سياسة تفريغ الأجساد
العرّي الفكري والثقافي والعلّمي والسّياسي،يجعل الإنسان سابحا في مضارب الجهل،ويسقطه في جب الظلام الذاتي ،لا يجعله يرى من حوله لا من قريب ولا من بعيد، ويجعله يعيش في دائرة الفراغ الفكري والثقافي والنفسي والوجداني .
إن هذا العرّي الفاضح للأنظمة من مبادئ وأخلاقيات ،يفرغهم من ذواتهم ،ومن ذوات الآخرين ،ويصبح الانتماء لديهم مروحة تدور في فلك الفضاء الذاتي ،وفي دائرة تدور حولها آلاف الدورات ، تدور وتدور لتعود إليك لتسقطك في متاهاتهم وتجردك من كينونتك ،وتريدك أن تصبح جزءًا من كيانهم.
اليوم دارت بنا الدنيا ،ودارت عجلة التاريخ وقلّبْ صفحاتها ،وفتحت لنا صفحةً ملونةً بألوان قوس قزح البراقة ، المرسومة على وجوه جيل يحمل ورود الثورات لينثرها عطرا في دروب الملايين العطشى للحرية والتغيير.
ذلك الفراغ الذي ملأ القلوب عقودا من الزمن ،وزرع الذل والشوك في طرق الوصول إلى إثبات الذات ، إلى الشعور بكرامة الوجود ،إلى الشعور بكينونته وأنه جزءٌ من هذا الكيان القومي ،وقد كان بالأمس القريب يحمل جسده فارغا يسير به نحو المجهول ،وكانت تلك سياسة تفريغ الأجساد من محتوياتها الفكرية والسياسية والروحية ،لكي تسير على سراب الماء ، ويبقى التخبط بين ذاك الحس المزروع في أوردتهم ،وفي الحليب الذي رضعوه بالفطرة من أمهاتٍ لبسنّ ثوب الانتماء وحب الوطن الذي لا يقاس بثمن ٍ.
لم يدركوا أن سياسة تفريغ الأجساد من محتوياتها ،كانت تمتلئ من فتات الزمن ، وها قد حلَ الزمن الطافح بالانتماء والكرامة ، ،المصقول من ويلات الحروب ،ودماء الأطفال ، وسوط السّجان في السّجن ،وغول الجوع ،وألم الفراغ على قارعة الطريق .
مع شروق شمس عام جديد ، ونفحات شهر كانون ،ومع بزوغ غسق ليلكي.
وها هو الصمت يصرخ من قلب زقاق العدم ،يصرخ من قبور شهداء الحرية ،ومن حنجرة مصلوبة وراء قضبان حاكم أسدل الستائر، ولا يرى سوى خياله في مرآة التحجر والتعصب لفئة تدور حوله تحرسه وتنهش من الخيرات نهشا.
اليوم ...وما أجمل لونه في ميدان الحريات ، في ميدان التكافل والتكاتف في وجه الريح التي عصفت أعواما وأعوام ،ونرى الجسد البشري الواحد ،الملون بكل المدن ،بكل المحافظات ،يهتف بصوت منسوج من الم السنين . أتى اليوم ...ها هو قد أتى ليصنع التغيير في ميدان التحرير.
في الجانب الأخر في المعادلة الزمنية ،يقفون على حافة التوتر ،على حافة الهاوية ،يتأرجحون في مهب الريح كالقشة ،يتبادلون الاتهامات ويسقطون... ويسقطون
كلاعبي النرد يسقطون.