف الابطال« من مضاجعهم والى ميادين الاعدام فقال له اصح يكفي النوم، فقال لهم »ريسان« الى اين فأجابوه الى حفلة العرس، فقال له صدقت يا هذا اقسم بالله انها احلى من العرس ذاته، وقال ريسان كلمته الشهيرة »وان واعدوكم بالموت واعدوهم بالفرج« وصارت ضجة كبيرة في كل العنبر وكأنما نفخ في الصور وقامت الساعة فسلم حاجياته الشخصية وسلم وصيته ونظر نظرته الاخيرة وقال سامحوني »وابرئوني الذمة« وعندها قام المأتم والنحيب فزأر زئير الاسد وقال ألا تخجلون من انفسكم لم هذا البكاء وانا في يوم عيد كهذا وخرج ومعه اغلاله وقيوده التي كانت تقبل كل لحظة يديه النحيلتين على هذه العزيمة والشموخ ثم اركبوه السيارة الخاصة للمحكوم عليهم بالإعدام وبعد طي مسافات وصلوا إلى ميدان الإعدام حيث كان المكان مليئاً بالحشود الغفيرة ان ميدان الاعدام في وسط المدينة وعندما رفعوا عن رأسه الكيس الأسود باتت عيناه تجول وتصول وراء اعز إنسان في حياته ولكن قبل ان تفشل في آخر مغامرة للتفقد وقعت عيناه على سوادة مرمية على التراب فمد النظر إليها وعرف أنها هي فقيدته امه الحبيبة فاقدة الوعي فقال يا اماه اقسم اني لم انساك طوال حياتي واهدى لها قبلة من بعيد وتصفح ذكرياته في النظرات الأخيرة وكان لم يتردد لحظة عن موقفه او يتراجع وصمد صمود الجبال امام الزوابع فقبل حبل المشنقة بكل فخر امام الجميع مرحباً بالشهادة واصبح رمزاً للنضال.